كيف تفتح الـ ”إسّا“ شبّاكاً على حيفا؟ 

© خلود باسل، غُرفة ستّي في مقهى فتّوش، حيفا، ٢٠١٦

رشا حلوة

كاتبة من فلسطين

مميزات عديدة للأغنية الجميلة، كلماتها، أداء فرج سليمان، ألحانها وقصّتها كما خفّة ظلّها، لكن أكثر ما لفّت انتباهي هو اسم الأغنية، كلمة "إسّا" (إسّة) على وجه الخصوص، وكذلك حضور اللهجة الفلسطينيّة المرتبطة مع الجليل؛ القرية التي وُلد وترعرع فيها فرج وهي الرّامة، والقرية التي وُلد وترعرع فيها عامر وهي الجش، إضافة إلى حيفا.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

16/02/2018

تصوير: اسماء الغول

رشا حلوة

كاتبة من فلسطين

رشا حلوة

قبل فترة، أطلق الموسيقيّ الفلسطينيّ فرج سليمان (بيانو) عبر مواقع التواصل الاجتماعيّة أغنيته “إسّا جاي”، والتي قدّمها كجزء من عرضه الموسيقيّ “صندوق ألعاب” في أيلول/ سبتمبر 2017 في حيفا، الأغنية، التي كتب الفنان الفلسطينيّ عامر حليحل كلماتها، حصلت مؤخرًا على أكثر من 100000 ألف استماع، وحظت على انتشار كبير.
 

مميزات عديدة للأغنية الجميلة، كلماتها، أداء فرج سليمان، ألحانها وقصّتها كما خفّة ظلّها، لكن أكثر ما لفّت انتباهي هو اسم الأغنية، كلمة “إسّا” (إسّة) على وجه الخصوص، وكذلك حضور اللهجة الفلسطينيّة المرتبطة مع الجليل؛ القرية التي وُلد وترعرع فيها فرج وهي الرّامة، والقرية التي وُلد وترعرع فيها عامر وهي الجش، إضافة إلى حيفا.

بدايةً، الإسّا، وهي “الآن” بلهجة شمال فلسطين حتى حيفا تقريبًا، أصل الكلمة يعود إلى “السّاعة”، لذلك يجب أن تُكتب “إسّة” للدقة، والتي تُستخدم أيضًا في بعض قرى الجنوب اللبنانيّ، مع اختلاف لحنها ولفظها. لربما أغنية “إسّا جاي” هي الأولى التي تحضر فيها كلمة “إسّا” بهذه القوة، هذه الكلمة المغيّبة بشكل ما أمام الحضور الطاغي لكلمة “هلق”، أو كما تُلفظ أحيانًا بـ “هلأ”، والتي تُستخدم في القدس ورام الله وبيت لحم وغيرها من المدن والبلدات المحيطة، وهي جزء أساسيّ من لهجات “الآن” في فلسطين، إلى جانب: هسا، هسع، هلكيت، هالحين، هالوقت (وأحيانًا تُلفظ القاف كافًا)، وغيرها.. فعادة ما تسقط “الإسّا” وسط سيطرة الـ “هلق”، حيث أنها تُستخدم أكثر أيضًا في بلاد الشّام؛ لبنان، الأردن، سورية، فنرى أحيانًا أن من وُلد على الإسّا، وعندما يتحدث مع أصدقاء يستخدمون الـ “هلق”، نشاهد حالات من تغييب الإسّا إلى صالح الهلق، لكن هذه الحالات تظهر بشكل معاكس، ولو نادرًا، في لهجة الأصدقاء اللاجئين من فلسطين، والذين وُلدوا في الشّتات، حيث يبدّل قسم منهم الهلق في حديثهم إلى الإسّا، اسألوا سليم البيك مثلًا 🙂 .

المهم، الحضور الطبيعيّ للإسّا في أغنية “إسّا جاي”، حيث هي جزء أساسيّ للهجة كلّ من كاتب كلماتها ومغنيها، هو إعادة اعتبار لأهمية الإسّا في لهجات شمال فلسطين، هذا الاعتبار المرتبط أيضًا بنجاح وانتشار الأغنية إلى خارج حدود الجليل وفلسطين، الممتد إلى تساؤل بعض الشباب والشابات من العالم العربيّ الذين استمعوا إلى الأغنية حول معناها: “يعني إيه إسّا؟”، فلربما تواصلوا مع الموسيقيّ مباشرة أو مع أصدقائهم/ن في فلسطين، كي يعرفوا معناها، فحاولوا تكرارها وتقليد لفظها حسب أصحابها و/أو الأغنية، والنتيجة الحاصلة هي الإدراك بأن في فلسطين لهجات أخرى عدا عن لهجة مسلسل “التغريبة الفلسطينيّة”، وهي تمامًا ممتدة من فكرة كسر سطوة اللهجة الواحدة المسيطرة على المشهد الفنّيّ أينما كان، في فلسطين من جهة، كما هو الحال في دمشق والقاهرة، على اختلاف الإنتاج الفنّيّ في العواصم المتنوعة.

