أنطونيو جرامشي الحفيد: لهذه الأسباب لم يهاجر جدّي إلى الاتحاد السوفييتي (ترجمة)

أنطونيو غرامشي الحفيد أمام صورة جدّه

أحمد ليثي

باحث ومترجم مصري

كانت المحاور الأولى فيما يتعلق بالعلاقة بين جرامشي ولينين، قد ظهرت للعلن بالفعل في سبعينيات القرن العشرين، ذلك عندما التقى زعيم البلاشفة بقائد المستقبل للحزب الشيوعي الإيطالي عام 1922. نعلم من مواد الأرشيف السوفييتي أن الرجلين تقابلا في مكتب لينين بالكرملين في 25 أكتوبر 1922. تسجيل السجلات الذاتية للينين، الذي نشر لأول مرة عام 1972، يتضمن عددًا من الأمور التي ناقشاها سويًا، والتي كانت جميعها مهمة، خصوصية الجنوب الإيطالي، وحالة الحزب الاشتراكي الإيطالي، ومدى احتمالية اندماج الحزب مع الشيوعيين.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

11/09/2017

تصوير: اسماء الغول

أحمد ليثي

باحث ومترجم مصري

أحمد ليثي

مقدمة كتبتها مجلة “نيو ليفت ريفيو” عن أنطونيو غرامشي الحفيد، يتبعها نصّه “جدّي”، ترجمنا المقدمة والنّص عن المجلّة وهنا الرابط بالإنكليزية.

بات معروفًا أن جرامشي لديه عائلة في روسيا، لكن لعقود عديدة بعد وفاته، كان القليل قد عرف عما آلت إليه أحوالها، أو عن علاقته بها قبل أو أثناء فترة سجنه. مع سقوط الاتحاد السوفييتي، أدى افتتاح جزئي للأرشيفات الرسمية لإلقاء بعض الضوء على هذا الجانب من حياة جرامشي. ويعتبر حفيده أنطونيو مصدر معلوماته الأكثر ثراءً، الذي ولد عام 1965، والذي يصف في هذه المقالة، كيف صار مبهورًا بشخصية جده أثناء زيارة لإيطاليا أوائل عام 1990، وكيف أنه حينما عاد إلى وطنه موسكو، قد نذر نفسه لجمع كل الوثائق التي يمكنه إيجادها عنه. وهذا يكمن أساسًا في مراسلات عائلة “شاخت” واسعة النطاق، التي جرت بين جوليا (1896 – 1980)، شيوعية، وأم لطفلَي جرامشي، وكانت واحدة من خمس أخوات، وأختها يوجينيا (1889 – 1972)، شيوعية أيضًا، …، وتانيا (1887 – 1940)، أخت أخرى، كرّست دعمها لجرامشي أثناء فترة سجنه في إيطاليا.

في كتابه «قصة عائلة ثورية»، La Storia di una famiglia rivoluzionaria – 2014 ، حاول جرامشي جونيور أن يعيد تأسيس تاريخ عائلة شاخت منذ أواخر عهد القيصرية، عندما كان لينين، صديق عائلة، وعرّاب إحدى الأخوات، إلى فترة ما بعد الستالينية، عندما ناشدت جوليا خروتشوف أن يعيد قبول يوجينيا، التي كانت خدمت كسكرتيرة لناديا كروبسكوف، إلى صفوف الحزب مرة أخرى. نجت العائلة من الأسوأ خلال السنوات المظلمة.

