عام 1998 فازت فرنسا بكأس العالم. وكنت قد حضرت جميع المباريات التي لعبها المنتخب بنفس الكنزة. كنت أعتبرها جالبة للحظ، ولم أبدلها في أي مباراة للمنتخب الأزرق!
أنا لا أومن بالخرافات والتعاويذ طبعاً، ولكن بعد انتهاء المونديال. وبعده أيضاً وليس خلاله قد أسخر من فكرة التعصب الأعمى، ومن تخريب العلاقات الشخصية مع الآخرين بسبب تشجيعهم منتخبات أخرى، وعدم اعترافهم بأهمية منتخبي، نعم “منتخبي” بالياء. يحدث أن تتماهى مع منتخب الدولة أو النادي الذي تعشقه لدرجة يصير انتصاره تعويضاً عن خيباتك الحياتية، وهزيمته تستهدفك شخصياً!
لماذا فرنسا؟
مع بداية تشكل وعيي الكروي منتصف الثمانينات، كان أغلب أبناء جيلي يشجعون البرازيل، أما القلّة الباقية فكانت تشجع الأرجنتين، فرنسا، وألمانيا الغربية وقتها. لا شك أن نجوم هذه المنتخبات كانوا قد لعبوا دوراً أساسياً في تحديد خياراتنا. كان زيكو بوجهه الطفولي ومهاراته وتهديفه للبرازيل، وكان للأرجنتين دييغو مارادونا، الأسطورة الذي يغني اسمه عن وصفه، أما ألمانيا الغربية فكان لها كارل هاينز رومينيغه، الألماني المختلف عن اللاعبين الألمان المشهورين بقوتهم البدنية، ولعبهم المنظم القتالي، فقد كان يلعب بذكاء ويسجل بخفّة. ولكن كان لفرنسا ميشيل بلاتيني، اللاعب قليل الاستعراض كثير الفعالية، الذي يلعب بخياله أكثر من مهاراته، يسجل الأهداف الحاسمة رغم كونه لاعب وسط، والضربة الحرة المباشرة تعني له هدفاً محققاً كأنها ضربة جزاء للآخرين!
هو بلاتيني إذاً من حسم خياري بالتشجيع الكروي، لأجله أشجع منتخب فرنسا من يومها، ومن أجله أيضاً أشجع نادي يوفنتوس الإيطالي. وقد ترتبت على هذا القرار بالطبع نقاشات حامية مع العائلة والأصدقاء، نقاشات تختلط فيها كرة القدم بالسياسة والتاريخ. فعلى عادتنا في تسييس أي شيء، وكطفل بين المرحلتين الابتدائية والإعدادية، في ثمانينات القرن الماضي، محاطاً بأهل وأقارب أغلبهم يساريون بدرجات متفاوتة، بدا خياري الكروي غريباً، بل شاذاً، فالبديهيات اليسارية وقتذاك كانت تقتضي تشجيع منتخبات الشعوب النامية وليس تلك الملوثة بالماضي الاستعماري، البرازيل أو الأرجنتين أولاً، تليها الدول الصديقة كالاتحاد السوفييتي وباقي دول حلف وارسو، ثم المنتخبات الإفريقية المكافحة وتلك العربية في حال تأهلها!
عدّة الجدل اليساري كانت جاهزة على الدوام. كانوا يرددون أمامي مقولات مكرورة حول اللاعب الذي يُخلق في أميركا اللاتينية بينما يُصنع في أوروبا الغربية. الأطفال اللاتينيون الحفاة المتسخون يلعبون بمتعة على أسفلت حارات البؤس، مقابل رفاهية أطفال أوروبا، الذين يلعبون بقمصانهم النظيفة المكوية في مدارس مخصصة على عشب طبيعي ممتاز. كانوا يتحدثون أيضاً عن السحرة راقصي السامبا أو التانغو مقابل الماكينات المنظّمة، وعن توق تلك الشعوب لمجد كروي ينسيها شقاءها، مقابل مجتمعات تملك كل شيء!
ولأن الجدال ضمن هذه المنظومة الفكرية سيكون خاسراً حتماً، قررت أن أقلب الطاولة وأصبح يمينياً! لم يكن الموضوع مزحة أو مجرد مناكفة بالنسبة لي بل منتهى الجد. وهكذا، على مدى عقد ونيف تعمق انحيازي لليمين، وعملت على تأصيله، فكنت مع رونالد ريغان وحرب النجوم، ولاحقاً مبتهجاً بهزيمة واندحار الشيوعية، وكنت أسخر من الواقعية الاشتراكية في السينما والأدب، بينما أستمتع بوصف السينما الأميركية بأنها حقيقية وعظيمة، وأُعجبت بنجوم البوب. كما أضحى الكتّاب والشعراء العرب المفضلين لدي هم أدونيس وسعيد عقل ولاحقاً أمين معلوف، مع ادعاء عدم الاكتراث، أو فلنقل التقليل من أهمية عبد الرحمن منيف وغالب هلسا ومظفر النواب المفضلين لدى أصدقائي. بدأت قراءة أنطون سعادة والإعجاب به بديلاً عن إعجابهم بمهدي عامل وحسين مروة، وإذا ذكر أحدهم كارل ماركس أقول باستخفاف أن آدم سميث أفهم منه، رغم أني لم أكن قد قرأت حرفاً لأي منهما، وكنت متيقناً أن أحداً منهم لم يسبق أيضاً أن قرأ لماركس، أو سمع بسميث، وهذا كان يجعلني أشعر أنني كسبت جولة مسبقة في النقاش!
