عن فيروز والموسيقى الفلسطينيّة: الشعب أقوى من الآلهة

فيروز

نائل الطوخي

كاتب من مصر

أذكر أني عندما سمعت أغنية "وين ع رام الله" لأول مرة، شغلتها عدة مرات، إعجابًا باللحن طبعًا، ولكن أيضًا لأني أردت التيقن من الجملة التي تأتي بعدها: "ولفي يا مسافر، ما تخاف من الله".

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

14/06/2018

تصوير: اسماء الغول

نائل الطوخي

كاتب من مصر

نائل الطوخي

بداية معرفتي بالموسيقى الآتية من بلاد الشام كانت عن طريق فيروز.

بالنسبة لبعض المصريّين، كل غناء الشام أمر واحد، وبالنسبة للكثيرين منهم، كل غناء العرب أمر واحد. وبالنسبة لي، كانت فيروز المعبر الأوّل لكل هذا التراث الساحر والغني.

يلزم في البداية معبر شديد الشهرة ليدخل المرء في التفاصيل الأقل شهرة، والأكثر سحرًا، وربما للانقلاب على هذا المعبر نفسه فيما بعد.

بالبداية، لم أطق الدبكة

للدخول إلى الموسيقى الفلسطينية بالتحديد، كان يلزمني التركيز على نوع واحد من الموسيقى الرحبانيّة والفيروزيّة؛ الدبكات، الدبكات التي ترقصها الجموع في لبنان كما في فلسطين.

في البداية لم أطق الدبكة، رأيتها موسيقى فجّة وفظّة لا تُناسب ذوقي المرهف، كشاب لم يتعد العشرين ويعدّ نفسه لأن يكون مثقفًا ذا ذوق “حساس”.
 

مرة وراء مرة بدأت أتذوّق الدبكات، بطابعها البدائيّ والعنف والوحشيّة الكامنة فيها. لم تعد سائر أغاني فيروز، الناعمة والرقيقة وذات الإيقاعات الراقصة، ترقصني. فقط الدبكات صارت تفعل. وتزامن هذا مع اهتمامي بالموسيقى الفلسطينيّة، مع تعرفي على أصدقاء فلسطينيّين، ومع المزيد من قراءتي عن الصراع  الثقافي بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين.

تمهدت الأرض بالنسبة لي إذن للدخول في الدبكات وأغاني الأعراس والزغاريد الفلسطينيّة. فهمت الموسيقى الفلسطينيّة الشعبيّة، موسيقى المجاميع، الموسيقى التي لم يكتبها مؤلف بعينه.

يمكننا أن نحصي كثيرًا من الموسيقيّين الفلسطينيّين الرائعين، ولكن بالنسبة لي، يظل الكلام عن “موسيقى فلسطينيّة”، هو الكلام عن الموسيقى الشعبيّة بالتحديد. لا أعرف أساطير غنائيّة فلسطينيّة، على غرار فيروز اللبنانيّة مثلًا، أو أم كلثوم المصريّة، وحتى المغنّين الفلسطينيّين الرائعين، والذين لم يتحوّلوا لآلهة بعد، يندر إيجاد من لا يستلهم، من بينهم، الغناءَ الشعبيّ الفلسطينيّ. فعلها الشعر الفلسطينيّ، أنتج إلهه الخاص، محمود درويش، ولم تفعلها الموسيقى الفلسطينيّة بعد، لا يزال إلهها هو الشعب، الراقص في الدبكات جماعةً، والمنوّح في الجنازات جماعة. 

الشعب المغني

في عقلي، كانت الدبكات الفيروزيّة مقترنة بنظيراتها الفلسطينيّة، حتى بدأت هذه التشبيكة تنحل وبدأت ألاحظ الاختلافات.

مثلًا، لم يجرؤ أحد من نجوم الغناء الفيروزي على تسمية فصيل معاد، لم يجرؤوا إلّا على الإشارة لمفاهيم السلام مقابل الحرب والحبّ مقابل الكراهيّة، بتجهيل جميع أطراف الصراع، مع الإحالة لأسماء ضيع وعائلات متخيلة. كيف يمكن لشخص يسمّي العدو، في خضم حرب أهليّة، أن يصبح إلهًا على غرار فيروز؟ إذا كنت تمتلك الموهبة، فإما أن تكون مثيرًا للجدل أو تكون إلهًا. فهمت فيروز هذا جيدًا ونأت بنفسها عن السياسة المباشرة لتصبح إلهة.
 

في المقابل، ونظرًا لكون “الشعب” هو إله الغناء الفلسطينيّ، وليس فردًا بعينه، كانت للموسيقى الفلسطينيّة ميزة الجرأة على تسمية العدو: إسرائيل، ووقائع معينة، صبرا وشاتيلا، وأماكن بعينها، القرى الفلسطينيّة المهجرة. سواء مع نبرات الحزن والنحيب على الهزيمة، أو نبرات الأمل والتفاؤل بالانتصار على العدو.