هذه الحالة وانتشار الأغنية، هو أيضًا فرض و/أو إعادة إحياء لإحدى لهجات فلسطين على المشهد الثقافيّ والفنّيّ في المنطقة العربيّة، إنّ صح التعبير، فيمكننا أيضًا ربط هذا مع حضور حيفا اليوم في المنطقة أيضاً، على مستوى الإنتاج الثقافيّ والفنّيّ، وحضور الإسّا فيها وبلهجة أهلها وسكّانها القادمين/ات بأغلبيتهم من الجليل ومحيطها. حيث أنّ المشهد الثقافيّ والفنّي في حيفا، بمجالاته المتنوعة من مسرح وموسيقى وسينما وغيرها، يمنح مساحة لتقديم لهجات أهل المدينة، بما في ذلك الإنتاج الذي يعتمد على المكان وناسه وقصصه، في المسرح على سبيل المثال، مثل ”مسرح خشبة“ في حيفا وإنتاجاته المسرحيّة التي ترتكز على قصص الناس والمكان، بأصواتهم ولهجاتهم. وانتشار كل هذا إلى خارج حدود فلسطين، سواء من خلال جولات العروض المسرحيّة في العالم و/أو الأغاني عبر قنوات التواصل الاجتماعيّ و/أو العروض الموسيقيّة خارج فلسطين، كلّ هذا يجعل “الإسّا” بأشكال حضورها المتنوعة، معروفة ومألوفة لمن هم خارج موطنها الأوّل، والإسّا هي نموذج مصغّر عن تفاصيل حياتيّة كثيرة.

لهجتنا ليست فظّة

في حديث مع الموسيقيّ الفلسطينيّ فرج سليمان، عن موضوع اللهجة الفلسطينيّة، وأغنية “إسّا جاي” كما وارتباط هذا مع حراك حيفا الثقافيّ اليوم، قال: “أعتقد أن الدّور الذي تلعبه حيفا اليوم في الثقافة والفنّ، يجعلها تستقلّ عن بيروت والقاهرة وعمّان، لأن حيفا تحوّلت إلى مركز مهمّ ولا يقل أهمية عن العواصم العربيّة الأخرى. فيها حركات ثقافيّة مستقلّة بكل شيء؛ بالمسرح والموسيقى واللحن وطريقة العزف، ومن الطبيعيّ أن تتأثر بهذا اللهجة والكلمات والنّصوص. ومثلما نفكر بالسؤال ماذا يعني أن يكون عازف بيانو من حيفا؟ بالتالي ماذا يعني أن يخرج فنّ من حيفا؟ وماذا تعني أغنية من حيفا ومن فلسطين؟ أنا شخصيًا، مع شريكي الفنان عامر حليحل لدينا همّ وهاجس يشغلنا كل الوقت، على كوننا مجبرين أن نعمل وننتج بلهجتنا، ونشعر بأنه من الغريب أن نغنّي باللهجة اللبنانيّة أو المصريّة، سينتج عن ذلك شيئًا مزيفًا وغير حقيقيّ”، ويتابع فرج: “هنالك إحساس لدى الموسيقيّين غالبًا بأن لهجتنا غير موسيقيّة وصعبة وفظّة، وبالنسبة لي، هذا تحدي، أن أتعامل مع هذه اللهجة وأقلبها لموسيقى، وخلال العمل، اكتشفت أن هذه اللهجة ليست فظّة، وهذا أيضًا ما حصل معنا في عرض الكباريه لمسرح خشبة، الكاتب والمخرج بشّار مرقص كتب 15 أغنية باللهجة الفلسطينيّة، والفكرة هي أن نردد الأغنية ونتعلّم أنّ نحبّها، مثل كلمة إسّا، ومن المثير للاستغراب هو عندما تتكلمين مع أيّ موسيقيّ أو شاعر، أوّل ما يخطر بباله هو أن يكتب كلمة هلق، وفي أغنية “إسا جاي” تتكرر كلمة إسّا أكثر من مرة واحدة. يجب أن نتصالح مع لهجتنا، وهي لهجة موسيقيّة وليست فظّة مثلما كنّا نعتقد، لربما اللهجة اللبنانيّة والمصريّة أسهل للتلحين لأنها صاحبة تاريخ أطوّل مع الأغنية، وكي تكون اللهجة الفلسطينيّة مريحة بالغناء، تحتاج إلى سنوات من العمل”. 

اللغة الحاضرة هي لغة القوي والمهيمن 

امتدادًا لهذا المحور، وغياب اللهجات الفلسطينيّة العاميّة من الأغنية على وجه الخصوص، أو المنتج الفنّيّ عامّة، والتغيّرات التي تحدث على ذلك اليوم، تحدثنا مع الكاتب الفلسطينيّ علاء حليحل، عن معادلة الغياب في الماضي وحضور اللهجات اليوم وأسباب ذلك، يقول: “عمومًا، اللغة الحاضرة هي لغة القوي والمهيمن، اقتصاديًا وثقافيًا وجماهيريًا. لبنان ومصر لعبا هذا الدور لعقود، وبالتالي كانتا اللهجتين المسيطرتين بشكل شبه تام في العالم العربيّ، وفي منطقة الشام. الثورة المعلوماتيّة والرقميّة ومنصات العرض والتسويق في الشبكات الاجتماعيّة واليوتيوب استبدلت شركات الإنتاج الكبرى، ولم تعد حاجة لميزانيات كبيرة لتسويق فيديو كليب خارج قوانين السّوق القديمة. لذلك يمكن لفرج سليمان تلحين أغنية بلهجة شمال فلسطينيّة ونشرها بالوسائل الجديدة بكلفة تقترب جدًا من الصفر. بمعنى أنّ التحرر من الهيمنة الاقتصاديّة المرتبطة بالإنتاج والتسويق ألغت بشكل كبير حضور اللهجات المسيطرة التقليديّة“.
 

