في مثل هذه الساعات تماماً ومن ذاكرة الموت التي أحفظ
كنت أحط الرحال في مخيم بدون أي مقومات للحياة
ذكرني بقصص العبيد والإغريق.
كنت أشعر بالنصر صباحاً عندما رميت سترة النجاة على الشاطئ.
نصرٌ بسيطٌ أن تركب السواد وتجتازه دون أن تعكر مزاجه فتتحول لجثة طافية.
نصر لكنه ليس من يديّ تابع لنوم البحر والريح ورحمة المهربين.
لا أعرف لماذا كنت أراجع الاسماء العتيقة منذ عام،
من أرض العثمانيين الأشداء الى أرض الإغريق والأساطير والحسناوات عشيقات الآلهة.
كانت ليلة ككل الليالي عند عثماني يمتص جلدك لينجّيك
أو يدّعي أنه ينجيك ويبيعك طول البقاء في أرض أوروبا وجنانها.
أيها الزبون.. عليك برمي الحقائب فالقارب هذا للبشر لا للأشياء الثمينة والذكريات.
أذكر يومها أنني رميت نصف ذكرياتي في فندق كئيب
عزيت نفسي ساعتها.
“أنا أهرب للأمام أريد أن أبدأ صفراً نظيفاً”
رميت شالاً لأمي واكتفيت بواحد وحقيبة الثياب الشاهدة على سنة مضت.
قلت أكتفي بما امتلأ به القلب.
في ساعات التوتر تلك تخاف حتى من ثقل الذكريات
هل سيراها المهرّب أو أنني سأنجو بها؟
هل سيحتملها القارب المطّاطي والبحر؟
خفت يومها من ثقل الذكريات لخمسين هارباً في أقل من سبعة أمتار.
أن تعكّر مزاج السماء ونهلك جميعاً.
يا لذكرياتنا المليئة بالأوزان والجبال الحزينة وجثث الأصدقاء والهفوات، غفوت في أحلامي يومها وبدأت معادلات الموت والحياة والأتراك وأوروبا وكل شيء يلوك غفوتي.
استيقظت يومها على صوته: هيا العربة جاهزة.
ابتسمت كما الجميع ساعة أو ساعتين سنذهل البحرَ بنجاتنا.
نتخابر مع من نحب ونحن نعي دواخلنا، ربما هذه آخر أصوات نسمعها قبل أصوات الهواء يخرج من أجسادنا ونحن نغرق، نسلّم بحرارة على الهاتف ونترحم على أيام خلت والهواجس تأكل الرأس حتى تنسى أنك تتكلم وأنك ستغادر بعد دقائق من زحمة الضباب فيك، ربما وربما نعيش حياة جميلة وربما نستطيع أن نقتل القذر من تعب الذاكرة
وربما نموت في سواد هذه الليلة وتستيقظ أمي دون أن تعلم أن البحر ضاجعني والملح غير ملامحي.
وأموت وحيداً طافياً أنا وكل من معي.
يجمعنا قارب وذكريات ثقيلة ويشتتنا مزاج البحر.
ونموت فراداً وحيدين بلا أسماء فقد محتها ملوحة الماء، وأصبحت شاحبة كجثثنا.
صعدنا سيارة المهرب الذي ابتسم لخلاصه من أسئلتنا ومن وجوهنا المتعبة وقلق عيوننا للأبد.
لم يدقق كثيراً في ملامحنا وحتى هواجسنا كي لا يحزن إن كان الغرق نصيبنا.
نعم فلديه أفواج بشر تريد الخلاص بعدنا وإن كان رحيماً أو إنساناً فستكون التجارة خاسرة.
في العتمة كاللصوص صعدنا للسيارة.
هكذا كنت أحاول أن أنسج في مخيلتي كاللصوص نسرق الهجرة أيضاً يا ويحنا.
لكن خاب ظني فقد كنا كالخراف التي لا يهم أبداً إن ماتت على طريق المسلخ.