كان لهذا الأمر، التفاصيل الحيّة المذكورة بأسمائها الواقعيّة، وقع شديد في نفسي. أسمّي هذا نوعًا من “التوسخ”، المحبب بالطبع؛ التفاصيل السياسيّة والاجتماعيّة التي تدخل الغناء “الجميل”، فتجعل الجمال ملاصقًا للعالم، ليس مجاوزًا له، وأفكر بالتحديد في “فرقة العاشقين”، أفكر في تراث الكفاح المسلح، والغناء الملتزم، البدائي والمُطرب، في السبعينيات. وأجدني كل مرة أسمع لهم أرتعش مع فلسطين ومع حلم العودة، ارتعاشة ساذجة بالطبع، مثلما أن “الغناء الملتزم” هو أمر ساذج بالضرورة، ولكنها ارتعاشة حقيقيّة، وأكذب لو أنكرتها.
 

“كدا بيقاوموا يعني؟”

ولدت في الكويت، وجيراننا كانوا فلسطينيّين، وتعوّدت أمي على الإشارات العنصريّة لإنجاب الفلسطينييّن لأطفال كثر، باعتبار ذلك نوعًا من المقاومة. لم ترَ أمي في الموضوع سوى قلة الأدب المضحكة. “كدا بيقاوموا يعني؟”، كانت تقولها وتضحك. واستغرق الأمر الكثير من الزمن لأدرك أنهم “كدا بيقاوموا فعلًا”. بالإشارة للهستيريا الإسرائيليّة المرعوبة من “الخطر الديمغرافي العربي”، فهمت أنهم كدا بيقاوموا فعلًا، فهمت هذا أيضًا من سهولة إدخال تعبيرات سياسيّة في أغاني الأعراس التقليديّة؛ سهولة الاقتران بين العرس والمقاومة.

مثال واحد: في أغنية “قولوا لإمه تفرح وتتهنى، وترش الوسايد بالعطور والحنّة”، وعلى غرار جميع الأغاني الشعبيّة، تسهل إضافة أبيات أخرى، لم يؤلفها شخص معروف وإنما تولد عفو الخاطر، تشير إلى الحق الفلسطيني في الأرض: “والدار داري والبيوت بيوتي، نحنا خطبنا، يا عدوي موتي”. أو، بصوت دلال أبو آمنة، و”يا أم الأسير الله يهدي بالك، ريت الحرية عامرة عَ اديارك”. “يا أم الأسير الله يتم عليكي، يوم الفراجي نيجي ونهنيكي”.

(نكتة تافهة: في إطار محاولاتي الدائمة للاستظراف، غيرت كلمات الأغنية أنا أيضًا منذ سنوات، لتتناسب مع أفلام المخدرات المصريّة: “ويا بيي مريم لا تكون عبوسي، واسمح بوجهك واعطينا الفلوسي. يا بيي مريم لا تكون طماعي، واسمح بوجهك نعطيك البضاعي”).

“كيف تجرؤون يا جماعة؟”

أذكر أني عندما سمعت أغنية “وين ع رام الله” لأول مرة، شغلتها عدة مرات، إعجابًا باللحن طبعًا، ولكن أيضًا لأني أردت التيقن من الجملة التي تأتي بعدها: “ولفي يا مسافر، ما تخاف من الله”.

“ما تخاف من الله؟”، فعلًا؟ كيف تجرؤون يا جماعة؟ هذا المستوى من الجرأة لم أجده في أغنية عربيّة أخرى. أجده بالتأكيد في تعبيرات عربية كثيرة (شامية بالتحديد)، ولكن كون المؤلف الشعبي قرر نقل التعبير الشعبي إلى أغنية تؤدي بنفس الكلمات فهذا ما أدهشني للغاية. جدير بالذكر أن اللحن قد تمصّر، والمدهش أنه تمصّر في اعتصام رابعة الذي شارك فيه أنصار الرئيس الإخواني السابق محمد مرسي، بكلمات مختلفة: “مصر إسلاميّة، مصر إسلاميّة، قولوا للعالم مصر إسلاميّة”.

لنتذكر أن هذا “التوسخ” كما أسميته، أي إدخال تفاصيل سياسيّة على أغنية ذات طابع “جميل”، هو سلاح ذو حدين.

 

هذا المقال هو جزء من ملف “الأغنية الفلسطينيّة، سردية الناس والمكان” إهداء لذكرى الفنانة الفلسطينيّة ريم بنّا. وهو من إعداد رشا حلوة.

الكاتب: نائل الطوخي

هوامش

...للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع