لطالما استُغلّت الكباش في القصص الدينية وحتى الميثولوجية للتضحية بها فدية للآلهة، أما في الجزائر فيظهر الكبش بشيء من الشخصية قبل أن يساق إلى الذبح حيث يشارك في ما يسمى “مصارعة الكباش” كنوع من أنواع المتعة والتسلية لدى الشباب الجزائري.
تكون الكباش بقرون كبيرة وتتسم بنيتها الجسدية بالقوة والصلابة أكثر من بقية أنواع الخراف كما يتم الاعتناء بها بشكل خاص وإطعامها أجود أنواع العلف لتجهيزها ليوم المناطحة الكبرى، كما يُطلَق عليها أسماء تشير إلى القوة والهيبة مثل “هتلر”، “صدام”، “صاروخ” “جراندايزر”، أسماء لبعض الديكتاتوريّة الذين شهدوا عظمة قصيرة لكن سرعان ما آلوا إلى السقوط.
القوة المركبة: القوي مقابل “الضعيف القوي”
يعكس الفيلم أزمات الأجيال الجزائرية السياسية والاقتصادية فيضعنا أمام جيل أثقلته الحرب الأهلية وغلاء أسعار البترول وجيل تلاه يعاني من البطالة والفقر وبين الجيلين يظهر لنا إمتداد وتوارث العنف وإن اختلفت أشكاله. يطرح الفيلم نموذجين من المجتمع في الجزائر فهناك الشاب حبيب ابن الستة عشر عاماً، والذي يرغب في الحصول على كبش وتدريبه للمشاركة في مصارعة الكباش مقابل التاجر الأربعيني مفلاح سامر، والذي يتاجر في الكباش لا للمصارعة وإنما لبيعها وجني المزيد من المال. فيما قد يبدو واحد من النموذجين أفضل من الآخر إلا أن الفيلم يظهر أنهما أسوأ من بعضهما البعض، فبينما لا يرغب حبيب في ذبح الكباش والتضحية بها كنظيره مفلاح سامر إلا أنه يؤيد مناطحة الكباش وتعنيفها ليعتمد شكلاً آخر من أشكال العنف الممارس على الكباش.
بالفعل، نحن هنا أمام دائرة مفرغة من العنف الذي يعاد إنتاجه وتختلف أشكاله. في مكان ما، يكشف الفيلم عن فتوى دينية تحرّم مصارعة الكباش باعتباره تعنيف وتعذيب الحيوان وتفرض عوضاً عن ذلك وجوب التضحية به. وللمفارقة الشيقة، يتلو هذا المشهد على الفور مشهد آخر لحفلة شواء كبيرة للحم الخراف، مما يسخر من الادعاء الديني بأن ذبح الكباش يخلو من التعذيب.
لدينا إذن النموذج السلطوي الأول، التاجر مفلاح سامر، صاحب مقولة “حوت كبير يأكل حوت صغير”، والذي خدم في عسكر الجيش وعايش الحرب الأهلية الأخيرة. يؤكد مفلاح على هويته، هو تاجر، هو لا يهتم بمصارعة الكباش، هو تاجر، والكباش بالنسبة له سلعة يشتريها ويبيعها بسعر جيد في سوق الأضاحي قبيل العيد. رجولته أصبحت منوطة بكمية الكباش التي بيعت وقدمت أضحية، وهو يتمنى أن يكبر ابنه ويصبح “رجلاً” مثله.
أما النموذج الثاني فهو حبيب، شاب فقير لا يمتلك ما يكفي من المال للتعليم. يقضي وقت فراغه مع “صديقه” الكبش “بوق” الذي لا يرغب في تقديمه أضحية لكنه يرغب بتربيته ليشارك في مصارعة الكباش. ما يميز الكبش عن الخروف بشكل أساسي هو أن الكبش يملك قروناً أما الخروف فلا، وما يجري في مصارعة الكباش هو استغلال هذه القوة الوحيدة التي تميزه لتُستخدم ضده فهو يناطح بها ويعنّف حتى السقوط تماما مثل “البوق” الذي يصدر صوتاً عظيماً ولكن سرعان ما يتلاشى صداه.
مسرحية السقوط
في مصارعة الكباش، تنتهي الكباش بالخسارة أو الانتصار! عند إنتصار الكبش، يقيم صاحبه حفلة “عرض العضلات“ حيث يحاط الكبش من قبل الفريق المنتصر، ويتسابق الحشد لالتقاط الصور بجانبه متباهين بقرونه الأربعة، كما تُنشد أغنية النصر في بشاعة تتوجهُ بطل “الرجولة” و”القوة” عند الجمهور. أما الكبش الخاسر، ينتهي مصيره بأن يساق إلى الذبح هكذا بهذه البساطة والشناعة.
أما في حالة الكبش “بوق” فلم تكن المصارعة ما يرغب بالقيام به من الأساس، فنراه يتراجع في ساحة القتال إلى الوراء بشكل متتال حتى يبتعد عن نظيره، والخوف الذي ترصده في رؤيته وهو يعود بأدراجه للخلف مرتعب بالفعل. فهو يشعر بانهزامه مدركاً للمتفرجين من حوله فتراه يتلفت من حوله على عيون الجهتين المتبارزتين يميناً ويساراً. يحذلق الكبش في الجمهور من فرط رعبه لكن بجرأة عظيمة وكأن البشر في لحظة ساخرة قصيرة، أصبحوا هم من يقدمون له عرضاً “Spectacle” في الوقت الذي من المفترض “بنظرهم” أن يكون هو من يقدم التسلية لهم! بعيداً عن كل ذلك، تتركني مادية المشهد بحد ذاتها والتي تتجلى في إنفعال حيوان بهذه الشاعرية والتأثر في حالة شديدة من الذهول والدهشة!
بعد خسارة بوق، يقول صاحبه حبيب “هو لا يريد أن يناطح، هو يريد أن يتبعني” مما يوحي أن التابع في المجتمع سينجو من أي مصير مأسوي لكن عندما يتوقف بوق من اللحاق بحبيب ويقرر تركه نراه يساق إلى الذبح. البوق إذاً في دائرة مفرغة فهو ينتقل من خسارة ميدان المصارعة إلى قرار عدم اتباع صاحبه إلى الذبح.
الشعب كبش فدا الجزائر
فقط نحو نهاية الفيلم، تتم الإشارة عبر أخبار الراديو عن الوضع السياسي للجزائر. يتحدث المذيع بأن الجزائر ليست بلد يتمّ زعزعته بسهولة، مستخدماً عبارة “نحن لسنا خراف، نحن لا نشارك في الربيع العربي.” في هذه العبارة نوع من التهكم على النظام الديكتاتوري في الجزائر فربما يشعر الشباب الجزائري أنهم أصبحوا بالفعل كالخراف، فاقدين للحق في تقرير المصير وسط حالة من التبعية والإستبداد السياسي. كما أن توصيف “فعل” الثورات العربية بتبعية الخراف يدلّل على مفارقة ساخرة تنطوي على تعرية “الثورة” من مفهومها الجذري.
“التضحية للوطن أهم من الحياة” يُكمل المذيع ويتركنا بعبارة أصبحت ثقيلة على من أتقن التضحية، بلد المليون شهيد. فالتاريخ الجزائري من حرب ضد الإستعمار الفرنسي وصولاً إلى الحرب الأهلية الأخيرة في الجزائر كان محملاً بأشرس موجات العنف والدموية في الوطن العربي. استنزفت الكثير من الدماء حتى بات الشعب الجزائري يشعر أنه كالخراف يساق إلى الذبح يُضحّى به للوطن من غير إرادة واعية لهذا العطاء. إنما هي بطولة مصطنعة أو رجولة مفتعلة تُبنى على أكتاف الشعب، الكباش!
تغيب الجزائر عن الربيع العربي على الرغم من أنها تعاني من البطالة والفقر وفساد الطبقات الحاكمة تماماً كعدة بلدان عربية، مما أدى إلى تراكم العنف المحتقن لدى المجتمع الجزائري في أشكال مختلفة ربما تجد متنفساً لها في تعنيف الكباش، الأمر الذي يدفع إلى ضرورة إعادة تسليط الضوء على وضع الجزائر، كلاعب أساسي، بات شبه منسياً في المشهد العربي الحالي.
كيف نقرأ الرمزية في السينما؟
هناك دهشة بصرية خالصة تتجلى لدى المشاهد في رؤية الكبش عند ربطه من أجل قص فروه وعند قبض الأطفال لقرونه للتسلية واللعب معه، ورؤيته في حلبه المصارعة في مناطحة يستلذ بها نظيره الإنسان وأخيراً رؤية عينيه قبل أن تسلخها أسنان السكين حين يحين موعد ذبحه، كل ذلك يجعله أداة رمزية ودرامية خصبة لإنتاج سينمائي بحت.
في الوقت ذاته، غالبا ما تختزل الرمزية المعاني وتحددها في قوالب جاهزة وثنائيات معينة، كما أنه إذا كانت الرمزية غنية ولها تاريخ طويل الاستخدام، يصبح السؤال: ما الجديد الذي أستطيع أن أضيفه على هذا الرمز؟ كيف أستطيع تفكيك أنماطه المتعارفة، تشتيتها، تقليبها، تعقيدها، وتطوير الجديد عليه؟ في حالة الفيلم، نسأل هل السياق التاريخي كافٍ لتشفير الرمزية؟ هل القصة نفسها تفسر الرمزية؟ أين الخصوصية في استخدام الرمز في حالة الجزائر؟ هل تنطبق ثنائية الكباش والرجال على الأنظمة العربية الديكتاتورية الأخرى؟ كيف أستطيع أن أستثمر بكافة فنون البصريات والإخراج لكي أوظف الرمز بفعالية وتأثير أكبر؟ أسئلة نجح الفيلم في معالجة بعضها لكن من المهم والضروري التوقف عليها والتفكير بها بشكل أعمق وأكبر إذا ما أردنا المواظبة على التجدد والإبداع السينمائي!