حين دخلت مصادفة إلى غرفة شريكتي في السكن انتبهت إلى صورة فوق مكتبها مرسوم عليها فرخ بطّ وبعبارة كبيرة مكتوب: أن تأكل اللحم يعني أن تقتل الحيوان. في الجهة المقابلة داخل رفوف المكتبة كتاب كبير جداً “كاماسوترا”. من الممتع مراقبة غرف الآخرين ومحاولة فهم العالم ولو من نافذة صغيرة يقدمها ترتيب شخص لغرفته ويعرض فيها أفكاره.
في فرنسا يوجد طبقة “اجتماعية واقتصادية” من الفرنسيين يطلق عليهم بالفرنسية اسم “بوبو” بو الأولى تعود للبرجوازيين: بورجوا، والثانية للبوهيميين: بوهيمي. وهو مصطلح أطلقه أول مرة الباحث الاجتماعي الفرنسي ميشال كلوسكارد في كتابه: الفاشية الجديدة وإيديولوجيا الرغبة سنة 1973.
يأكلون الطعام الصحي والبيولوجي وغالباً النباتي، لديهم اهتمامات بالبيئة والأدب والفن. وجود مثل هؤلاء الأشخاص في فرنسا، وكتجربة ذاتية، لم يكن سيئاً، بالعكس، رغبتهم بالتغيير تجعل من سلوكهم حيال الآخر مرحّباً وفاعلاً ومتفاعلاً، وربما متعاطفاً في بعض الحالات، هذا لا يشكل قاعدة عامة بطبيعة الحال. مع هذا لم أستطع منع نفسي من التوقف عند مفردات الجملة المكتوبة بجانب صورة فرخ البط: قتل، تأكل، لحمة، حيواناً.
أحياناً انتماؤكَ لعالمين، حياتكَ داخل بيئتك المحيطة بشكل مباشر والبيئة التي تنتمي لها والتي يصعب التخلص من أثرها حين يكون ثمة خلل داخلها يجعلكَ تُخضع التجارب الحياتية للمفارقة بشكل مستمر. الإنسان بوصفه ممراً للمفارقات ومعبراً لها، وفي مرحلة ما قد يتحول إلى مجرم، ولو بفكرة أو صورة. لستُ من محبي اللحمة بشكل كبير أو من المدافعين عن مطبخنا العامر “بالدسوم” واللحوم من دون رحمة لا للحيوان ولا للإنسان، لكن لماذا يكتفي الأوروبي المثقف عند هذا الحد من الموقف؟ أن يتوقف عن أكل اللحم لئلا يقتل الحيوان؟ من دون تعميم، لكن هي محاولة لكشف الثغرة التي لا تجعله يرى المفارقة كما أراها. أحياناً لكثرة ما يوجد دم في مخيلتي أشعر بأن ثمة جريمة في مكان ما قريب مِن عدم الفعل. جريمة ناشفة بلا لون ولا رائحة ولا حتى أي أثر، لا لأنها كاملة بل لأنها فعلاً لم تحدث كما كل الجرائم. باستثناء الدم فهو هنا.
توزيع عادل للجرح!
ثمة شاعر إيطالي كتب في اليوم التالي لأحداث دامية في حلب بأنه رأى داخل الزرقة دماء على سماء إيطاليا. ليس من الجيد أن تنتثر الشروخ الملأى بالدم والجروح لتغطي كل الناس، ولكن ربما كان ذلك عادلاً ويجعل الأثر خفيفاً، أو قد يجعل الأشياء تذوب عن جليدها وتتحرك، قد نتحول إلى مخلوقات أكثر دموية بشكل أسطوري ولكن سيصير دمنا منتشراً في كل مكان بشكل عادل، أو ربما نتوقف عن النزف! هل العدالة هي الحل؟ الناس غالباً، كلما رأوا الجرح بعيداً، ابتعدوا أكثر وبدأوا البحث عن جروح قريبة كعملية تعويض عما يصيبهم من خلل ومحاولة إعادة للتوازن.
الرؤية من بعيد هل هي تحقيق للعدالة؟ عدالة أن يشاركك الآخر رؤية جرحك من دون أن يشعر به؟ أم أنها مصيبة لمن هو مُصاب من حيث أنها تعرّي جرحه بشكل سطحي بينما وحده من يموت!
هل وسائل التوازن هذه والتعويض هي أيضاً يقدمها هذا المحيط الاقتصادي والسياسي المتحكّم بعجلة استهلاكنا ومشاعرنا كما يقدم السلاح والبيتزا والحلول السياسية التي تشبه فقاعات اللايك على الفيس بوك… لا تنتج لا بيضاً ولا لحمةً في أغلب الحالات…
هدوء نسبي
في رواية ليلى سليماني الحائزة على جائزة الغونكور الفرنسية لعام 2016، تقتل مربية الأطفال الذين كانت تعنى بتربيتهم ضمن منزل عائلة ميسورة مادياً ومنتمية لطبقة البوبو هذه. هم ناس لطفاء يرتادون المسارح ودور الفن ويواظبون على امتلاك كل أدوات الثقافة ونقلها لولديهما، يعاملون المربية برقي وبلطف، ومع هذا تقتل أطفالهم! ربما هذا اللطف البارد الذي لا يتناسب مع عمق الجروح من الممكن أن يخلق الجريمة بكافة مستوياتها وظروفها ومع اختلاف عناصرها ومنفذيها!
لماذا فعلتْ ذلك؟ ما هذا الشرخ الكبير الذي يحدث في بعض الحالات في مجتمعات هادئة ظاهرياً؟ ماذا حين تتوقف الثقافة عند رفوف المكتبات؟ عندما تصير المكتبات هي أيضاً بوبو: مكتبات لا تأكل اللحم لئلا تقتل الحيوان؛ ترمي علبة السردين الصدئة داخل قمامة مخصصة للمواد القابلة لإعادة التصنيع…
عملية جنسية على العالم كله
أحياناً المفارقة تصيب بالذهول، لا لوم يقع أبداً على الأفراد الذين يحققون ما يرضيهم عبر تلبية قناعات معينة هي فعلاً ذات نية طيبة وجوهر صالح كالكفّ عن تناول اللحم أو منتجات الحيوانات بشكل كامل ” فيجان”، أو التفكير بالضرر اللاحق بالبيئة ومحاولة تجنبه والتوعية له. لكن ماذا عن الضرر الناتج عن المفارقة؟ الجوهر داخل المفارقة يصير لمعانه مصدراً للشك والوحشة، تلك المفارقة التي تفصل الحضارات بالبحر والسلاح وبصفحات فيس بوك وبنوك وتحويلات وأسهم بورصة تنزل وتصعد بشكل كبير
مثل عملية جنسية على العالم كله،
مثل سفنٍ، أو كاماسوترا.