سجل جوليانو، الإبن الأصغر، أنه حتى خلال فترات الاضطهاد المأسوي والشكوك المعممة، عاشت العائلة غير منزعجة من السُلطات، ولهذه الرأفة، نميل إلى أن الفضل يرجع إلى زعيم الحزب الإيطالي بالميرو تولياتي، وهو تولياتي نفسه الذي اشتكت جوليا من أنه اعتبر دفاتر ملاحظات زوجها ملكية خاصة للحزب، وهو من رعى أفكار رجوع أحد أطفال جرامشي إلى إيطاليا -أي من طفليه- باعتبارها رمز حي على الاستمرارية بين حزبه ووالدهم. يستعرض حفيد جرامشي الشخصيات المتناقضة، وسِير أبيه وعمه جوليانو وديليو (1924-1982)، ويصف لقاءً شهيراً غير معلن حتى اليوم بين جرامشي ولينين، كما يفنّد بعض الأساطير التي تراكمت حول جرامشي خلال الأعوام المنصرمة. هو يفعل ذلك، كما يوضح أنه لم يخرج من ولائه لعائلته، لكن الصحوة السياسية، وآثار الاشمئزاز التي أصابت شخص -حتى اللحظة- قليلًا ما يهتم بالسياسة وبفساد الإنتلجنسيا الروسية، وتدهور الحياة العامة تحت حكم الأنظمة السوفييتية السابقة، من يلتسن حتى بوتين. ضد كل هذا، ونتائجه، لا يزال عمل جده يمثّل إلهاماً حياً.

جَدّي

قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، كان جَدّي مجهولًا بالنسبة لي، شخصية محاطة بالأساطير (١). يرجع ذلك إلى والدي، جوليانو، الذي عُرف كموسيقي موهوب ورومانسي، وطالب لتاريخ الفن، خاصة فترة عصر النهضة الإيطالية في الأدب والشعر. مؤلفه المفضل كان ليوباردي. اختار والدي أن يختبئ وراء الكلاسيكيات، ليس فقط بسبب ميوله ”الطبيعية“، لكن أيضًا بسبب الأهوال التي كان شاهدًا عليها شهادة مباشرة في القرن العشرين، والذي كان ساحة لذكريات مؤلمة، كان بلا شك أسوأها فقدانه لوالده الذي لم يكن يعرفه لكنه افتقده كثيرًا. للتعليم الذي تلقاه وتقديره لوالديه، كان والدي شخصاً يفتقر للحس السياسي، وكان غالبًأ ما يقول: “اللعنة على السياسة، لماذا كان عليه أن ينخرط في السياسة؟، أما كان يجب عليه أن يأخذ بنصيحة أستاذه بارتولي، ويصير لغويًا عندما أظهر نبوغًا في المجال؟“ (٢). لكني كنت أقول له، كدعابة: والدي، لم تكن لتكون هنا لو حصل ذلك.

كان ديليو، أخوه الأكبر، مختلف تمام الاختلاف عنه. عقيد في الجيش ومدرّب مقذوفات، وعضوًا في الحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي، وكان لديه طموح سياسي، ظهر واضحًا من خلال مراسلاته العائلية خلال الحرب. كان ديليو يفكر جديًا في الانتقال إلي إيطاليا ليصبح قائدًا في المقاومة، ويشارك في تأسيس مستقبل البحرية الإيطالية، معتقدًا أن إيطاليا ستغدو شيوعية بعدما تتخلص من الفاشية. بعبارة أخرى، أراد ديليو أن يؤيد القضية التي أعطاها والده عمره كله. ربما كان تولياتي ينمّي فيه هذا الطموح في هذا الوقت (٣)، وكان تولياتي إضافة إلى أنه كان ينظّم تدفقاً مستمراً من المساعدات إلى العائلة، واظب على مراسلات منتظمة مع أبن جرامشي الأكبر خلال تلك الفترة. بعد سنوات عديدة، عندما جاء عمّي لزيارتنا، صرت شاهدًا غير طوعي لنزاعات الأخوين جرامشي، رجلان مختلفان تمام الاختلاف عن بعضهما. لا بد لي أن أقول أني لم أكن أخرج بشيء من تلك المناقشات. عندما كنت شابًا (عندما توفي ديليو في 1982، كنت في السابعة عشرة من عمري) لم يكن لديّ اهتمامات سياسية.

