أربعُ سنواتٍ مرّت على انطفاء شعلة كأس العالم في البرازيل عام ٢٠١٤. البطولةُ الممتعة التي شهدت توهّجًا ألمانيًا، وكارثةً برازيلية سوف يصعبُ أن تمّحي من ذاكرة سكّان بلاد البنّ وكرة القدم، الذين شاهدوا بأمّ أعينهم منتخب بلادِهم يتلقّى صفعةً لم يشهد تاريخه مثيلًا لها. البطولةُ التي شهدت أيضًا، فشلًا جديدًا لجوهرة الأرجنتين ليونيل ميسي، في رفع الكأس الذي يمنحُه مشروعية التربّع على عرش أفضل لاعب عرفتهُ اللعبة على مدار تاريخها. وها هو كأس العالم يطلّ برأسهِ من جديد، ليمنح نصف سكّانِ كوكب الأرض شهرًا آخرَ من المتعة، والاستلابِ أمام شاشاتِ التلفزيون. ويمنح البرازيلَ إمكانيّة محو العار الذي لحق بها على أرضها، وسط جماهيرها المهووسة. كما ويعطي فرصةً، قد تكون الأخيرة، للنجم الأرجنتيني، الذي انتشل بلادهُ من المراكز المتأخرة في التصفيات المؤهلة للبطولة، وذهبَ بها إلى روسيا عبر ثلاثية خالدة في مرمى الإكوادور في الجولة الأخيرة.
وكأس العالم بالطبع، يحملُ معان أكبر بكثير من هذه، ومفاجآتٍ أكبر دائمًا، وفي جعبتهِ دائمًا ما يجعلهُ بطولةً استثنائية، لا تتكرر كثيرًا.
اعتدنا، في المنطقة العربية على تواجد شحيح للمنتخبات العربية في البطولة، واعتدنا خروجَ هذه المنتخبات من الأدوار الأولى، غير أننا لم نعتد أن تُمثّل أربعة دولٍ عربية في بطولة واحدة، ليكون هذا من استثناءات البطولة التي تجري على الأراضي الروسية للمرة الأولى. وإذا كان من المعتاد رؤية منتخبات المغرب العربيّ، إضافةً إلى السعودية في الدورات السابقة، فإنّ تواجد المنتخب المصريّ يعدّ حدثًا في كرنفال الكرة العالمية ٢٠١٨. ولم يعُد خافيًا على أحد، أنّ انتظارَ الناس لنجم نادي ليفربول الإنكليزي، والمنتخب المصري محمد صلاح، لا يقلّ شغفًا عن انتظارِ نجوم البطولة الكبار مثل كريستيانو رونالدو وميسي ونيمار وغريزمان. لكنّ اللافت، هو التفاعلُ العربي، والمشرقيّ عمومًا مع الشاب الذي سيُتمّ يوم افتتاح مباريات منتخبه ضدّ الأورغواي في الخامس عشر من الشهر الجاري، عامه السادس والعشرين. إذ لم يكن صلاح النجم العربيّ الوحيد الذي يتألقُ في الدوريات الأوروبية الكبرى، سبقهُ لاعبون من المغرب العربيّ، أو من مصر نفسها، إلى أنديةٍ كبرى في أوروبا، حتى أنّ بعضهم حقق بطولةَ الدوري مع الأندية التي يلعب في صفوفها. مثل رياض محرز، النجم الجزائريّ الذي تألق في صفوف ليستر سيتي قبل عامين، وحقق معه بطولة الدوري الإنكليزي، وحاز على جائزة أفضل لاعب في إنكلترا، الجائزة التي حققها صلاح هذا العام.
