لم أستطع يوماً أن أحدّد السبب في علاقتي القلقة بالمسرح، الفتور تجاه حضور مسرحية ما في وقت أنجذب فيه لنصّها، قراءةً. وأنا مدرك بأنّ النصوص هذه كُتبت لتُؤدى على الخشبة لا لتُقرأ، كما أنّ سيناريوهات الأفلام كُتبت ليتم إخراجها في فيلم لا لتُقرأ، وإن تواجدت كتب لنصوص السيناريوهات كما كتب للمسرحيات على أرفف المكتبات.
لهذا ربّما يبقى المسرح، كما السينما، ضمن تصنيفات الفنون، ويبقى الأدب أدباً يُقرأ. لم أستطع أن أحدّد، تماماً، انجذابي للسينما غير المرفق بانجذاب للمسرح، لي أسبابي الخاصة في الانجذاب للسينما، لكنّ في هذه الأخيرة ما هو، بنيوياً، غير موجود في المسرح، ما فرّق، عندي، بين الاثنين.
قبل فترة، وضمن المواد الإضافية في DVD فيلم «أوثيلّو» (١٩٥٢) للمخرج الأميركي أورسون ويلز، شاهدت مقابلة أُجريت معه، وهو أحد أهم المخرجين في تاريخ السينما حتى اليوم، وكانت المقابلة تخصّ السينما والمسرح في ضوء فيلمه المأخوذ عن مسرحية ويليام شيكسبير. وجدت فيها ما حدّد، فعلاً، السبب الرئيسي لتلك العلاقة القلقة، الرغبة غير المتحققة في مشاهدة مسرحية في مدينة تولوز الممتلئة بالمسارح وبمسرحيات محليّة وعالمية منها لبريخت ومنها لتشيخوف ومنها لبيكيت وآخرين. أمرّ أمام الملصق في الشارع، أنظر إليه وأقول بأني سأشاهدها، لن تكون اللغة عائقاً، خاصة إن كنت أعرف نصّ المسرحية مسبقاً، أقرّر وأمشي مبتعداً عن الملصق لأنسى، بعدها، ما قرّرته.
يقول ويلز أنّ المسرحيّة “تكون للجمهور، الفيلم يكون لك”، ما يعطي المسرحية بعداً جماعياً والفيلم بعداً شخصياً، ومشاهدة مسرحية يعني أن يكون المشاهد واحداً ضمن جماعة تجمع هذه المسرحية بينه وبينها. فتلقّي المسرحية لا يكون إلا جماعياً، ضمن جمهور، وتلقّي الفيلم، وإن كان في صالة ممتلئة، يبقى تلقياً فردياً، الفيلم لا يجمع بين مشاهديه (لا أقول جمهوره) كونه يُعرض ألف مرّة في اليوم عينه في عدّة مدن، وآلاف المرات في أيام أخرى، ومئات الآلاف في بلدان أخرى، وأضعاف ذلك في العالم كلّه ضمن وسائط أخرى لا تتطلب الذهاب إلى صالات السينما.
يقول أن “مشاهدة الفيلم شخصي لأن ليس هنالك ما يُسمّى جمهور الفيلم، من المستحيل إدراك هذا الجمهور، إنّه يتكوّن من ٢٠٠ من البربر على الجهة الأخرى من الأطلسي، مجموعة من المثقفين في السينماتيك في أثينا، ٧٠٠ من الطبقة الوسطى ممن صوّتوا لنيكسون، شخص واحد ينظر إلى التلفزيون، لذلك فلا وجود للجمهور (Audience).”
كلام ويلز هذا نبّهني إلى علاقة العمل الفني المعروض بجمهوره، فيلماً كان أم مسرحية. وطبيعة المسرحية، إذ تتطلب جمهوراً متفاعلاً، فيه ما يجمع أفرادَه، جعل علاقتي بها فاترة، لا تتخطى الإعجاب عن بعد، دون خطوة مني تجاهها، خطوة أو اثنتين أو عشرة أصل فيها إلى واحد من المسارح المنتشرة في المدينة وأقطع تذكرة، كواحد من أهالي المدينة، مَن تخاطبهم المسرحية، هم دون غيرهم.