كنت كثيرًا ما أذهب مع والداي لزيارة جدتي، جوليا شاخت، التي كانت حتى عام 1980 تعيش في مصحة للشيوعيين القدامى، في بريليكينو خارج موسكو. رغم ملازمتها للسرير، كانت تحتفظ بقدراتها العقلية حتى النهاية، وكانت تهتم بإخلاص بحياة أحبائها وبكل شيء يحدث في العالم. إلا أنني لا أتذكر مطلقًا أنها أتت على ذكر ذكرياتها مع جدي ولو بطريقة عفوية. كانت نادرًا ما تتحدث عنه، إلا في خطاباتها لأقاربها الإيطاليين، وفي الحوارات التلفزيونية التي كانت تجريها فقط. عندما كانت تعيش في منزلنا، أسست، مع أختها يوجينيا، ما يشبه متحفًا لآثار جرامشي الشخصية. وفي خزانة زجاجية تحوي أربعة أرفف كانت تعرض مفرشًا تقليديًا منسوجًا من ساردينيا، وسكاكين خشبية صنعها بيديه، وحاملة سجائر، وأغراضاً أخرى. أتذكر هذه الأغراض القديمة، كانت غامضة جدًا بالنسبة لي، وكانت مصدرًا لا ينضب لما اعتبرته ألعابي. معظم هذه الآثار تبرعت بها العائلة لمتحف أنطونيو جرامشي بجيلارزا في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، لكننا احتفظنا بأشياء قليلة في البيت كآثار للعائلة، مثل منفضة السجائر التي كانت تلازمه حتى نهاية حياته، ونسخته من كتاب الأمير لميكيافيللي، وحضوره الملهم في كراسات السجن.

انهار الإتحاد السوفييتي قبل عشرين عامًا، كان مجتمعًا، رغم كل عيوبه، يمثّل معقلًا للاشتراكية الواقعية. وبشكل متناقض، ساعد على تيسير تناقضات الرأسمالية الغربية. في ذلك الوقت تقريبًا، بدأ اهتمامي بجدي. نسّق الحزب الشيوعي الإيطالي ومعهد مؤسسة جرامشي رحلة إلى إيطاليا لي ولوالدي، للاحتفال بذكرى مئوية ميلاده. قضينا نحو ستة أشهر في إيطاليا، زرنا خلال ذلك الوقت كل الأماكن التي كانت لها علاقات قوية بحياة أنطونيو جرامشي، من سردينيا إلى توري. (واحدة من أبرز أحداث سفرنا كانت محاضرة ألقيتها على سجناء في سجن بمدينة توري، مع فرانشيسكا فاكا). خلال هذه الشهور، الممتلئة بأحداث ساحرة أخرى، غمست نفسي في الثقافة الإيطالية، وأدركت كم كان جدي مهمًا لها. عدت إلى روسيا مملوءًا بالحماس، وبدأت في دراسة الإيطالية منهجيًا، وكذلك قرأت كل كتاباته القليلة في ترجمتها الروسية. نما اهتمامي بفكر جرامشي أكثر فأكثر كلما حاولت فهم ما حدث في بلدي من خلال عدسة أعماله، كان له الفضل في أني أدركت الدور المدمر الذي لعبه مثقفونا، الذين كانوا مسؤولين عن التحول الكبير في الرأي العام لصالح النظام الجديد، والذي أدى إلى نهب روسيا، عملية كانت بدأت خلال سنوات البيريسترويكا. لست دارسًا لجرامشي، لازلت عالم أحياء وموسيقي، لكن اتجاهاتي العقلية تغيرت جذريًا. وبالحديث عن العصر الراهن، أستطيع أن أقول أن هذه هي بالتحديد اللحظة التاريخية العنيفة، التي أشعر أن الحاجة باتت ملحة لظهور صوت فكري من عيار أنطونيو جرامشي، ليوحّد الفصائل المتفرقة، وغير البناءة أيديلوجيًا، هذه الفصائل المختلفة والتي يمكن تسميتها معارضة، يجب أن تنصهر في الكتابة التاريخية التي ستكون قادرة وحدها على تطوير خط استراتيجي صحيح في الصراع ضد القوات القمعية للنظام، الفاسد وغير المبالي، الذي حكم روسيا لعقدين حتى الآن.

