علي بهلول
في اللحظة التي سمعت فيها صوت الانفجار وعمّ الظلام غرفتي، كنت متأكداً أن المولدة الكهربائية قد احترقت، وأن هذا الصيف قد استفرد بي أخيراً.
نهضت من فراشي متثاقلاً، بحثت عن القداحة، تأففت، الأمر أشبه بالـ “15 رجلاً ماتوا من أجل صندوق”، تستطيع أن تثق بالسوري بأي شيء، إلا فيما يتعلّق بالقداحات، أشتري يومياً باكيت سجائر وخمس قداحات على التواتر، ما من سوري إلا ويحوي داخله مجرم قداحات صغير، حتى أبي الذي يتظاهر بعدم معرفته بأمر تدخيني يسرق مني القداحات، يعلم أني لن أجرؤ على مطالبته بها، بكل الأحوال سبق وأن دفع ثمنها، أنا أشتري من مصروفي الذي هو ماله في النهاية.
أزحت ستائر النافذة الكثيفة التي كانت تحجب النور تماماً، وتركت أشعة الشمس تدخل، أشعر وكأنها كانت تحتشد أمواجاً على ستائري بعد نزوح ضوئي طويل نحوي، وأنا الحاجز “ابن الحرام” الذي يذلها بالوقوف، لذلك تدخل كحديد منصهر، ضوء هادر، صاخب. بكل الأحوال يتوجب علي التوقف عن متابعة الأخبار حتى لا يستمر عقلي بخلق هذه الارتباطات، عملياتي الفكرية أصبحت أشبه بمصنع “الشعلة” السورية، ينتجون في هذا المصنع مواد عجيبة مهمتها إلصاق ما لا يلتصق ببعضه، الشعلة صناعة وطنية بحتة، تعمل على المبدأ المخابراتي العام في البلاد، إلصاق التهمة بمن لا تطابقه الجريمة، تباً تباً، علي التوقف عن متابعة الأخبار فقط.
الأصوات صاخبة في الخارج، والزحام أشبه بمتعاطين الهرمون، ينتفخ حتى تخاله سينفجر، كمثانة حافظ الأسد التي وصفها..، حسناً، سأصمت.
الموالون يقولون أن الله يحارب معهم لذلك أرسل لنا صيفاً قاسياً، هكذا تقول “منتهى”، لافظة أنفاسها الأخيرة الأشبه بعلبة سردين منتهية الصلاحية. المعارضون يقولون بل إن الله يحارب معهم ولذلك أرسل لنا صيفاً قاسياً، هكذا يقول “أبو العز”، ولا يلحق أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. أنا أقول أن الله يكره السوريين، لذلك أفضل الاعتقاد بعدم وجوده، لا أريد أن يكون هناك مشاكل شخصية بيننا، لأجل خاطر والداي أيضاً اللذان يحبانه، أكثر مني.
في الطريق باتجاه منزل “أبو تيمور” في حي القريات. صوت انفجار. قلبي ينبض بين صدغي.
مجموعة من الناس تركض، أركض معهم. “يقولون أسمه عيسى” يصرخ عجوز بجانبي، “عيسى؟!!” أصرخ متفاجئاً.
من عيسى؟!، ماذا لو كان أحمد مثلاً؟!، لماذا تفاجأت أنا أصلاً!
أمسك العجوز من كتفه، فيصرخ بي “من تظن نفسك، أمي، أبي، أبني، زوجتي، من؟!”
“أوووه!” قلتها وأنا أنثني، وأمط شفاهي كزرافة أصابها ضيق في التنفس، حدث ذلك بعد أن ركلني رجل مخابرات على خصيتي!
“لم أفهم!” تمتمت وأنا أكتشف لأول مرة وجود مخارج للحروف من الكلى.
صرخ “إنه يوم يفر المرء من أبيه..” صفعني، “وصاحبته وبنيه” ركل مرة أخرى، لكن هذه المرة كانت يداي تحوطان كيس الصفن تماماً، أقل حقوق اللاجئ أن يحمل معه هذا الكيس أينما ذهب، تباً!
أهرول بركبتين مرتجفتين، وجسد منحني، من هو عيسى؟!
