ما الذي تبقى لنا، كفلسطينيين، ندافع عنه إلا “شويّة هالخيال”؟ أريد ولو شيئاً واحداً تبقى لنا نستطيع التمسّك به، كلّه، لا سلطة للاحتلال عليه، غير خيالنا، غير آدابنا وفنوننا. أريد شيئاً واحداً نستطيع فيه أن نكون فلسطينيين كما نريد، دون اعتبارات مقرونة بالاحتلال.
لطالما قلنا إنّه، في مواجهة الاحتلال، لم يتبق لنا غير الحكاية، غير الفنون والآداب، وفيما عدا ذلك، فنحن متأخرون جداً عنه. لا يعني ذلك أننا متقدمون عليه في ذلك إنّما، على الأقل، هذا مجالنا الوحيد، هذه ساحتنا الوحيدة التي نحكي فيها عن فلسطينيتنا، ليأتينا، بعد ذلك، شرطيٌّ محلي لدى الاحتلال اسمه السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، ويمارس، بالوكالة، ما “يتوجّب” على الاحتلال أن يمارسه بالأصالة، وذلك بغباء وصل حدّ الإدهاش حين صادر يوماً مؤلّفات إدوارد سعيد.
لطالما تحدّثنا عن ضرورة أن نحكي حكايتنا، أدباً وفناً وسينما وغيره، لكن الحديث كان دائماً عن روايتنا مقابل رواية الاحتلال، سردنا لنكبتنا المستمرة في مقابل سرد الاحتلال، وهو الممتلك لكل الآليات للإقناع بسرده، في وقت لا نملك، نحن، غير خيالنا، فنوننا وآدابنا، وذاكرتنا.
اليوم، الحديث ذاته لا بد من إعادة طرحه، إنّما في مقابل “احتلال محلي” اسمه السلطة/الشرطة الفلسطينية، وذلك لمصادرة رواية «جريمة في رام الله» لعباد يحيى أمس الاثنين، بل واستدعاء الموزّع والمؤلف للتحقيق معهما، كونها “مخلة بالحياء والأخلاق والآداب العامة” حسب بيان مكتب النائب العام في رام الله الذي أكّد أن “هذا القرار لا يتنافى مع حرية الرأي والتعبير المكفولة بموجب القانون”.
لسنا إذن أمام إشكال واحد هنا، وهو أن يرى النائب العام نفسه وصياً على الفلسطينيين وأخلاقهم، أن يقرر لهم ما هو صالح للقراءة، بل أمام إشكال لا يقل تفاهة وهو أنه يرى أن المُصادرة لا تتنافى مع حرية الرأي والتعبير، أي أن خيالنا محكوم بما يراه سيادته حدوداً قانونية لحرية التعبير، أي أن الخيال الروائي تحكمه العقلية البوليسية التي تحدد له الأخلاق التي يتوجب ألا يخالفها، وأن يرضى بها كحرية مكفولة بالقانون، وإلا فالمصادرة والتحقيق والتحريض!
طبعاً لن نستطيع مجادلة العقلية البوليسية بالخيال الروائي، فنحن أمام أرضيتين مختلفتين، الشرطي الذي يريد أن يمارس قمعه ضمن قانونه، والفنان/الروائي الذي يريد أن يعجن خياله ويخرج منه بمَشاهد ونصوص يقول فيها ما يريد هو قوله، بغض النظر عن جودة هذا القول. ولا يمكن الوقوف في الوسط هنا، بين المنطقين/الأرضيتين. وبالحديث عن روايتنا ورواية الاحتلال، لا يمكن أن يكون الشرطي ذاته إلا على الناحية الأخرى، مكاتفاً لجندي الاحتلال.
لدينا حكايات فلسطينية، هي ما نظنّه أنّها “خيمتنا الأخيرة” مقابل ذلك الجندي، لنتذكّر، أمس تحديداً، أنّنا لسنا لوحدنا في الخيمة، أنّ شرطياً بعصى غليظة كشاربه المبالَغ في صبغه وقوانينه المبالَغ في تفاهتها، يعيش فيها بيننا.
لن نكون في “رمان الثقافية” إلا أول المدافعين عن حريتنا، عن خيالنا وحقنا فيه، وستفتتح هذه المقالة ملفّ “حقّنا في الخيال”، آخر ما تبقى لنا.