الخطوة الحاسمة لاعتناقي لجرامشي حدثت في الألفينات. عندما بدأت –في إطار تعاوني مع معهد مؤسسة جرامشي– بفحص تاريخ عائلته الروسية، ولم أعلم أني حين أعود لذلك أن هذه المحاولات المتواضعة وغير المترابطة في إعادة تأسيس تاريخ جرامشي ستتحول إلى مشروع بحثي مناسب. بهذا آمل أن أكون قد قدمت مساهمتي الصغيرة في إعادة تأسيس تاريخ بلدي وحياة جدي. كانت عائلة جوليا شاخت متورطة بكليهما (٤). في جانب كان هناك سابقة تاريخية مثيرة جدًا للاهتمام لجزء من الانتلجنسيا الروسية، بخلفية أرستقراطية، تخون طبقتها باسم الثورة، وتبعد نفسها عن الأفكار الاجتماعية المسبقة، وتحاول اعتناق النظام الجديد لقيم الدولة. وعلى الجانب الآخر تركت عائلة شاخت بصمة مؤثرة على حياة جدي الشخصية والسياسية. هذه العائلة الاستثنائية صارت الرباط المشدود بين جرامشي وروسيا الثورية، وروسيا –كما أدعي– في بعض الأحيان هي المفتاح لتفسير الحلقات الأكثر أهمية والتي لا تزال محيرة في حياة جرامشي. دعونا نتكلم عن ذلك.

كانت المحاور الأولى فيما يتعلق بالعلاقة بين جرامشي ولينين، قد ظهرت للعلن بالفعل في سبعينيات القرن العشرين، ذلك عندما التقى زعيم البلاشفة بقائد المستقبل للحزب الشيوعي الإيطالي عام 1922. نعلم من مواد الأرشيف السوفييتي أن الرجلين تقابلا في مكتب لينين بالكرملين في 25 أكتوبر 1922. تسجيل السجلات الذاتية للينين، الذي نشر لأول مرة عام 1972، يتضمن عددًا من الأمور التي ناقشاها سويًا، والتي كانت جميعها مهمة، خصوصية الجنوب الإيطالي، وحالة الحزب الاشتراكي الإيطالي، ومدى احتمالية اندماج الحزب مع الشيوعيين. في الوقت الذي كانت تلك السجلات قيد التحضير، كلّف معهد الدراسات اللينينية الماركسية أبي أن يبحث عن أي سجلات لذلك اللقاء التاريخي، بمساعدة الشيوعيين الإيطاليين، الخطاب الوحيد الذي تلقاه جاء من كاميلا ريفيرا، التي كانت، بالإضافة إلى أنها نقلت التقرير المفصل الذي كان جدي نفسه قد أعطاه لها، قدمت فرضية جزئية مفادها أنه ربما ذلك اللقاء التاريخي هو الذي أوحى للينين لينصب جدي قائدًا للشيوعيين الإيطاليين تفضيلًا على اماديو بورديجا، الذي خيّب آماله بعقليته الجامدة والطائفية (٥). لكن لماذا لم تقل كاميلا ذلك في مذكراتها التي نشرت قبل بضعة أشهر؟ ولماذا أغفل كل كتّاب سيرة جرامشي ذلك، بما فيها الكتاب البارز لجيوسيب فيوري (٦)؟ ولماذا لم يذكر جرامشي ذلك في أي خطاب أو مقال له، على الرغم من الإعجاب الكبير الذي كان يكنه للينين، وروابط الصداقة القوية التي كانت تربط عائلتيّ لينين وشاخت؟ ربما يتصل ذلك الصمت الغريب بالتواضع الذي أبداه جدي تجاه بورديجا، الذي كان محل احترام بصفته مؤسس الحزب الشيوعي، ويقدّره كصديق، على الرغم من الاختلافات السياسية، لكن ربما لم يكن التفسير بسيطًا جدًا.