إنّ أغلب حضور اللهجات الفلسطينيّة بالأغاني ارتبط من جهة مع الأغنيّة التراثيّة، كأغاني الفرح والموت والشهادة التي نكررها في طقوس حياتنا المتنوعة، ومن جهة أخرى مع الأغنية الوطنيّة و/أو السياسيّة، بجزء كبير منها، مثل أغاني فرقة الفنون الشعبيّة الفلسطينيّة، وفي الشّتات بعض أغاني فرقة العاشقين وأبو عرب وغيرهم. عن هذا، يقول علاء حليحل: ” في العموم، كانت الموسيقى الفلسطينيّة والمعروفة منها على الأقل عالميًا، مرتبطة بالثورة والمقاومة والانتفاضة، ومعظمها -أو على الأقل ما اشتهر منها- هي قصائد مقاومة مكتوبة بالفصحى، ولذلك هيمنت هنا لغة الشّعر الفصيحة. الانتقال في العقدين الأخيرين إلى موسيقى وكلمات ترتبط بالتوجه الذاتيّ والفرديّ يجري عبر كتابة كلمات بالعاميّة تريد الحكي عن الحياة اليوميّة، ومركباتها البسيطة، ولذلك برز خيار العاميّة واللهجات الفلسطينيّة المختلفة في تجارب جديدة ومميزة. أنا شخصيًا أرى في ذلك أمرًا مباركًا ومعززًا للانفتاح على الإنتاج المحليّ وتحوّله إلى مجسّ حقيقيّ لنبض الناس والتغيرات التي نعيشها”. 
 

من الجدير بالذكر أنّ اللهجات الفلسطينيّة العاميّة كانت حاضرة بشكل ما في الأغنية الفلسطينيّة، أو الأغاني التي أُنتجت في فلسطين، ونتحدث هنا بالأساس عن الأغاني غير التراثيّة، بمعنى الكلاسيكيّ للفلكلور، لربما بدأت تتبلور ملامحها مع تأسيس فرقة “صابرين” في القدس في الثمانينات، ومعظم ألبوماتها الموسيقيّة التي احتوت على أغانٍ بكلمات من اللهجات العاميّة الفلسطينيّة، وأكثر لهجات القدس ورام الله، حيث أغاني عديدة كُتبت بقلم الشّاعر الفلسطينيّ الراحل حسين البرغوثي، مثل أغنية “النوري” وغيرها. هذه الموجة استمرت إلى فرقة “الشاطئ”، التي تأسّست نهاية الثمانينات في حيفا، وغنّت بالعاميّة مثل أغنية “رح نبني مدينة”، وإلى فرق موسيقيّة وموسيقيّين عديدين، وصلت أوجها مع الانتفاضة الثانية، وبداية مع تأسيس فرقة الراب “الدام” من اللد، حيث حضرت هناك اللهجة اللديّة بقوة، والعديد من فرق الراب في فلسطين، واستمرت مع فنانات مثل تريز سليمان، حيث اعتمدت بكثير من أغانيها التي كتبتها بنفسها، خاصّة مع مشروعها الموسيقيّ الذي قدّمته مع الموسيقيّ يزن إبراهيم، ابن الجولان السوريّ المحتلّ، على الكتابة باللهجة التي تتحدث بها، هي المولدة والمقيمة في حيفا، بالإضافة إلى فرقة “ولّعت” العكيّة، وحضور اللهجة العكاويّة في الأغاني التي كتبها الفنان خير فودي، مثل أغنية “لوّ شربوا البحر”، وغيرها من الفرق والموسيقيّين/ات.
 

نحتاج إلى المزيد من الوقت والبحث أيضًا لرصد حضور اللهجات الفلسطينيّة، بتنوّعها، في الأغنية من شمال فلسطين إلى جنوبها، كما في الشّتات، لتقديم صورة أوضح وأكثر عمقًا لهذا المحور. لكن بالتأكيد، لا يمكن تجاهل ما وصلت إليه اليوم من فرض وجودها على المشهد الثقافيّ والفنّيّ بكافة مجالاته، والأغنية، سهلة السّفر هذه في عصر الديجيتال، كانت ولا زالت شبابيك تُفتح على حياة الناس وأماكنهم ولهجاتهم التي تُحكى بالبيوت والأحياء والشّوارع والمقاهي، كي تجعل قصصهم أقرب إلى القلب.
 

الكاتب: رشا حلوة

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع