منذ أسابيع قليلة سابقة على بدء الدورة الـ 21 (14 يونيو/ حزيران ـ 15 يوليو/ تموز 2018) لمباريات كأس العالم في كرة القدم، المُقامة في روسيا، تشهد وسائل التواصل الاجتماعي، وأبرزها “فيسبوك”، حملات لبنانية لن تخلو غالبيتها الساحقة من الحدّة والتعالي والنبرة المتعجرفة في معارك افتراضية بين مُريدي المنتخبات المُشاركة، يُتوقّع لها (المعارك) أن تتحوّل إلى تحدّيات متشنّجة وقاسية، وإلى مواجهات عملية في أرض الواقع، أي في مقاهٍ وملاهٍ ليلية وشوارع مختلفة، لحظة انطلاق أول مباراة في هذا الموسم، بين المنتخبين الروسي والسعودي، 6 مساء يوم الافتتاح، بحسب توقيت البلد المضيف.
عنصرية لبنانية
التوقّعات، في مناسبة كهذه ومع مريدين كهؤلاء، ملغاة كلّيًا لمصلحة الحسم، إذْ يُعلن المريدون تأكيدات صارمة بفوز منتخباتهم، قبل بدء المباريات. فهؤلاء يمارسون حملات تحريضية مُكثّفة، تهدف إلى إثبات جدارة منتخباتهم وحقّها في الحصول على الكأس، مُستعيدين ماضٍ عريقٍ من المفاجآت السارّة، ومُبرّرين فشلاً أو أخطاءً أو تعثرات. والحملات، إذْ تتلوّن بأمزجة كتّابها وهواجسهم وثقافاتهم ومدى امتلاكهم براعة السخرية والشتم المبطّن والعلني، تعكس شيئًا من وعي/ لاوعي فردي ـ جماعي، يتعلّق بمسائل أبعد من مباراة، وأعمق من حملات، وأخطر من ثقافة.
ذلك أن حملاتٍ كهذه لن تخلو من “كليشيهات” مبنية على نَفَسٍ عنصريّ لبناني مقيتٍ، أو على استدعاء أحمق لمقتطفات مبتورة من تاريخ بلدٍ وشعبٍ، ومرتكزة على انعدامٍ شبه مطلق لأدنى معرفة بخصائص دول وحضارات وشعوب يُناصبوها العداء، وحتى تلك التي يُناضلون من أجلها. فـ”فيسبوك” لن يكون مساحةً لتحليلٍ إيديولوجي أو ثقافي أو معرفي أو سجالي أو نقدي، لانتفاء حاجته إليها، ولكونه ملاذًا أكثر حرية للجميع كي يقولوا ما يريدون، ويُعبّروا عما يرغبون، ويعلّقوا كما يحلو لهم. مع هذا، فإن تعليقاتٍ مختلفة ـ وإنْ يبقى عددها أقلّ، إما لتنامي الوعي لدى أصحابها، وإما لامتلاكٍ واضحٍ لأدوات مواجهة مختلفة، كالسخرية اللاذعة مثلاً ـ تكشف جهلاً بحقائق، ورفضًا لفهم وقائع، وانفضاضًا عن مسارات عملية.
أما الركون إلى حجّة مفادها أن الغالبية الساحقة من آليات استخدام “فيسبوك” غير معنية بما هو خارج المعركة المباشرة، المحتاجة إلى كافة الوسائل الكلامية الممكنة (من دون تناسي الصُوَر الفوتوغرافية والمتحرّكة، المستلّة من ماضٍ قريب أو بعيد، التي تقدّم ما يراه مريدو المنتخبات من ترويجٍ أو إدانة) في “أم المعارك”، فلا معنى لها البتّة. ذلك أن التاريخ غير مهمّ، والجغرافيا غير مفيدة، والثقافة غير مُتمكّنة من تحصين المعركة بما ينعكس إيجابًا عليها، والوعي المعرفي ليس صالحًا لمجابهات كهذه. بل على نقيض هذا كلّه، تُصبح العنصرية، بمفرداتها كلّها ـ وهي (العنصرية) نتاج تربية وسلوك يوميين في بلدٍ كلبنان ـ أساسية في تحميل تعليقات متنوّعة ما تحتاج إليه من قوة وتحدٍ.