تتعلق المسألة الثانية بمحاولات تحرير جرامشي من السجن. هنا أيضًا، على الرغم من الجهود الجليلة التي بذلها الباحثون (قام بذلك وعلى نحو فذ كل من أنجيلو أنطونيو روسي وجيوسيب فاسكا في كتابهما جرامشي بين موسوليني وستالين، 2007.. Gramsci tra Mussolini e Stalin)، لا تزال الحقيقة غير مؤكدة. لم أجد أنا نفسي أي قراءة هامة في أرشيف العائلة. الفرضية الأكثر احتمالية هي أنه على الرغم من أن السلطات الروسية كانت تعطي السجين دعماً مادياً كبيراً، إلا أنها لم تأخذ خطوات جادة لتحريره من سجنه الفاشي. وقد قاموا بتكرار النشاط الحماسي الذي شاركت فيه تاتيانا شاخت، وربما ضُللوا عمدًا، مواصلين الانخراط في أعمال ورقية دون جدوى. مرة أخرى نملك تفسيرًا أقل من أن يكون مرضيًا. ومن الممكن أن يكون من الأفضل للمرء أن ينتظر بحثاً مركّزاً في أرشيف ستالين، والذي لا يزال يتعذّر الوصول إليه حتى اليوم.

اللغز الأكبر يتعلق بالشهور الأخيرة في حياة جدي، منذ أواخر العام 1936 حتى وفاته. على الرغم من كل البحوث التي كتبت، لكننا ما نزال لا نملك إجابة كاملة عن ذلك السؤال البسيط والمهم تاريخيًا وسيرذاتيًا. ما الذي خطط لفعله عندما استرد حريته؟ طبقًا للفرضية الأولى، المدعومة من باحثين معاصرين، أراد جرامشي تصريحًا من السلطات الإيطالية ليتمكن من الهجرة للاتحاد السوفييتي، حيث يتمكن من لم شمل عائلته مرة أخرى، وربما يستأنف صراعه السياسي، هذه الفكرة، التي بُنيت على شهادة بييرو سيرافا تبسّط الواقع (٧)، في رأيي إن مراسلات تاتيانا لهذه الفترة، والتي اكتشفتها مؤخرًا بأرشيف عائلتنا، تسمح لنا بإعادة بناء أكثر دقة للحقائق، وعلى نحو مماثل، تقدم الوثائق التي اكتشفها سيلفيو بونز الباحث بمؤسسة جرامشي بروما في أرشيف الدولة الروسية أوائل الألفينات صورة أكثر تعقيدًا. طبقًا لتلك الوثائق، طلب ممثلون من الخدمات الأمنية الروسية (المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية) بين عاميّ 1936 – 1937 من جرامشي أن يخبرهم كل ما يعرفه عن التروتسكيين الإيطاليين. ولشهرين، استمر الحاحهم، وكان رد جرامشي أن عليهم أن يؤسسوا علاقات جيدة بمسؤولي السفارة الإيطالية، وبهذه الطريقة يمكنهم أن يعرفوا كل ما يحتاجون إلى معرفته. لكنه دخل في تحد جديد. حول هذه النقطة، ظهرت مزيد من الأسئلة، هل كانت السلطات الروسية تربط احتمالية عودته لموسكو بشرط تعاونه مع الخدمات الأمنية، سواء كانت ذات وضع رسمي أم لا؟ أم هل كانوا ببساطة يرغبون في جعله واع بطريقة غير مباشرة، بأنه لا يزال يحمل وسخ التعاطف مع التروتسكيين، بعد كتابة خطابه الشهير للجنة المركزية للحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي الذي دافع فيه عن تروتسكي في أكتوبر 1926؟ مهما يكن من أمر. تذكر ابنة أخيه إيديما جرامشي، كان ذلك بالتحديد عندما كتب جرامشي خطابًا لعائلته يتوسل إليهم فيه أن يجدوا له غرفة بصورة عاجلة في سانتو لوسارجيو، لكن ما الذي كان يود فعله في ساردينيا؟ في خطاب ليوجينيا في 24 مارس عام 1937، كتبت تاتيانا: “يعتقد أنطونيو أن فرصة الهرب من ساردينيا ستكون أسهل كثيرًا من إيطاليا”. نحن لن نستطيع أن نؤكد هذا وإلا سوف تبدأ الشائعات. لكن كيف يجب علينا أن نفسر هذه العبارة؟ تجادل فاكا بحق، أن ذلك من غير المرجح، لأن جرامشي لم يكن قادرًا على الهروب. لكني أعتقد أن جدي كان يحذر السلطات السوفييتية بشكل غير مباشر أنه لا يخطط للبقاء في إيطاليا، ويتقاعد للأبد من عمله السياسي كما فعل بورديجا قبل عدة سنوات. من المحتمل أن تكون شهادة سيرافا كرّست الغرض نفسه. مع ذلك، كان لسيرافا فرصة مقابلة جرامشي عام 1936، وإعطائه آخر الأخبار حول محاكمة موسكو، أول هذه السلسلة، والتي انتهت بالحكم على أخلص معاوني لينين بعقوبة الموت، بعضهم اتُهم بأنهم من أتباع تروتسكي، كان الصمت رد فعل جرامشي، صمت اختبأ وراءه الاستياء والسخط، اختار الصمت حتى لا يؤذي نفسه أو أحد أفراد عائلته. من مراسلات تاتيانا، ومن مصادر أخرى مختلفة، صار واضحًا أن صحة جدي كانت في حالة متدهورة، وكان هو واع تمامًا لذلك، هذا أيضًا جعل الانتقال لروسيا غير محبب. أراد جرامشي أن تزوره جوليا والأطفال قبل أن يموت. أما بنائي للأمر كله كان على النحو التالي: حتى بداية 1936 كان جرامشي يخطط بالفعل للهجرة للاتحاد السوفييتي، ومع ذلك، بنهاية العام، ومع تدهور حالته الصحية والمناخ السياسي الروسي -كما أقرّ سيرافا وأكده الأسلوب الذي تلقاه من المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية بطريقة ما- قرر بالطبع اتخاذ تغيير راديكالي، اختار الآن، كما يعتقد فيوري، التقاعد في مسقط رأسه.

