في مسرحية “العنف” للفاضل الجعايبي وجليلة بكار المقدمة في مسرح المدينة في بيروت، يجد المتلقي نفسه أمام عرض مسرحي قد يبتعد عنه بلهجته التونسية المليئة بالمفردات الفرنسية، لكنه يقترب منه بالفكرة والأداء، فما قدمه المسرح الوطني التونسي (المسرح الشاب)، تجاوز المحلي الضيق نحو الإنساني الأشمل.
يقدم نص المسرحية الذي كتبته بكّار مجموعة أقاصيص حول العنف الممارَس في المجتمع التونسي بعيد الثورة. القصص لا تطرح العنف بشكل مباشر على الخشبة، بل هي تعود بالشخصيات إلى زمان ارتكاب الفعل العنفي، سببه ونتائجه، ومدى جذريته في النفس البشرية. في القصة الأولى نرى مقابلة بين باحثة اجتماعية شابة، وبين “فاطمة” المرأة الهرمة التي دخلت السجن لقتلها زوجها “حسين” وهو يقرأ، لا يعرف المتلقي لمَ قتلت فاطمة حسين، ما يظهر هو كم العنف الذي مورس على فاطمة حتى بدت هيكلاً لامرأة أخذت منها الحياة ما أخذت. لا يقف العنف الممارَس على فاطمة عند حدود العنف الجسدي، بل طال تفكير فاطمة، ماضيها ومستقبلها، وذاكرتها التي جعل منها الحَجْر/العنف مجموعة صور مشتتة لا تعرف فيها فاطمة إذا ما قتلت زوجها أم سائق التاكسي الذي حاول اغتصابها.
في الحالة الثانية التي تقدمها بكار لا يطال العنف الماضي كما حالة فاطمة، بل يطال الحاضر. العنف هنا هو سطوة “الطبيعي” على “الشاذ” وسلطة “السوي” على “غير السوي”، هذا هو العنف الذي يتعرض له “أيمن” مثلي الجنس الذي قتل عشيقه بعدما أنهى الأخير العلاقة بينهما لأنه يريد الزواج من “سيدة محترمة”، اجتاحت العواطف الأول فقتل عشيقه، واقتيد إلى التحقيق، ليس للقتل وحسب، بل لمثليته المحرَّمة في المجتمع. العنف هنا يطال “الجندر”، يطال الخيار الجنسي للفرد البشري، العنف هو منع الإرادة الحرة للفرد، وما العنف الظاهر في غرفة التحقيق على خشبة المسرح أمامنا إلا رمزاً عن العنف اليومي الذي يتعرض له المثليون في بلادنا.
أربعة شبان قتلوا مدرّسة الفلسفة في مدرستهم ونكلوا بجثتها، يصلح هذا العنوان للقصة الثالثة في العرض، فهذا فعلاً حصل مع الطلاب الأربعة في المدرسة، قتلوا مدرسة الفلسفة وألقوا بجثتها من علٍ، ما نراه على الخشبة هو التحقيق مع هؤلاء الطلاب، التحقيق يتخذ شكل المحاسبة في المدارس التقليدية، الوقوف بانتظام، الضرب المبرّح بالعصي للطالب، التعنيف عن طريق الكلام، كذلك يتحول التحقيق إلى صورة مستنسخة عن العنف الحاصل في مدارسنا، يذهب فيه الجعايبي وبكار بعيدا في العنف والعنف المضاد، التعنيف في المدرسة والعنف الناتج عنه، فبعدما يروي العرض الشراسة التي تعامل فيها الطلاب مع مدرّستهم، يعرض أسباب هذا العنف وجذوره في المؤسسة التعليمية.
آخر الحكايا العنيفة كانت مع جليلة بكار ذاتها، باسمها وبمسافة مضبوطة مع الشخصية، تقدم جليلة شخصية جليلة التي سُجنت لعملها المسرحي الممنوع، صدر عفو رئاسي يطلق سراحها، لكن ترفضه وتؤثر الرقص في باحة السجن/المسرح، على قبول مكرمة السيد/الرئيس، العنف الذي ترد فيه جليلة هو المسرح، الأداء المنفجر على الخشبة، تدخن سيجارة الحشيش مع المثلي، يستهزئان بالسلطات، كل السلطات، وتنطلق بعدها جليلة لتتحرر من جسدها على المسرح، فيغدوا عنفها المضاد رقصاً وانعتاقاً.