لبنان الحاضر دوماً في أحاديثنا خلال حربه وبعدها، دخل أيضاً في هذه السجالات، متسلحاً ببث المؤسسة اللبنانية للإرسال الذي كان منفذنا إلى العالم، والمتفوق على بث التلفزيون السوري الكئيب بما لا يقارن! وقد صار عندي وقتها أسلحة جديدة، المحطة اللبنانية متموضعة يمينياً، وتعرض أحدث المسلسلات والأفلام الأميركية. وهكذا كنت أستمتع بمشاهدة جيمس بوند وأمثاله وهم يحبطون مؤامرات عناصر الكي جي بي السوفييت الأشرار، مع نمط الحياة المترف المتعارض مع بؤس النمط اليساري. جاهرت باعتبار الوجود العسكري السوري في لبنان احتلالاً، ولكن كان عندي مشكلة حقيقية في تبني قضية القوات اللبنانية وقائدها سمير جعجع، فمنسوب العنصرية ضد الشعب السوري كان طافحاً لديهم، وكانت تلك الدعاية التي تعرض على شاشتهم طفلاً لبنانياً يكتب على الجدار “السوري عدوك” تستهدفني كباقي شعبي. لكن هذه العقدة حُلّت لاحقاً مع بروز ظاهرة ميشال عون! فرئيس الحكومة العسكرية وقتها كان صاحب خطاب أكثر وطنية وأقل عنصرية، وكان مدعوماً بقوة من فرنسا ورئيسها فرانسوا ميتران، فرنسا التي ساقني عشق منتخبها إلى الوله بكل ما يتعلق بها من سياسة وتاريخ وآداب وفنون، حتى ندمت على اختياري للإنكليزية كلغة أجنبية بدلاً من الفرنسية في المدرسة!
في العام 1990 غزا صدام حسين الكويت ودخل الجيش السوري إلى التحالف العالمي لطرده بقيادة أميركية، وتمت مكافأته بتمكينه من لبنان، ليلجأ ميشال عون للسفارة الفرنسية، ويهيمن النظام السوري على لبنان، لاحقاً سيتفكك الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية لتنتهي الحرب الباردة بانتصار الأميركيين!
عام 1990 لم يتأهل منتخب فرنسا لكأس العالم، فبعد اعتزال بلاتيني وجيله من النجوم، فشلت فرنسا في إنتاج جيل جديد من الموهوبين، وتكرر الأمر في الكأس اللاحق عام 1994 بسبب هدف للاعب البلغاري كوستادينوف في الدقيقة الأخيرة من المباراة الحاسمة في التصفيات بين المنتخبين في باريس.
أدى فوز ألمانيا الغربية باللقب في مونديال 1990 قبل أشهر من إعادة توحيدها مع ألمانيا الشرقية، بالإضافة للأداء القوي لمنتخبها إلى تضاعف عدد مشجعيها السوريين. كما شاع تشجيع منتخبات أوروبية كإيطاليا بنجومها باجيو، مالديني، فياللي، وهولندا بجيلها المعجزة غوليت وفان باستن وريكارد كما وبرزت إسبانيا أيضاً.
وهكذا أدى خفوت الصوت اليساري العالمي والمحلي، وتعدد المنتخبات الأوروبية ذات الحظوة، مع غياب فرنسا المديد عن المونديال، إلى افقاد قضيتي في تشجيع منتخب فرنسا مضمونها السّجالي، فصار تشجيعها مثاراً للسخرية أو الشفقة!
كل هذا سيختفي في العام 1998 ففرنسا التي استضافت المونديال هذه المرة، ربحت الكأس بعد سحقها للبرازيل في النهائي 3-0، وكان لديها مدرب داهية هو إيمي جاكيه، الذي أحسن إدارة نجوم منتخبه وعلى رأسهم زين الدين زيدان. وكان للانتصار الفرنسي قبولاً عاطفياً قوياً هذه المرة من خصوم سابقين، فالأصول الجزائرية لزيدان، والأصول الأفريقية لمجموعة من أبرز النجوم الفرنسيين كدوساييه وتورام وكاريمبو وفييرا، ساهمت في إعطاء صورة عالمية للمنتخب الأزرق كتشكيلة متضامنة مضادة للعنصرية، وهكذا عدت للفخر بخياري الكروي دون سجال مع اليساريين بل بترحيبهم ومودتهم!
هذا المقال هو جزء من ملف “أبطال الملاعب” وهو من إعداد تمّام هنيدي.