وقفنا كالمسامير بانتظام، خمسون رجلاً وامرأة وطفلاً، في ثلاثة أو أربعة أمتار، أيدينا تحاول إمساك أي شيء في السقف كالمشنوقين.
وأغلق علينا الباب، رائحة الخوف تفشت في هواء الشاحنة القليل.
الحدقات توسعت لآخرها بفعل السواد وبدأتُ أسمع الأدعية كمن يلاقي يوم القيام.
مشت شاحنة المسلخ فينا ولم نعد نعلم.
كومة اللحم تداخلت ببعضها وبعض الغثيان والغياب أحاطني.
عشرون دقيقة كانت كفيلة بترتيب كل الذكريات والندم ورسم الطريق القادم. هكذا دائماً أنجو من انتظار الوصول والوقت…
نعم عشرون دقيقة أنهت كثيراً من الألم.. كنت أخدّر نفسي بالتفكير، أتعاطاه كإبر المسكّن.
فساقي المتعبة المتورمة كانت تنبّهني إلى أنني سأقع وأني ربما أؤذي طفلًا أو كهلًا يبكي.
منعهم السائق من الدعاء جهارة، فعيون البوليس تلتقط الأدعية والمهربين، يا لسخرية المفارقات وسهولة التقاطها.
صرخ بنا اخرسوا وصلّوا بقلوبكم.
مزيج قميء لاسترجاعه بعد عام.
نعم كانت نهاية المطاف هي المسلخ.. أو البحر.
كان نائماً كمخمور لا نجوم ولا قمر والضوء الوحيد خافت. كشمعة كان في أرض الإغريق.. أرض الميعاد على بعد مرئي تستطيع أن تلمسه بيديك لكنه كان رغم الرؤيا قريباً كموت بعيداً كالحلم.
سجدنا على الأرض وانتظرنا الأوامر.. اصعدوا اثنين اثنين.. امتلأ القارب اللعين من نصف العدد.
بدأ الجميع بالقلق فالتزاحم ليس جيداً في هذه الدقائق وهنا جاء المهرب الأخير مبتسماً: أوتظنون أنكم في سياحة؟
هذا تهريب.. لم أكن سريع البديهة ساعتها للرد والمناكفة فخمرة الذكريات والتفكير والذهول من كل شيء كانت تمنعني حتى من سماع صوته:
نعم يا سادة هذه تجارة ونصفكم فقراء والبعض دفع نصف القيمة ولا يمكن أن يكون القارب وارفاً واسعاً عليكم وشتمنا بكلمة “نفرات زبالة”.
ضحكت بشدة.. تزاحم حتى على الموت.. لا مجال للتراجع رغم أن الجميع شاهد المحرك المهترئ وازدحام القارب وأنه من الممكن الغرق بعد أمتار هذه هي الحياة، لعبة نرد على روحك تصل لمرحلة القول: أريد الخلاص ولو بالموت لا أملك المال لأبحث عن مقومات أفضل ومهرب رحيم، وترمي النرد دون انتظار النتيجة.
شققنا البحر كحلزون يذوب رويداً رويداً في الملح.
أضواء الإغريق كانت على مرمى اليد وأرض العثمانيين ورائحتها تبتعد رويداً رويداً.
إلى أن لفنا السواد تماماً وصرنا تحت رحمته في بحر إيجة وسمائه.
كان انتصاراً مزيفاً ساعتها عندما نجونا وربما كان انتصاراً مؤزراً لا أدري.. واليوم بعد عام كامل،
أتذكر الأسماء والوجوه التعبة وتفرّد السواد وخوفه عندما يحتضنك بين البحر والسماء، ليست حكاية من حكايا الجدات عن سفر برلك أو الغولة التي أكلت أهل القرية، هي حكاية شعب مات وعاش في بحر إيجة هرباً من موت الحرب وأملاً بحياة أقل وطأة من زحام بلاده المختلة.