متجاوزاً مدينة جرمانا في ريف دمشق مع الهاربين، وبالقرب من جسر الكبّاس، تمتد يد لتسحبني من ياقتي من بين كل الجموع، وما إن تقع عيني على الوجه أمامي حتى أصرخ، ولأول مرة أستخدم لساني بهذه الطريقة، أقصد هذه الرفرفة السريعة بين سقف حلقي وفكي السفلي كما كان يفعل لسان جارتنا أم صالح حين تزغرد، ولأول مرة أشاهد أبجديتي وكأنها كنزة مقلوبة، قبل أن أنطق بأسماء الآلهة أجمعهم، بدءاً من أسطورة الخلق اليونانية، وانتهاء بالله الواحد الأحد، الذي وحّد شتات شملهم.
“اعتقدت أنك قتلت!!” صرخت أنا.
“أنا لم أقتل يا جورة الخراء!” صرخ خالد مبهوتاً.
“جميعنا اعتقد أنك قتلت، حتى والدتك، يمكنك أن تحذف جورة الخراء هذه. أنا أيضاً بكيت عليك أيها السافل، يمكنك أن تعتذر الآن” قلت أنا منفعلاً.
“أقف هنا منذ ستة أشهر بانتظار وسيلة نقل، سيارة، دراجة، أي شيء، لا أحد يوصلني يا رجل” يشرح لي خالد.
“لقد طبعنا لك بوستراً كبيراً، ولقبناك بطلاً أيها السافل، لم نستلم جثتك، لا أحد يعرفك، والدك مزّق فروة رأسه” صرخت أنا مجدداً.
شَحُبَ خالد، ازرقت شفتاه، تعرّق سريعاً، وبدى أنه يخسر كيلوغراماً من وزنه مع كل خفقة قلب.
مذعوراً أسأله “ما الذي يحصل؟!”
استند إلى بلوكات كانت على الرصيف “لا أدري، كنت في باص نقل داخلي، حين سقطت قذيفة قريبة، انقلب الباص عدّة مرات، لا أدري كم رأساً هرست بركبتي أثناءها، لا أدري كم شخصاً قتلت، كنت متعباً جداً حين خرجت من بين صفائح الباص المتكورة على بعضها كمسودة مُزّقَت على عجل، لم أستطع أن أكمل الطريق مشياً، وأنا لا أدري كم شخصاً قتلت، وكم شخص قتلني”.
“قتلك؟!” كل حرف من هذه الكلمة مزّق جزء من رئتي حتى اكتمل.
نحف خالد بسرعة، وجهه مال إلى لون الفحم، وبينما كان يقسم لي بصوت باكي أنه لم يمت، سقطت شفته السفلى، بدى أشبه بهيكل عظمي، فجوات في رأسه أصبحت أكثر وضوحاً، واضحة جداً حتى وأنا أبتعد عنه مغشياً على بصري، كنت أستطيع رؤيتها بوضوح مزعج، فجوات على شكل الاهتراء في فروة رأس والده.
خالد يجهش “أرجوك لا تبتعد، يقولون أن مهرباً هنا اسمه عيسى، سينقلنا إلى مكانٍ آمن”
يرعد صوت لرجل على الضفة الأخرى “أيها المسيح!.. ردّ لي بلائي والخطايا، لم يكن هذا الخلاص الذي اشتهيه” ومن بعيد بدى لي وكأن صاحب الصوت كان أبو العز.
أعودُ.. بخطىً تتهجى طريقها بثقلٍ كنبوءة..
أخلع أبواب منزلي بعد أن تنكرت جميع أقفاله لمفاتيحي..
أفتش ملابسي، دروجي، مخابئي السرية، أنخر بضيق، أقشر طلاء الجدران بأظافري، الكثير من رسومات الطفولة خلفها، لا بد أن أجده، شيء ما هنا، شيء شيء، شيء لا أذكره، يا الله!.
في اللحظة التي سمعت فيها صوت الانفجار وعمّ الظلام غرفتي، اعتقدت أن المولدة الكهربائية قد احترقت، لم يخطر ببالي أبداً، أن صاروخاً عشوائياً غبياً، قد قتلني.