ما أن تتحدث عن فلسطينيتك في المحافل الدولية أو في جلسة نقاش لدى الأمم المتحدة أو في عرس لفلسطينيين مقيمين في الشتات أو في اجتماعات ومؤتمرات الـ “إن جي أوز” حتى، لا يمكن أن يغفل عنك لمسة ولو بسيطة أو إقحام خفيف للتطريز الفلسطيني. في الوقت الذي يُعتبر التطريز جزءاً لا يتجزأ من تراثنا الاجتماعي وهويتنا الوطنية إلا أن الإفراط في إستعمالاته في معظم المناسبات السياسية أفقده تميزه ورونقه وروحه التي تجسد تفاصيل وحكايا وهويات العديد من النساء الفلسطينيات اللاتي ارتبطن به سواء بصنعه أو بلبسه.
بالتالي، أصبح من المهم جداً أن نكون حذرين في التعامل مع هوياتنا على مختلف تعددياتها، وقد جاء معرض “غزل العروق” ليقدم نظرة ناقدة على التطريز الفلسطيني من الضروري التوقف عندها والحديث عنها بجدية أكثر.
معرض “غزل العروق”: نظرة نوعية إلى التطريز الفلسطيني
معرض “غزل العروق” هو معرض من إنتاج المتحف الفلسطيني في بيرزيت. بعد 4 سنوات من البحث المعمق، يقدم المعرض مجهوداً عظيماً في تتبع تاريخ التطريز من قبَيل النكبة حتى يومنا هذا بحيث لا يتطرق فقط إلى تجميع كولاج متنوع لأثواب التطريز لمختلف قرى فلسطين على تعدد وحداتها وأشكالها وألوانها كما تعودنا أن نرى عندما نسمع كلمة “تطريز”. على نحو جديد، يقدم هذا المعرض نظرة نوعية إلى تحوّل استخدامات ومدلولات التطريز من موروث اجتماعي وشخصي إلى موروث سياسي بشكل رئيس وذلك عبر فترات زمنية مختلفة بدءاً من عشرينيات القرن مروراً بحقبة السبعينات والثمانينات ووصولاً إلى حقبة ما بعد أوسلو.
عند ارتياد المعرض، تدخل قاعة العرض فتقابلك “غابة” من الأثواب الفلسطينية المزركشة والمطرزة بألوان متنوعة، كما أنك تصطدم بتصاميم غير تقليدية لأثواب فلسطينية، فمثلاً يمكنك أن ترى ثوب منطقة جنوب فلسطين منتصباً في قلب غابة الأثواب يمتد بطوله إلى بضعة أمتار حتى تخال أن جنية عملاقة من مكان ما كانت ترتديه في الصحراء وتخيف به الناس، لكنك تكتشف لاحقاً أنه صُمّم كذلك لتتمكن النسوة من تجميع نصيبهن من المحاصيل والحصاد في أحضانهن ومن ثم ربطه والعودة به منتصرات لعائلاتهن.
أما في زوايا المعرض، تصطف الملصقات والشروحات على الحائط لتتبع تاريخ تغير استخدامات الثوب المطرز بالإضافة إلى عرض لمختلف الطبقات الاجتماعية التي صَنَعَت ولَبِسَت الثوب الفلسطيني.
الثوب الفلسطيني: تراث غني ومتنوع
كان للتطريز قبيل النكبة مكانة نوعية ومميزة لدى النساء الفلسطينيات، فكانت نقوش التطريز تحكي عن حياة القرية وحياة المجتمع من عادات وتقاليد وتفاصيل يومية كأشكال الحيوانات والنباتات.
بالفعل، التطريز عالم مليء بتفاصيل ومعان مختلفة وشخصية للعديد من النساء الفلسطينيات فكل عمل مطرز قد يخفي في طياته حكايا وتفاصيل تعرفها المطرزة وحدها. قد يعبر التطريز عن قصة أو شعور ما أو رأي معين تريد المطرزة أن تؤكده بتكرار نسق التطريز، فمن الممكن أن يرمز العمل المطرز إلى فرحة صبية شابة تحتفي بالحياة أو ربما تمثل النقوش المنتظمة والمرتبة لثوب الأم أو الجدة روح العائلة أو قد تعكس الزخرفة الخارجة عن الأنساق المألوفة روح فتاة متمردة.
النقوش المختلفة والألوان الزاهية تحمل معها قصصاً جمّة وقد تحفّز الخيال لعدد لا متناهي من الاحتمالات والمعاني. ربما فاتتنا قصة ثوب ملوّن تتشابك زخرفات نقوشه لتحكي حكاية صبية تحب شاباً من ضيعتها وتنتظر موعد لقائه عند نبعة الضيعة. تَعُد الأيام للقائه بتطريز نقشة جديدة كل يوم حتى يكتمل نسقها عند موعد اللقاء.
كثيرة هي القصص التي كانت تجبل هوية العمل المطرز والتي اتخذت بعداً شخصياً واجتماعياً بالأساس قبل أن تتخذ مع الوقت هوية اقتصادية وسياسية مستهلكة.
الثوب المطرز كعمل مأجور
لم يستمر الحال كما هو بالنسبة للعمل المطرز فمع بزوغ الخمسينيات والستينيات من هذا القرن، تم إنشاء جمعيات فلسطينية تُعنى بتقديم أجر للنساء العاملات مقابل العمل المطرز.
وبالتالي سُلِخ ارتباط المرأة عن منتوجها وتمأسس التطريز لكي يصبح عملاً ميكانيكياً خارجاً عن الروح، فقد كانت المرأة الفلسطينية تطرز ثيابها لنفسها أو المقربين منها لكنها أصبحت الآن تنظر إلى التطريز كعمل ذات أجر تُحصّل منه قوت يومها.
في منتصف الستينيات، تم إنشاء جمعية “إنعاش الأسرة” في رام الله، إحدى أبرز الجمعيات الفلسطينية التي أصبح التطريز بموجبها عملا مأجوراً. ومع حلول عام 1988 أشركت الجمعية 2600 إمرأة فلسطينية في سوق العمل حققن بفضله 60% من دخلهن.
لكن السؤال المهم هو إذا ما كان هذا الدخل كافٍ ومنصف بحق المطرزات فعلى المستوى المادي، كانت فكرة “التمكين الاقصادي” للمرأة أحد الأسباب الرئيسية لتشكيل جمعيات التطريز. أما بالنظر إلى الموضوع عن كثب يمكن القول أن هذا التمكين ظاهري أكثر من كونه تمكين فعلي فالنساء تنتج أكثر من حجم الطلب في السوق وبعد اقتطاع نسبة الربح لجمعية التطريز يتبقى الصافي الذي تتقاضاه المطرزة وهو مبلغ زهيد جداً خاصة وأن العديد من الجمعيات تعتمد سياسة الدفع على القطعة.
بعد عمل قيّمة المعرض السيدة ريتشل ديدمان لجرد لما يقارب 100 جمعية تطريز في الشرق الأوسط ما بين عمان ولبنان وفلسطين بما فيها الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وأراضي الـ 48، تبيّن أن معدل الأجور للمطرزات في مجمل مناطق فلسطين يتراوح ما بين 50 دولار إلى 150 دولار في الشهر. وفي الوقت الذي لا يجوز به التعميم ويتطلب الأمر دراسة معمقة أكثر في موضوع الأجور إلا أن هذه الأرقام بالمجمل تدل على إجحاف ملحوظ في حق المطرزات اللواتي يعتمدن على التطريز كمصدر رئيس للدخل.
الثوب المطرز كفعل مقاومة
لم يتحول التطريز إلى عمل مأجور فقط حيث تحول إلى فعل مقاومة بحت تم تسييسه وإختزاله من دلالاته لينحسر في الهوية السياسية. في سبعينيات القرن، أسست منظمة التحرير الفلسطينية مؤسسة “صامد” والتي اهتمت في تقديم ورشات تطريز للفلسطينيين في مخيمات سوريا ولبنان بحيث وُصِفَت النساء اللواتي عملن مع صامد بأنهن “لسن عاملات عاديات يتقاضين الأجور بل مقاومات سياسيات وإجتماعيات“.
وفي مطلع الانتفاضة الأولى، اتخذت المقاومة إنعكاساً مباشراً وواضحاً في أثواب النساء الفلسطينيات المناضلات حيث استُبدِلَت الأنساق والأشكال التقليدية بأشكال الحمام والبندقية والعلم الفلسطيني والخرائط والشعارات السياسية. وبالتالي، تزايد حضور التطريز الفلسطيني في العديد من المهرجانات الوطنية من إحياء ذكرى النكبة إلى مهرجانات العودة إلى المؤتمرات السياسية إلى حد إستهلاكه واختزاله.
ما بعد أوسلو: التطريز كرمز سياسي
بعد عام 1989، أي على مشارف اتفاقية أوسلو، تم إنشاء 64% من جمعيات التطريز في حين أن 16% منها فقط أُسس قبل عام 1970، حيث تدفقت الأموال الأجنبية إلى السلطة الوطنية وتدفقت معها “الحاجة الملحة” لإثبات الهوية الفلسطينية. بالتالي، راج الثوب الفلسطيني إلى حيز الاستهلاك حتى أُفرِغ من مضمونه وأصبح يستخدم بدون إبراز أي تميز أو تفرد لقيمة القطعة المطرزة.
الإختزال هو موت أجزاء من كينونة الشيء وإختزال التطريز كرمز سياسي أمات الكثير من قيمته التراثية والاجتماعية، وبالتالي أخذ التطريز بعداً وظيفياً أوتوماتيكاً انصهرت بموجبه جماليات التفاصيل.
بالفعل، مع دخول أوسلو إلى ساحة النضال الفلسطيني، باتت الرموز والمظاهر البصرية تغزو كل تمثيل دولي أو لقاء دبلوماسي فبات البحث عن مقومات الهوية الفلسطينية من بين الأولويات التي اهتمت بها السلطة الفلسطينية. في شتى الاحتفالات الوطنية، تغلغلت ألوان وأشكال العلم الفلسطيني في كافة عناصر المناسبات فغزت زينة البلالين والديكور وحتى كعكات الأعراس!
أما بالنسبة للتطريز، فقد أصبحت لمسة التطريز عصرية وناعمة تماماً كنعومة أوسلو، فنقحمها في تسويق أنفسنا كفلسطينيين في صالات الاجتماعات الدولية ومؤتمرات الأمم المتحدة. فعند الحديث عن “جاهزية الدولة”ومطالبة دول العالم بالاعتراف بفلسطين كدولة، كان التطريز إحدى الأدوات الرئيسية التي إستخدمت في “فاترينا” تسويق جاهزية الدولة واستجداء الشعوب في أحقية حصولنا على دولة إلى حد إفراغه من المضمون.
بالفعل، أرتاد إلى زيارة بازار محلي لمدة ثلاث سنوات تُعرَض فيه مختلف المنتوجات الفلسطينية من صناعات غذائية ويدوية وملبوسات التطريز التراثية من أثواب وشالات وأقراط وأساور وقلادات وحتى أحذية مطرزة. وبين تجوّلي من زاوية تطريز إلى أخرى أجد نفسي أمام نسخ من تطاريز متشابهة فقدت أي تميز لها تتكدس من السنوات الماضية وتنتظر من “يراها” ويشتريها.
الوقت، التفاصيل والهوية النسوية
لا يمكن نزع فكرة الزمن عن العمل المطرز. إن ماهية التطريز تنطوي على تكرار نسق معين يتخذ شكله عبر الزمن فالزمن عامل رئيسي تنسج المرأة من خلاله تحفتها المطرزة. بعيداً عن المعاني والقيمة التي تحملها القطعة المطرزة، إن فعل التطريز المجرد يتطلب وقتاً لإنجازه. بطبيعة الحال، اضطرت المرأة بموجب دورها الإنجابي أن تقضي وقتاً في المنزل مع أولادها مما جعل مكوثها في المنزل لفترات طويلة أمر محتّم ارتبطت معه الأعمال المنزلية وصناعة الملابس.
لا يوجد قانون يعرّف أن التطريز هو شأن نسوي فالمعرض يسلط الضوء على بعض المطرزات التي أنجزها بعض الأسرى الرجال أثناء مكوثهم في السجن. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أنه فقط عندما توفر الفائض من الوقت أمام الرجل للمكوث في مكان معين تمكن من المشاركة في أعمال التطريز.
في أحد أعمال الفنان الفلسطيني مجد عبد الحميد المرتبطة بالتطريز، استخدم الخيط الأبيض لإنتاج قطعة تطريز خالية من أي شكل أو نسق أو حتى لون. إستخدم فقط اللون الأبيض وغرزة التطريز وأطلق على هذا العمل “400 ساعة” وهو الوقت الذي استغرقه لإنجاز هذه القطعة المطرزة. أما بالنسبة للعمل “يما هذا تضييع وقت”، فهو عنوان قطعة شبيهة سُمّيت كذلك لرفض إحدى السيدات تطريزها كونها خالية من الشكل والمعنى على الرغم من أن الوقت المطلوب لإنجازها هو نفس الوقت المطلوب لتطريز قطعة تطريز بتصميم وشكل فني.
عن التفاصيل حدثني …
التفاصيل إذا هي ما تضيف قيمة على العمل المطرز، التفاصيل التي قد تغيب عن الرجال أو لا تُعطى أهمية كبيرة. في مسرحيتها “أمور تافهة”، تظهر سوزان غلاسبل أن الأمور التي اعتبرها الرجال “تافهة” هي في غاية الأهمية. تنطوي قصة المسرحية على بحث رجال التحقيق عن دلائل لجريمة قتل رجل في منزله. بينما بحث الرجال في كافة غرف المنزل وسخروا من نسائهن اللاتي كانت منشغلة في أحاديثهن “التافهة” عن لحاف مطرز، وجدت النساء في علبة الخياطة عصفور مقتول في قفص تمت تخبئته داخل العلبة لإخفاء دليل الجريمة.
هذه التفاصيل إذن هي ما تشكل المعنى للقطعة المطرزة فهناك قصة ودقة وروح وهوية إمرأة مجبولة في كل غرزة تحيك بها النساء عملها المطرز. لكن عندما تعتبر التفاصيل من المسلّمات، وتُختَصر، ولا يؤخذ الوقت الكافي لعرضها بما يليق بالجهد والوقت الذي استُغرِقَ في إنتاجها فلا ينصف ذلك قيمة العمل المطرز أو من أنتجه.
أين الهوية النسوية من التطريز؟
غابت الهوية النسوية عن تمثيل الثوب الفلسطيني والحديث عنه حيث لم تتلقّ المرأة الفلسطينية حقها في تمثيل العمل المطرز فغالباً ما سيطر رجالات السلطة على خطابات رموز القضية الفلسطينية وتحدثوا عن ثوب المرأة باسمهم عوضاً عنها، مُوَظفين بذلك أبويتهم المبطنة في تكريس الصور النمطية للمرأة وما يخدم مصالحهم السياسية وليس ما يمثله الثوب بالفعل!
ففي عمله الفني “زي التشريفات” والذي عرض أيضاً في متحف بيرزيت عام 2014، يتحدث مصمم الأزياء الفلسطيني عمر يوسف بن دينا عن شخصية الزعامة الأوسلوية المفتعلة التي تحتفي بالرموز المتراكمة دون التفكير في محتواها مثل غصن الزيتون والثوب المطرز وكرسي الأمم المتحدة…
يعكس الفنان هذه الشخصية في قسمه الفني “صورة الزي الرسمي” لرجل السياسة الفلسطيني سواء كان شهيداً أم أسيراً أم فدائياً أم بطلاً مقابل صورة المرأة الفلسطينية التي يتم تمثيلها دوماً في الثوب الريفي. في عمله، قام عمر بن دينا بتصميم زي رجال تقليدي باستخدام قطع نسائية على نحو مفارق وذلك من أجل تفكيك الهوية الذكورية المتعالية وإبراز هوس الرجال في السيطرة على جسد المرأة وتكريس الأدوار الاجتماعية. على سبيل المثال، استخدم خوري “الزنار” في تصميمه وهو الحزام الذي يلتف على خصر المرأة للسيطرة عليها كما قام باستخدام “تغطية تاج الرأس” والذي يوحي بالمحافظة وبضبط الرغبات الجنسية.
بالفعل، عندما يتحدث الرجل الفلسطيني عن الثوب الفلسطيني غالباً ما تكون الدلالات التي يستخدمها معه مرتبطة بدور المرأة الاجتماعي فهي زوجة الشهيد أو الأم المناضلة أو بالمختصر الشخص التابع لكن يندر الحديث عند الإشارة إلى الثوب المطرز عن دلالة مغايرة عن ذلك كدلالات جندرية متفردة أو رؤية شخصية نسوية مستقلة في هذا الزي التراثي.
دعوة لمراجعة توظيفنا للتطريز
في حين تجدر الإشارة إلى أن التطريز الفلسطيني يعكس بالفعل هوية وطنية كونه يعبر عن موروث شعب يتشارك جغرافيا وتاريخ وثقافة واحدة إلا أن الاستهلاك المفرط في استخدامه في السياق السياسي أفرغه من مضمونه.
أعتقد أنه حتى على المستوى الدولي لم يعد يجدي تكرار واستهلاك التطريز في “تسويق” الخطاب والرواية الفلسطينية الموجهة للعالم. وبالتالي، أصبح من الضروري جداً إعادة النظر في كيفية تمثيلنا السياسي واستخداماتنا لرموز هويتنا الوطنية. لكن الأهم من ذلك بالفعل هو تأثير التطريز محلياً علينا كفلسطينيين وكيف يؤثر علينا تغليب الجوانب السياسية على الجوانب الاجتماعية لما في ذلك من عدم إنصاف لكينونة التطريز كممارسة فردية واجتماعية بالأساس.
بينما تجري العادة في الانبهار بنقوش وأشكال وألوان العمل المطرز، آن الأوان لنصرف المزيد من الوقت لتوسيع فهمنا وارتباطنا بالتطريز والمطرزات على المستوى الشخصي. هذه دعوة إذن لمراجعة تعاملنا واستخداماتنا وتوظيفنا واحتفائنا بتراثنا المطرز فنحن بحاجة إلى الوقوف أكثر على الأجزاء والتروي لإدراك التفاصيل وصرف المزيد من الوقت للتعرف على العمل المطرز عن كثب وعلى المطرزات وخلفياتهن وقصصهن وظروف عملهن لكي نكون أكثر إنصافاً بحقهن وبحق قضيتنا كمحصلة.