لطالما اعتُبرت قصيدة النثر من الأنماط الأدبية الدخيلة على الساحة الثقافية العربية، وكانت محط إشكالية وجدال بين الكثير من المثقفين والقراء، رغم أنها قدمت أصواتاً احتفى بها المشهد الشعري، منذ أن بدأت تتبلور معالمها بشكل واضح خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي في مدينة “بيروت”، التي كانت تُعد محجاً لشعراء قصيدة النثر، وأفرزت تجارب مهمة كانت بمثابة المؤسس للمرحلة الحالية.
وخلال السنوات الست الفائتة حضرت قصيدة النثر بقوة عبر موقع “فيسبوك”، وتمكنت المنصة الزرقاء من تعريف القارئ العربي بأسماء جديدة برزت بالتزامن مع مرحلة “الربيع العربي”، وموجة العنف التي تضرب المنطقة بشكل عام. موقع “رمان” أجرى تحقيقاً بمشاركة الشعراء، السوري أحمد قطليش، العراقي عمر الجفال، والفلسطيني طارق العربي، تحدثوا من خلاله عن قصيدة النثر، والأصوات الجديدة خلال المرحلة الحالية.
السؤال الأول كان حول رؤية الشعراء المشاركين في التحقيق لقصيدة النثر التي اشتغلتها الأصوات الشابة خلال السنوات السبع الفائتة بالتزامن مع مرحلة الربيع العربي. يعتبر عمر الجفال أن “هناك تطوّر وانحدار في آن واحد في السنوات الأخيرة، لكن يبدو أن الانحدار هو السمة الأبرز. فاليوم نجد الكثير من القصائد وكأن شخصاً واحداً كتبها”.
ويضيف الجفال “هناك عودة مثلاً إلى استنهاض محمد الماغوط والاستعارة منه، ومن مفرداته وأدواته وحتى موضوعاته، وأيضاً هناك انصياع للشِعر المترجم، ليس التأثر به وإنما تقليده بشكل فج، إلا أنه مقابل هذا الركام هناك أصوات فردية، أصغت للأنا المنكسرة التي تعبر بطبيعة الحال عن الأنوات الأخرى في المجتمع، وأجلستها في المختبر الشعري، وعبرت عن الانكسار الجماعي الذي نعيشه اليوم بصور واستعارات وكنايات عميقة ويومية”.
فيما يقول أحمد قطليش في إجابته على السؤال عينه أنه: “قبل سبع سنوات كنت لا أزال في بداية تعرفي على قصيدة النثر، الأمر الواضح جداً بعد تلك المرحلة هو انخفاض أو انتهاء الهجوم على قصيدة النثر وتسميتها. ولم تعد المساحة الشعرية تشهد صراعات حول قصيدة النثر كونها من الشعر أم لا. وأصبح هنالك تراجع ما لدى كتّاب قصيدة البحر الذين أصبحوا أقلية، بأساليبهم التي لا تستطيع أبداً أن تتفاعل مع المتغيرات الإنسانية الكبيرة على عدة مستويات. وأصبحت قصيدة النثر عموماً والتفعيلة أحياناً مساحة لعب كبيرة على التفاصيل التي انفجرت من كل مكان… حتى أن العديد من التجارب بدأت تتناسخ أساليب التقاط القصيدة لدى بعض روادها وأصبح هناك فائض كبير لكن التجارب الخاصة فيه قليلة”.
ويعتبر طارق العربي أن قصيدة النثر “لم تتغير في السنوات السابقة أو سنوات الربيع العربي، المشتغلين في قصيدة النثر أكثر من السابق. أسماء جديد شابة أكثر أتصالاً بحياتها وواقعها برزت في المشهد الشعري العربي في السنوات الماضية. وبمساعدة وسائل الاتصال الاجتماعي أمسى النشر والوصول للمتلقي أسهل من السابق. أيضاً وفرت وسائل الاتصال الاجتماعي ما يشبه الحراك الدائم أو معملاً جماعياً يشتغل به المشتغلون على قصيدة النثر. في السابق كانت بيروت هي مكان المعمل”.
ويضيف العربي قائلاً إن “الأسماء البارزة في المشهد النثري العربي، هي امتداد لشعراء آخرين من ماضي بيروت، وما يلفت الانتباه هو أن قصيدة النثر ازدهرت في الحرب، ازدهرت في الموت. زاد كتابها وجمهروها أيضاً ازداد. وهذا من شأنه أن يضاعف العلاقة بين الكاتب ونصه، بحيث يصبح الشغل على قصيدة النثر أكثر”.
وعن مدى تأثر النصوص الجديدة بمصطلحات العنف المرافق ليومياتنا، أم أنها على العكس من ذلك وجدت نفسها بعيدة عنها، يظن قطليش أن “شعراء قصيدة النثر في العراق تأثروا بهذه المصطلحات أكثر من الشعراء السوريين مع وجودها بشكل فج عالياً، وغير مخدم بحيث تفقد هذه المفردات قدرتها على التأثير النفسي مما يجعل الشعر المبني عليها اعتيادي كما نعتاد أعداد القتلى في الأخبار، وهذا ما يذهب بالقصيدة إلى الهاوية”، ويضيف في الصدد ذاته أن “هناك بعض من استطاعوا تخديمها بقدرة عالية لكن أصبح الصعود عليها للوصول إلى القصيدة المتفاعلة مع الناس أمراً مبتذلاً”.
في حين يقول الجفال “لا بدّ أن يتسلل العنف اليومي الذي يشاهده الجميع ويحسه ويخبره وينجو منه إلى الشعر… الشِعر يتأثر بمحيطه، ينطلق من إحساس الخوف، والوحدة، ومجهول الموت، والأسئلة الوجودية. لكن الخطير أن تتفوق مفردات: عبوة ناسفة، مفخخة، جثّة، ولحم إلى القصيدة، على بشاعة الواقع”.
ويردف “لا يجب أن يصبح الشعر محلاً رحباً لقتل الجيران والأصدقاء بـ «مخيلة إرهابية»، فالعبرة في إدخال هذه المفردات إلى القصيدة وإدانتها، وليس الاستزادة منها وعليها”، مضيفاً في نهاية إجابته على السؤال بالقول: “ثمّة شعراء اليوم يستأنسون بقتل جيرانهم، أو تقطيع نهود عشيقاتهم داخل الشِعر، ولا أدري كيف يفسرون كل هذا العنف الذي يكتبونه داخلهم”.
وإذا ما كان هناك إمكانية لتأثير النص الجديد على الحياة العامة في ظل موجة التطرف التي تشهدها المنطقة، يرى العربي أن “المظلومية في العالم العربي أكبر من أن تواجهها قصيدة النثر”، ويضيف معقباً “أقول ذلك ربما لأني أميل إلى الأشياء الصغيرة التي في قصيدة النثر. وأظن أن الإرهاب هو أكثر قدرة من الشعر على مواجهة هذه المظلومية، بالطبع أنا لا أنظر للإرهاب، لكن ينبغي النظر بعمق أكثر لحالة الإرهاب الراهنة والتخلي عن الرومانسيات. وهذا بالضبط ما يفعله الجيل الجديد، التخلي عن الرومانسيات والذهاب أكثر إلى مفردات أوجدت مكانها في حديثنا اليومي وواقعنا المعاش، مثل حزام نازف أو جثة أو سكين”.
ويعتبر قطليش أنه “مع وجود منصات التواصل الاجتماعي فأن قصيدة النثر تعيش في أوج تفاعلها مع القارئ، وهناك حالة من الوعي الشعري وإن كانت في بداياتها”.
ويقول الجفال في معرض إجابته على السؤال ذاته: “ليس باستطاعة الشِعر فعل الكثير أمام التطرف ونبش التاريخ الذي تقوم به الطوائف. لا أعتقد أن بإمكان الشِعر تحمل مسؤولية كهذه، وهي بكل الأحوال ليست وظيفته، لكن، وبالمقابل، الشعر اليوم ملاذ آمن للهاربين من التقاتل والفتن. هو مساحة آمنة للتفكير، والتلذّذ بالصور، وتخيّل المصائر، وإعادة تركيب الحياة بكل تفاصيلها”.