الفيلم، حين أشاهده، يخاطبني شخصياً (ككل مُشاهد لأي فيلم)، المسرحية تخاطبني كواحد من جمهور قد يُطلب منه التفاعل، جماعياً، معها. الفيلم يقبل بفرديّة متلقّيه، بل لا يقبل بغيرها، والمسرحية لا تقبل بغير انتماء جماعي للمتلقّي. الفيلم لا يكترث بمكان المتلقي ولا بعلاقته بمكانه، المسرحية تُوجَّه لجماعة ضمن مكان وزمان معيْنين، تنتمي الجماعة لهما.
عرفت أخيراً أني لا أجدني واحداً من هؤلاء الأهالي، المجتمع المحلي، التولوزانيّين. لا أجدني واحداً من بين مَن تود فرقة مسرحية مخاطبتهم كجماعة، بل أجدني واحداً منفصلاً عمّن حوله، يتلقى الفيلم في صالة سينما ممتلئة بالمشاهدين، أتلقاه كواحد يُعرض الفيلم له هو، أكانت القاعة ممتلئة كما في مساء يوم سبت شتوي أو فارغة كما في ليلة رأس السنة.
لا أعرف إن كانت صدفةً أن يذكر ويلز هذه الأسماء حين يقول “من المستحيل أن توجّه نفسك (كمخرج) إلى جمهور، تخاطبهم، إلا إن كنت كـ غودار أو فلّيني أو بيرغمان، فتوجّه نفسك لجمهور محدد.” فالفرنسي جان-لوك غودار والسويدي إينغمار بيرغمان تحديداً، والإيطالي فيديريكو فلّيني، من بين الأفضل لديّ، وأفلامهم فعلاً ليست “جماهيرية” (لا بالمعنى السينمائي ولا المسرحي) وعرض أحدها في صالة ما، اليوم، سيجذب جمهوراً محدّداً شاهد، غالباً، الأفلام من قبل.
وهذه الأمثلة هي من بين الأكثر بعداً، في السينما، عن المسرح من حيث الجمهور كمتلقي جماعي للعمل، فأعمالهم ذاتيّة تُوجَّه، حتى، إلى أنفسهم قبل أن تُوجَّه، بالكاد، إلى مُشاهد واحد، ضمن الجمهور المحدَّد، مفرد، منفصل عن الجموع.
يكمل ويلز، وهو كذلك اسم رابع يُضاف إلى المخرجين الثلاثة، حديثَه قائلاً أنّه لا يفعل كهؤلاء حين يشتغل على مسرحية، فـ “حين أنجز مسرحية أوجّه نفسي إلى جمهور تلك المدينة، في تلك السنة. عندما أنجز فيلماً، فأنا أنجز فيلماً وحسب”.
أعرف الآن أنّي، وقد كنت مصيباً، في فتوري تجاه المسرح، وانجذابي للسينما، أملك أسباباً عدّة، لكنّ البنيويّ منها هو طبيعة كل من الفيلم والمسرحية، ونوعية التلقي لهما: الفيلم، حين أشاهده، يخاطبني شخصياً (ككل مُشاهد لأي فيلم)، المسرحية تخاطبني كواحد من جمهور قد يُطلب منه التفاعل، جماعياً، معها. الفيلم يقبل بفرديّة متلقّيه، بل لا يقبل بغيرها، والمسرحية لا تقبل بغير انتماء جماعي للمتلقّي. الفيلم لا يكترث بمكان المتلقي ولا بعلاقته بمكانه، المسرحية تُوجَّه لجماعة ضمن مكان وزمان معيْنين، تنتمي الجماعة لهما.
لا أطالب نفسي بالانتماء إلى جمهور أو مجتمع أو أهالي هذه المدينة، كما أنه لم يحصل أن وجدتني منتمياً لأي مدينة أخرى. لكنّي كذلك لن أتساءل مجدّداً لمَ، حين أرى ملصقاً لمسرحية سيبدو جميلاً أن تُشاهد، لا أذهب لأقطع تذكرة وأجلس، وحيداً غالباً، منتظراً بدء العرض.