لا يقف صاحب “فاميليا” في إخراجه لهذه الأقاصيص عند حدود تقديم العنف الجسدي ــ وهو الذي يقدمه في أكثر من مكان ــ لا بل من يقرأ العرض من هذا المنظور سيجد أن الجعايبي قدم حالات مختلفة من العنف اليومي وحسب، وهذا ما تجاوزه عرض “العنف” بفضائه المسرحي القائم على محاكاة مؤسسات السلطة الأشد عنفاً (السجن، المدرسة، المشفى)، ففي فضاء مبني على كتلتين من الاسمت يتوسطهما ممر ضيق، ووضع على واجهتهما كراس خشبية كالتي توضع في الحدائق العامة، وفي مقدمة الخشبة أمام الممر طاولة على طرفيها كرسيان يتوسط بين الجالسين عليهما لوح زجاج مغبر في دلالة على هشاشة المجتمع ككل.
العنف الذي ترد فيه جليلة هو المسرح، الأداء المنفجر على الخشبة، تدخن سيجارة الحشيش مع المثلي، يستهزئان بالسلطات، كل السلطات، وتنطلق بعدها جليلة لتتحرر من جسدها على المسرح، فيغدوا عنفها المضاد رقصاً وانعتاقاً.
يتبدل الفضاء بحسب القصة، بداية يحمل قصة فاطمة، لا يمكن قراءة المكان هنا على أنه سجن بقدر ما هو مشفى مجانين أحيلت إليه فاطمة، يمارس فيه أشد أنواع العنف الإنساني، عنف “العقل” على “الجنون”. بذات الجذرية في الطرح، يتناول العرض عنف “الأسوياء” على “غير الأسوياء” في مشهد المثلي والمحقق. المشفى يستحيل إلى مكان سلطوي أشد، السجن وغرفة التحقيق بدلا من غرفة اللقاء مع المحظور/المجنون، وعلى الطاولة في المنتصف، كما المشهد السابق، يجلس المُعنِّف والمُعنَّف، العاقل هناك هو المحقق هنا، والمجنون هو المثلي. لا يحمل مشهد التحقيق عنفاً مباشراً، بل يحمل عنفاً رمزياً يمارسه “السوي” على “غير السوي”.
بعكس السابق يحمل مشهد المدرسة عنفا جسدياً مباشراً، العنف هنا هو الذي يحيل المكان إلى المدرسة، تموضع الطلاب المتهمين بقتل المدرسة بانتظام، شكل العنف الممارَس من قبل المحققة كان أقرب لعنف المدرسة منه لعنف غرف التحقيق، كذلك الحال مع المحقق الكبير في السن، للعنف عنده صورة أبوية كتلك التي يمتلكها مدير المدرسة، كذلك صراع الطلاب المتهمين بين بعضهم حينما بقوا وحيدين، كان مطابقا لصراع الأطفال بين بعضهم في المدرسة حينما يرتكبون فعلا جماعياً مشيناً وينتظرون العقاب. بينما في مشهد جليلة في النهاية، ينفتح المكان على كل الاحتمالات، إنه عنف الواقع المعيش، المجتمع كمؤسسة عنفية واسعة، والرقص في الفراغ كتعبير أخير عن العنف اليومي. كل ذلك رسمه الجعايبي بإضاءة عكست قتامة وكآبة الواقع، ومعتمداً على موسيقا حية ساهمت في ضبط الإيقاع المترهل في بعض الأماكن، فرغم متانة كل ما سبَق، إلا أن هناك وتراً ارتخى في إيقاع العرض، ظهر ذلك في مواقع عدة منها قصة الأم زهرة التي قتلت ولدها ووضعته في الفرن التي شابها الكثير من التفاصيل الزائدة.
لا معنى لكل هذا الحفر الفكري لولا أداء متماسك أدوه جليلة بكار ورفاقها من جيلين: الأول جيل مسرح الجعايبي المحترف، جيل لديه خبرة عالية تمثلت بأداء كل من “فاطمة بن سعيدان، نعمان حمدة..” وخبرتهم في اللعب بين مستويين مختلفين من الأداء (واقعي/ملحمي)، وجيل جديد شاب واعد، كان أداء الشاب المثلي “أيمن الماجري” المتمكن مثالا له، إذ لم يستسهل الماجري في تقديم الشخصية المثلية بأنْ وقف عند رسم حدودها المباشرة، بل قدّم شخصية مثلية حيّة، تعيش في مجتمع تعنَّف فيه يومياً.
نهايةً، توجب الوقوف عند العري في العرض، المحقق عاري الصدر، وفاطمة المرأة المسنة عارية هي الأخرى، المثلي عارٍ أيضاً، لم يكن هذا العري مجانياً، هو عري عنفنا في المجتمع، وضوحه، عري العنف الذي قدمه صاحب “خمسون” هو عري المجتمع التونسي بعد الثورة أمام مؤسسات السلطة التي لم تسحقها الثورة كما كان مأمولاً، حالها حال باقي الثورات العربية، عاريةً أمام العنف الذي يعصف فيها من كل صوب.