وللطائفية/ المذهبية اللبنانية دورٌ في كيفية إدارة المعركة وتحريك المريدين، في ظلّ انشقاق سياسي ـ اقتصادي كبيرٍ، خصوصًا مع المشاركة العربية المتمثّلة بـ 4 منتخبات فقط، هي: مصر والسعودية والمغرب وتونس. لكن، في لبنان ـ الذي يعاني اصطفافاتٍ خطرة في البنيان الذي يتكوّن منه البلد، في المستويات كلّها ـ تُصبح مشاركة كهذه سببًا إضافيًا لحدّة المواجهة، من دون تناسي مشاركة إيران أيضًا، الحاضرة في لبنان ومحيطه الجغرافي بفعاليةٍ تزيد من انشقاقاته الداخلية.
وإذْ تبتعد المغرب وتونس عن الحساسيات القاتلة في الداخل اللبناني، كابتعادهما الجغرافي المفتوح على السياسة والاقتصاد والإعلام والأمن والاجتماع، فإن مصر الأقرب تبقى سببًا خفيفًا لنزاعات ستجد في المشاركتين الإيرانية والسعودية امتداد لحالة التبعية اللبنانية المتنوّعة الأشكال والمفاعيل، وهي تبعية معروفة لهاتين الدولتين المؤثّرتين، بقوّة، في لبنان. فالنزاع السني ـ الشيعي المفتوح على حروبٍ وتهجير وتغييرات ديموغرافية خطرة في دول الشرق الأوسط المحيطة بلبنان، وانعكاسات هذا كلّه على البلد المتاخم لفلسطين المحتلّة، أي للاحتلال الإسرائيلي، سيكون أداة مواجهة في “الخارطة الرياضية” لكأس العالم في لبنان، تُشبه المواجهة نفسها بين المعسكرين، وإنْ بحدّة أقلّ من تلك الحاضرة في المواجهة بين مُريدي المنتخبات الكبيرة، كألمانيا والبرازيل وفرنسا وإنكلترا والبرتغال والأرجنتين وإسبانيا وغيرها.
تحريض لا نقاش
هذا واضحٌ في “فيسبوك”، بعيدًا عن كلّ تعميم وشمولية سيكونان مغايرين للواقع. فالبعض القليل مُحصّنٌ بوعي معرفي يحول دون التفلّت المطلق لكتاباته وتعليقاته، ويعتمد لغة واضحة لن تخلو من سخرية أو إدانة أو تبرير، لكنها تترفّع عن مفردات يُستشفّ منها سقوطًا في البذاءة والتفاهة. هذا البعض منصرفٌ إما إلى ذكرياتٍ مترافقة ومعلومات، وإما إلى تذكيرٍ مسنود بإثباتات، وإما إلى تحليل يعتمد خبرة واختصاصًا وسعة اطّلاع ووعي معرفيّ برياضة كرة القدم نفسها، وبثقافتها واقتصادها ونجومها وأساليبها ومعارفها، وهذا كلّه معطوفٌ على ثقافة رحبة تتيح رونقًا للكتابة والتعليق والتحليل.
كما أن بعضَ هذا البعض يجد في الكتابة ـ التي تمزج بين الأدب والتحليل الرياضي والإسقاطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجماهيرية والمالية ـ حيّزًا أكبر من تعليقٍ “فيسبوكيّ”، وأجمل من تحريضٍ شعبوي، وإنْ يسمح لنفسه بشيء من التحريض والمُناكفة والشعبوية والسخرية في صفحته الـ”فيسبوكية”.