علاقتي بجدي تتخطى حدود اهتمامي بحياته أو أفكاره. كحفيده، ومريده بشكل ما، أشعر تجاهه بواجب الدفاع عن ذكراه، وعن السبب الذي من أجله فقد حياته، من الاستكشاف وجميع أنواع التكهنات. مؤخرًا، ظهرت، بطريقة مكثفة، افتراضات جديدة تضع جرامشي كخصم للحركة الشيوعية، أو حتى تجعله ضحية لها. تحيز عددًا من الكتاب الإيطاليين من ماسيمو كابرارا إلى جيانكارلو رينر لهذه الرؤية (٨). لذلك، يقال على سبيل المثال أن جرامشي نُبذ من الحزب السوفييتي، وعائلته الروسية. طبقًا للينر، كانت وزارة الداخلية الإيطالية هي التي تدفع تكاليف علاجه الباهظة، منذ عام 1934 وحتى وفاته. لكن الآن، وبعد أن وجدت مؤخرًا خطابات تاتيانا لعائلته، نعلم بشكل مؤكد، أن الحال لم يكن كذلك. والحق أن زوجته جوليا كانت تواظب على إرسال كمية كبيرة من المال لتاتيانا، للاعتناء بزوجها، هذه الأموال كانت تمنحها السلطات الروسية لعائلة جرامشي.

لن أناقش كل الهراء المتراكم عبر السنين، بداية من أوهام كابرارا، السكرتير السابق لتولياتي، والذي ألمح إلى أن الخدمات الأمنية السوفييتيه هي التي أرسلت جوليا شاخت لإغواء جرامشي، أو أن الجهة نفسها هي التي جندت أختها تاتيانا لتتجسس على جرامشي، أو أن عائلة شاخت تركت أطفال جرامشي في ظل جهل أفكار والدهم. كل هذا الهراء يتراكم على طول الطريق حتى ادعاء المبجل لويجي دي ماجيستري، وهو على فراش الموت، وشهادة سيدة عجوز كان ترعى في عيادة كويسيسيانا التي أدعت أن جدي قد انتحر بالقفز من النافذة، أو أنه قتل.

