سنة عن أخرى تتحوّل فلسطين أكثر إلى فكرة منها إلى ذكرى، لدى أهالي اللاجئين عنها عام النكبة، وقد مرّ على ذلك ٦٩ عاماً. من وُلد آنذاك هناك، أو قبلها بسنوات قليلة، وقد صار في سبعينياته، لن تكون لديه ذكريات يحملها من هناك ولا حكايات ينقلها إلى أحفاده وأبنائهم، لتصير اليوم الحكاياتُ التي حُكيت عن النكبة وفلسطين ما قبل النكبة مكتملة، فلا حكايات تُضاف إليها وقد رحل عن عالمنا معظم من لحق أن يعيش في فلسطين سنوات تسمح له بالخروج منها محمّلاً بذكريات ينقلها لمن وُلد في اللجوء من أهله.
فلسطين الآن، وقد اكتملت الحكايات الخارجة منها، من نكبتها، تصير أكثر، يوماً إثر آخر، فكرةً لا ذكريات فيها بل حكايات بعيدة متناقلة، فكرةً ومعنى ووعياً مكتسَباً، لا ذكرى وصور وعاطفة مفقودة. فلا تعود “فلسطين” إلى تلك البقعة الجغرافية في هذا المشرق المأزوم بل إلى الهوية التي من أجلها تحوّل اللاجئ إلى الفدائي، والتي من أجلها كتب غسان كنفاني “خيمة عن خيمة تفرق”، خيمة اللاجئ عن خيمة الفدائي. هذه فلسطين الفكرة/المضمون التي يناضل أهلُها بألف شكل لتعود الفكرة، المجرّدة، إلى الحاضر الملموس (ذكريات مستقبلنا)، لتتحول فلسطين من أرض محتلة هُجّر نصف أهلها منها، إلى أرض محرّرة عاد لنصف شعبها نصفه الآخر، وعاد إليها.
لأنّها، فلسطين، الفكرة والمعنى، لا بد اليوم، في ذكراها هذه وفي الفوضى التي يعيش فيها مشرقنا العربي، من العودة إلى الأصل، إلى فلسطين كما هي مكتملة، كالفيصل بين الخير والشر، بأرضها ومخيماتها، بأهلها داخلها وخارجها، أصحاب الفكرة، وحرّاسها، حرّاس هذا الشكل الذي تحوّلت إليه ذكرى فلسطين وحكاياتُ الأجداد، أي خيمة الفدائي، والذي تجلّى قبل سنوات في شباب المخيّمات كجزء أصيل من الثورة السورية، وبشباب غزّة وقد اشتبكوا مع جنود الاحتلال من مسافة صفر، وشباب الضفة وقد خرجوا فرادى ليقاوموا بما وجدوه في مطابخ بيوتهم، إلى اليوم وأسرانا/ضمائرنا يخوضون إضراباً تاريخياً عن الطعام، ممتداً ذلك كلّه إلى أشكال متنوّعة للمضمون ذاته، ليس العمل الثقافي والإعلامي والحقوقي والجماهيري السلمي إلا تنويعات لها، وتمثيلات تُضاف للعديد غيرها لحفظ فكرة فلسطين وحراستها، وذلك إلى أن نستعيد الذكرى، ونعيد المعنى إلى الجغرافيا، ونعيد الفكرة إلى أصلها، وتصير الذكرى، بعودة أهل الأرض إليها، تراثاً نحفظه جيداً ونبني له متحفاً، ونبني عليه حاضراً نجعل فيه هذا اليوم، ١٥ أيار، عطلة رسمية في دولة نتفتّل فيها بين حيفا ويافا ورام الله وغزة بيومٍ وليلة.