لكنّ الحظوة التي رافقت اسمَ صلاح أينما حلّ مدهشة، ولا تُقارنُ بمثيلتها عند أي لاعب عربيّ آخر. ومن المرجّح أنّ الصورة التي أرادها الشاب لنفسه، فبناها بتؤدة ورويّة وجهد، أخذت مكانتها الحالية في وجدان الناس. عناده وخفره، هدوؤه وقدرته على التعلّم، إصراره على أن يكتب اسمهُ بحروف لا تمحى في تاريخ اللعبة، ثقته العمياء، عوامل كثيرة جعلت ابن «ناجريج» آسرًا للقلوب وقدوةً للشباب. حفلت مسيرة الفرعون المصريّ، بما يساعدُها على الترسّخ في الأذهان: ابتعادهُ عن الاستقطاب التاريخي في مصر – أهلي وزمالك. أهدافُهُ مع بازل ضدّ تشيلسي ذهابًا وإيابًا في دوري أبطال أوروبا. انتقالهُ إلى تشيلسي بعد أن أذلّهُ في مباراتين. خلافهُ مع المدرب البرتغالي الشهير في تشيلسي جوزيه مورينيو ورحيله إلى إيطاليا. هدفهُ الشهير مع فيورنتينا ضد يوفنتوس. أهدافهُ وصناعتهُ اللعب مع روما، عودتهُ ”المظفّرة“ إلى الدوري الإنكليزي. انطلاقته الصاروخية كماكينة لتسجيل وصناعة الأهداف في ليفربول. أغنيات المشجعين الإنكليز ذائعي الصيت في تعصبهم الذي يصلُ في كثير من الأحيان إلى العنف، جنونهم الذي جعلهم يصرّحون أنهم سيصيرون مسلمين إذا استمرّ ”الملك المصري“ في تسجيل الأهداف. صورتُهُ محمولًا على الأكتاف في استاد برج العرب ضد الكونغو، حين قاد منتخب مصر إلى كأس العالم، بعد غياب طويل. وتاليًا، إصابتهُ القاسية قُبيل كأس العالم في نهائي دوري الأبطال، الذي كانت لهُ شخصيًا اليد العليا في إيصال فريقه إليه، وخروجهُ باكيًا من الملعب، وسط سكون مروّع، والخشية من ألّا يستطيع اللحاق بالمونديال الروسي بسببها. مفاصل في منتهى الأهمية ساهمت في صناعة صورة الفتى المصريّ فائق السرعة.
استطاعت سيرة ”أبو صلاح“ سحبَ المشجّعين الذين كانوا يتهافتون على النجوم ”الآخرين“ إلى صفّه، واستطاعت بسمتهُ الطفولية أن تبعث طمأنينةً وفرحًا في نفوس كلّ من يشاهده. فهو الشاب، الذي يتحدّثُ لغةً يفهمُها جميع الناطقين بالعربية، وهذا فارق ليس بسيطًا ساهم بتفضيلهِ على بقية اللاعبين العرب الذين انتشروا في أندية القارّة العجوز. هذا فيما يخصّ المشجعين العرب. أما إذا اتجهنا نحو مصر، فإننا سنكونُ أمام ظاهرة لم تحدث من قبل، لا على المستوى الرياضي ولا سواه. فسكّانُ بلاد النيل، يعرفون تمامًا أن بلادهم لا تعيش أفضل أيامِها، وتكاليف الحياة بدأت تضيّق الخناق حول رقابهم، ويبحثون عن مخلّصٍ ناجٍ من الاستقطاب الحاد الحاصل في البلاد، يعلّقون عليه آمالهم، ويمنحونهُ مشاعرهم الصادقة، البعيدة عن التزلّف. حتى ذهبَ الأمر بعشرات الآلاف منهم إلى كتابة اسم صلاح على أوراق الانتخابات الرئاسية المصرية الأخيرة، في وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي، رغم أنّه لم يرشح نفسهُ طبعًا!
كلّ هذا يجعل من المونديال الروسيّ القادم استثنائيًا، حيث أنّ ملايين البشر، ممن لم يهتمّوا يومًا بكرة القدم، باتوا اليوم في صفوف جماهير اللعبة، الجماهيرية أصلًا. فالكلّ اليوم يعتبرون أنفسهم: أهل العريس!
هذا المقال هو جزء من ملف “أبطال الملاعب” وهو من إعداد تمّام هنيدي.