انتشر خبر منع رواية “جريمة في رام الله” للكاتب الفلسطيني “عباد يحيى” كما النار، الرواية بحسب النائب العام الفلسطيني ممنوعة من التداول وستصادر من المكتبات لأنها “مخلة بالحياء والأخلاق والآداب العامة”. دون توضيح أكثر، مُنعت الرواية، سُحبت من المكتبات، وتواردت أخبار عن حرق نسخ منها. من البدهي الوقوف مع الروائي وروايته في وجه سلطة أوسلو، ذاك الهيكل السلطوي الذي انتقل بفعلته هذه من شرطي على “التحرير الفلسطيني” إلى شرطي على الفكر والخيال أيضاً. حالة منع كهذه، لا شك أنها ستعود بنتائج عكسية على النص وكاتبه، فإذا كان قد اقتصر قبل أيام ذكر الرواية في أوساط المهتمين فور صدورها، فهي غدت بعد المنع علامة حاضرة في كل وسائل التواصل الاجتماعي وجل المنابر الإعلامية العربية. وإذا كان بإمكان الرقيب منع تداول النسخة الورقية من الرواية، فليس بمقدوره أن يمنعها من التواجد على الإنترنت.
الرقابة والمنع والحظر أداوت أساسية في أي نظام ديكتاتوري شمولي، التعبير بحرية لدى هذه الأنظمة كبيرة لا تغتفر، ولطالما شهدت الثقافة العربية والعالمية حالات منع وحظر على كتاب بعينه، منها ما اقتصر على مصادرة نسخ الكتاب من كل المكتبات واستدعاء كاتبه وناشره للتحقيق كما هي حال يحيى، ومنها ما وصل حد الإفتاء بالقتل مثلما حدث مع الكاتب سلمان رشدي في روايته “آيات شيطانية” في ثمانينيات القرن الماضي. الأكيد في كل الأحوال، هو قدرة النص الأدبي على هزيمة مانعيه وتجاوز الحظر المفروض، والأمثلة على ذلك تطول. لكن هناك نوع آخر من الحظر والمنع، يحصل في الخفاء، بعيداً عن عيون الصحافة وعن صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، منع رمزي إن صح التعبير، منع يحصل في أروقة الثقافة، وفي سراديبها الخفية.
في الظل، يقف الناقد الحصيف، المشهود له، والمكلل برأس مال رمزي من الاعتراف في الحقل الثقافي، يمنع نصاً، ويحظر قصيدة، سائقاً كل العلل النقدية وغير النقدية على هذا المنع والحظر، سلطته تأتي من الاعتراف به، قيمته وقيمة أعماله، أما ممارسات هذه السلطة فتتم عبر منع النص من الظهور إلى النور، وتنحية أسماء على حساب أخرى، من هنا، تتجلى سلطة المثقف الرمزية (والنص هنا ليس براء منها) كسلطة أشد فتكاً من سلطات الاستبداد سالفة الذكر، فخطورة هذه السلطة الرمزية، تأتي من قدرة أصحابها على إبقاء النصوص في الظل، لفترة طويلة، يكون معها صاحب النص قد راكم رأس مالٍ رمزي يخوله إظهار نصه إلى الوجود، بينما تبقى نصوص أخرى وأصحابها في الظل إلى الأبد، لن نعرف عنها شيئاً.
ليست ذات الناقد المعترف به هي الفاعل الوحيد في هذا الحظر، بل الأسس النقدية التي ينطلق منها الناقد في قراءته للنصوص الأدبية، أي المعايير النقدية السائدة، تلك التي اجتمع على وضعها أصحاب الرساميل الرمزية في الحقل الثقافي في ثورتهم على المعايير القديمة، فالمعيار الذي على أساسه يقيَّم ما هو جيد وما هو رديء في الأدب يشكل مانعاً للنص الأدبي بصورة أو بأخرى، بذلك يغدو المنع -الذي يستشيط المثقفون منه غضباً في العلن- خاصة أساسية في عملية الإنتاج الثقافي، بعبارة أخرى، إذا لم يكن نصك موافِقاً لمعايير الجودة الأدبية السائدة سيُمنع من التواجد داخل دائرة “الأدب”، قد لا يُمنع بفعل فاعل دائماً، إنما يتكفل المعيار النقدي وحده بمهمة الحظر والمنع لعدم توافره في نصٍ ما.
إذا كان حظر كتاب ما من التداول في المكتبات أمراً بائداً في زمن الانفجار المعلوماتي الذي نعيشه اليوم، وللكتاب الغلبة دوماً في وجه الاستبداد الأرعن، فإن الحظر والمنع الرمزيين متلازمان للعملية الإبداعية على الدوام، ومقابل كل نص تمنعه السلطات السياسية والدينية هناك ألف نص تمنعه قوة الحظر الرمزية الكامنة في المجال، لكن دون ضجيج أو جلبة في عالم الثقافة الذي “يعيش في ثورة دائمة” على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو الذي نظّر لهذ الصراع الرمزي في أكثر من موضع.