أبشع عنصرية في التعليقات تلك مُنصبّة على أصول لاعبين، بعضهم ـ إنْ لم يكن معظمهم الغالب ـ مولودٌ في بلدانٍ هم مواطنون فيها؛ أو على تاريخ بلدٍ يرتبط أحد فصوله (التاريخ) بشخصية قاتل، كأنّ يسخر أحدهم (أو يظنّ نفسه ساخرًا) من المنتخب الألماني باستخدام تعابير مقززة بطريقة بلهاء، كـ”هايل هتلر” أو “هولوكوست”. فرغم أن هناك إمكانية إحالة استخدام كهذا إلى غباء وجهلٍ مطلقين وادّعاء وتصنّع أحمقين، إلاّ أن الاستعانةَ بمفرداتٍ عنصرية تلبيةٌ للاوعي طاغٍ في نفوس كثيرين، يمارسونها (العنصرية) في يومياتهم اللبنانية، ويجدون فيها نَفَسًا لعيشٍ يحصّن وجودهم كما يعتقدون.
أما التشديد الانتقادي الساخر على أصولِ لاعبين في منتخباتٍ مختلفة لتبيان “صفاء عرقيّ” في منتخباتٍ أخرى، فنابعٌ بدوره من تربية وسلوك موغلين في جهل مُدقع، وأنانية وتَعَالٍ واستخفافٍ وحماقة وتشاوفٍ. ويتّخذ قولٌ كهذا معنى آخر، عندما ينصبّ على المنتخب الألماني تحديدًا، خصوصًا في دورات سابقة، لربطٍ لاواعٍ أو مسطّح بين الراهن الألماني و”ثقافة العرق النازي الصافي”، التي يكافح الألمان لتنقية ثقافتهم اللاحقة لذاك الفصل الدموي منها، والتي يدفع الألمان أنفسهم أثمانًا باهظة بسببها. قولٌ كهذا يُغيّب ـ عن جهلٍ أو عن قصدٍ ـ تحوّلات جمّة تعيشها ألمانيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وانصراف قسميها الغربي والشرقي (ربما الغربي أكثر بسبب وقوع الشرقي رهينة الاستبداد الشيوعي زمنًا طويلاً) إلى ممارسة نقدٍ ذاتي يفضي إلى مصالحة مع تاريخها وذاكرتها، وإلى اشتغالٍ حيوي وفعّال سيجعل ألمانيا الموحّدة (3 أكتوبر/ تشرين الأول 1990) أقوى اقتصادٍ في أوروبا حاليًا.
لكن، في ظلّ الاحتقان الـ”فيسبوكيّ”، لن يكون لهذا كلّه قيمة تُذكر، بل ربما سيرى كثيرون في كلامٍ كهذا دافعًا لإطلاق مزيدٍ من السخرية والعنصرية والتشاوف على كلّ قائلٍ به. فالسخرية والعنصرية والتشاوف جزءٌ من مشهد “فيسبوكي” مفتوح على مزيدٍ من التشنّج، مع بدء الدورة الـ 21، وطوال أيامها الـ 32. فالأهمّ، بالنسبة إلى الغالبية الساحقة من المتصارعين الـ”فيسبوكيين”، كامنٌ في المنتخب الذي يؤيّدون، وفي رفاهية المنتخب الذي يُدافعون عنه بشراسة، وفي أولوية انتصاره “المؤكّد” وأهميته و”سهولته”، وإنْ قبل بدء الدورة الـ 21 تلك. أما التاريخ والثقافة والديمقراطية والنقاش الهادئ فأمور تليق بمن يتوهّم أن الوعي المعرفي أرقى من الأقدام، وأن الحسّ النقدي أعظم من خطط حربية لمعارك تُخاض على بساط أخضر من أجل كأسٍ واحدة.
هذا المقال هو جزء من ملف “أبطال الملاعب” وهو من إعداد تمّام هنيدي.