ليت ذلك يكون آخر الأساطير التي أطلقت عن جدي وعن عائلتنا، لكنها لم تكن الأخيرة. الأساطير التي أثيرت حول جرامشي (وليس جرامشي فقط) تستمر في التكاثر، في ظل ظروف التدهور الثقافي العام، تدهور يعززه تلاعب وسائل الإعلام في الوعي. وهو ما أطلق عليه هرمان هسة “عصر صفحات التسلية” في روايته «لعبة الكريات الزجاجية»، عصر سخيف حين يستبدل الإبداع والبحث المعمق بالاستشهادات المقلوبة. أعتقد أنه من واجبنا كنشطاء، وباحثين، ومثقفين، وكمواطنين عاديين أيضًا، أن نقاتل تلك الاتجاهات الخبيثة، إذا كنا نريد أن نحيا بكرامة، في هذا العالم العظيم والمرعب.

الهوامش
 

١-  نشر هذا النص لأول مرة في أنجيلو دي أورسي، تحقيق حول جرامشي، تورين 2014. وهو في الأصل حديث أجري بمسرح النصر بتورينو في 20 يناير 2012.
٢-  ماثيو بارتولي (1873 – 1946)، عالم لهجات، وعمل لعدة سنوات كأستاذ لغويات بجامعة تورين.
٣-  بالميرو تولياتي (1844 – 1964)، السكرتير العام للحزب الشيوعي الإيطالي، وفاد الحزب حتى وفاته.
٤-  كان والد جوليا، أبولون (1861 – 1933)، ابن لجنرال قيصري متحدر من سلف ساكسوني، رفع إلى طبقة الشرف، غالبًا، اعترافًا بخدمته المميزة، تزوج من جورليا هيرشفيلد، وهى ابنة محامي يهودي أوكراني بارز، كان شعبيًا منذ كان طالبًا، وانخرط في تنظيم خلايا ثورية سرية في الجيش، ثم اعتقل عام 1897 لاعتقاد السلطات انه ألكساندر شقيق لينين، ونفي إلى تومسك غربي سيبيريا، ثم لاحقًا في سامارا. وعاد مرة أخرى لبطرسبرج بعد ست سنوات. قرر يعد ذلك أن ينتقل بعائلته إلى الخارج، أولًا لسويسرا ثم فرنسا وإيطاليا أخيرًا، حيث قرر أن يمكث حتى 1917. يوجينيا كانت هناك بالفعل، وابنته جوليا تبعته بعد مدة قليلة، وانضمت وأختها إلى الحزب في سبتمبر من العام نفسه، وأتى هو بعد ذلك ليضع نظامًا للأجور في الدولة الوليدة. قابلت الأختان جرامشي لأول مرة عام 1922.
٥-  كاميلا ريفيرا (1889 – 1988) سياسية وعضو مؤسس بالحزب الشيوعي الإيطالي. آماديو بورديجا (1889 -1970) مؤسس وأول قائد للحزب الشيوعي الإيطالي.
٦-  Giuseppe Fiori, Antonio Gramsci: Life of a Revolutionary (1966), London 1971.
٧-  بييرو سيرافا (1898 – 1983)، اقتصادي من أتباع الركارديون الجدد، وصديق مقرب من جرامشي. والنموذج الريكاردي هو نموذج كلاسيكي للتجارة الدولية قدمه دافيد ريكاردو لتفسير نمط المكاسب من التجارة من حيث الميزة النسبية. وهو يفترض منافسة كاملة وعامل إنتاج واحد هو العمل مع متطلبات عمل لكل وحدة إنتاج تختلف من دولة إلى أخرى. المترجم.
٨-  ماسيمو كابرارا (1922 – 2009) صحافي في الحزب الشيوعي الإيطالي، وكاتب، وسياسي وموظف. بعد عشرين عامًا من عمله كسكرتير خاص لتولياتي، انضم بعض الوقت لجماعة المانيفيستو، وتحول بعد ذلك للمذهب الكاثوليكي، معلنًا تبرؤه من ماضيه الشيوعي، وصار خبيرًا في شؤون يمين الوسط. جيناكارلو لينر (1943 – ) غزير الإنتاج عن شؤون اليمين، ومتزمت ضد الشيوعية، على علاقة قريبة بسيلفيو بيرلسكوني رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق. المصدر هنا يعود لكتابه عائلة جرامشي في روسيا La famiglia Gramsci in Russia, Milan 2008.
الكاتب: أحمد ليثي

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع