يُعتَبر “المُسافر”، الروائي الطويل الأول للّبناني هادي غندور، نموذجاً مقبولاً لفيلمٍ سينمائي لبناني، يُوازِن بين معالجة درامية لموضوع إنساني، وشكلٍ بصري مُبسَط في تناوله المعالجة، يلتقيان معاً في سرد حكاية معروفة عن علاقة صدامية ومعقَدة بين شرق وغرب، يعيشها لبناني يجد نفسه، فجأة، في باريس، لأيامٍ قليلة، في رحلة عمل، تتحوّل، لاحقاً، إلى مساحة زمنية وجغرافية وروحية، تتيح له اكتشاف ذاته عبر المدينة ومتاهاتها، وعبر أناس، يعرفهم أو يلتقيهم أو يتعرّف إليهم، وعبر تفاصيل عيشهم وعلاقاتهم (مع أنفسهم والآخرين) ومسالكهم اليومية.
علاقتان صداميتان
والعلاقة هذه تكشف، في مساراتها، علاقة أخرى، لن تكون أقلّ تعقيداً وصدامية من الأولى. فهي، إذْ ترتبط بفرد لبناني، تُظهِر ارتباكاً حاصلاً بين الفرد وذاته، وبينه وبين محيط متكامل يُقيم فيه، ويتواصل ـ بطرق عديدة ـ مع ناسه وثقافته ومفاهيمه. وهذا في بلد يخضع جزءٌ أساسي منه لقواعد محافظة في الاجتماع اللبناني، تنبثق من سلوك تربوي متوارث، يقضي ـ من بين أمور عديدة أخرى ـ بزواج مدبّر، يقرأ “المُسافر” نتائجه النفسية والفكرية والإنسانية، من دون أي تورّط بأي تحليلٍ ثقافي أو سيكولوجي أو سوسيولوجي، ومن دون اتّخاذ أي موقف، أو إطلاق أي حكم.
ذلك أن “المُسافر” مكتفٍ بسرد الحكاية، وإنْ يُتقن ـ إلى حدّ كبير ـ التلميح إلى هذا المتوارث، بذكاء بصريّ، يهتمّ أساساً بالبناء المتكامل للصنيع السينمائيّ برمّته. فالرحلة كفيلة بكشف العلاقتين المعقّدتين والمتداخلتين، إحداهما بالأخرى: علاقة الرجل بالمدينة، وبذاته. والعلاقة الأولى مدخل إلى تبيان معالم العلاقة الثانية، في مزيج سينمائي يُبسِّط الأمور، فنياً وجمالياً، كي يحافظ الفيلم على كينونته كنصٍّ سينمائيّ متماسك في سردٍ منطقيّ للحكاية.
وفي مقابل ابتعاد “المُسافر” عن تحليل علاقة الفرد بذاته، يبتعد أيضاً عن تحليل الصدام القائم بين شرق وغرب. فالهمّ إنساني بحت، يتمثّل بمرافقة الشخصية الرئيسية في رحلتها إلى “مدينة الأنوار”، وإنْ تنفتح الرحلة على العلاقتين معاً، في صدامهما وتعقيداتهما. فسرد حكاية عدنان (رودريغ سليمان)، الموظّف في شركة سياحة وسفر، والمُكلّف بعملٍ في باريس، لن يستقيم ـ درامياً وذاتياً وحياتياً ـ من دون تفكيك الشخصية، وفهم ملامحها وارتباكاتها وقلقها وتمزّقاتها. والسرد نفسه ينفتح، تلقائياً، على العلاقة الصدامية بين شرقٍ وغربٍ، من خلال سلوك عدنان إزاء المدينة وفضاءاتها ومتاهاتها وعماراتها وأضوائها ولياليها، وإزاء أناس مختلفي الأمزجة، ومتنوّعي المسالك في يوميات عيشهم في المدينة.
بهذا، يتململ المبطّن والمخفيّ في ذات عدنان، ويبدآن بالتمدّد في مظهره وسلوكه وانفعالاته. فهو، إذْ يخضع لابتزاز بيئة واجتماع وثقافة عيشٍ تقليدية جداً، ينتبه إلى رفضٍ لاواعٍ فيه للمفروض عليه. لكن الرفض ـ المحتاج أصلاً إلى وقتٍ زمني ومعرفي وحسّي كي يكتمل، أو كي يظهر على الأقل ـ يعجز عن الانفضاض على المرفوض، لاستحالة الخاضع له في مقاومته ونبذه، بل في تحديده والاعتراف به أولاً، لشدّة حضوره في الوجدان الجماعي والسلوك الفردي. في حين أن العلاقة الصدامية بينه وبين المدينة الغربية، لن تُساعده في مُصارحة نفسه برفض المفروض، لأنه عاجزٌ عن التأقلم مع المدينة وحيويتها واختلافها وتناقضاتها مع بيئته الأصلية.
فعدنان، الغارق في ملذّات المدينة (الجديدة عليه) وإمكانياتها على منح الفرد خيارات كثيرة، يتعاطى مع المدينة بلهفة تُعْمِيه عن التنبّه إلى مصائب الانخراط في نقيض المألوف. أو ربما ينتبه إلى قوّة المألوف، التي تمنعه عن التمتّع العميق بانخراطه في نقيض المعتاد والمألوف. لذا، تُصبح العودة إلى المألوف مطلباً روحياً، وإنْ غير واعٍ، لأنها أسهل من كسر المألوف، وأضمن لروحه وسلوكه ورتابة عيشه. أي أن قبول المرفوض أهين من رفضه العلني، المتمثّل بالخروج عليه.
لا سجال بل سينما
المفارقة الجميلة كامنة في أن “المُسافر”، نصاً ومعالجة، يبتعد عن كل سجال فكريّ أو ثقافي أو سوسيولوجي أو سيكولوجيّ، لانهماكه الإبداعي في مقاربة أحوال فرد مُقيم في قلقه ومخاوفه وارتباكاته وآلامه الخاصّة، وفيما يُشبه “سكينةً” تنكشف كوهمٍ لا خلاص منه. ولانشغاله، أيضاً، في ابتكار لحظات سينمائية، تُضاف إلى نواة حكائية مبنية على عوالم داخلية وخارجية، أي على نفوس ومدن وأرواح وشوارع، كما على انكسارات وخيبات لن تقتصر على عدنان، القادم إلى باريس لأيامٍ معدودة، لأن مقيمين فيها يعانون انكسارات وخيبات بأشكال أخرى، في مقابل انغماس آخرين فيها حتى الثمالة.
في باريس، يلتقي عدنان بقريبة له تُدعى إنصاف (عايدة صبرا)، أرملة تعيش هناك منذ سنين بعيدة، مع ابنتها ليلى (دنيا إدن)، التي تتذكّر القليل جداً من لبنان، والتي تُغادره في الرابعة من عمرها. الموروث مُقيمٌ في إنصاف، لكنه عاجزٌ عن إخضاع ليلى لقوانينه. وهذا، ربما، ما يستفزّ عدنان، الذي يكتشف، أمام ليلى، شخصاً آخر فيه. يحاول التقرّب منها، فتصدّه لاهتماماتها اليومية الخاصّة بها. يلاحقها. يلتقي معارف لها، قبل أن يتعرّف إلى آخرين، ينغمس معهم في ملذّات لن يتذوّقها في بيئته المرفوضة، لا قبل باريس ولا بعدها. وهو، في شوارع المدينة وثقل تاريخها وحيويتها ونمط عيشها، يضيع ويتوه ويحاول، مراراً، الانقلاب على ذاته الأولى من أجل فهم ذاته الثانية، لكنه يزداد غرقاً في الأولى، ويصطدم كثيراً بالثانية، العاجزة عن إخراجه من مرفوض مفروض عليه، لعجز نواتها الأساسية، أصلاً، عن أن تكتمل.
لكن لـ “المُسافر” هنات، لن تحول دون مُشاهدة مقبولة. فمشهد الأغراض الكثيرة، التي يُراد لعدنان أن يأخذها لأقارب جيرانه في باريس، مبالغٌ به شكلاً وتمثيلاً وحضوراً، رغم ظهوره كأنه لقطة ساخرة عن حالة متفشية، قديماً، في لبنان الحرب الأهلية، أو ربما في لبنان الراهن، وإنْ بشكل أقلّ. والمواجهة البدنية بين عدنان وأستاذ الرسم الفرنسي غير مشغول بحرفية مهنية، إذْ يحتاج إلى أداء أقوى يُعبِّر، فعلياً، عن تمزّق عدنان، ودهشة ليلى من ملاحقته إياها إلى صفّ الرسم، وصدمة الأستاذ الفرنسي من المشهد برمّته. بالإضافة إلى بعض التصّنع في أداء شخصية عدنان، خصوصاً في لحظات صدامه مع باريس، ومع أحوال العيش فيها.
هناتٌ كهذه لن تمنع مُشاهداً محترفاً من التنبّه إلى فصولٍ كثيرة في “المُسافر”، تمتلك شيئاً من حيوية سينمائية، في سرد حكاية فردٍ يريد خلاصاً، لكنه يعجز عن الخروج من بؤس انتمائه إلى بيئة لا يريدها، ولا ينقلب عليها، رغم انبهارٍ ملتبس بجمال يعثر عليه في باريس، المدينة الأقدر على ممارسة غواية، يُعطّلها عجز مُكتشفها عن التمتّع بها.