أمامي، على الطاولة، وفوق كتب أخرى، منها ما أنهيت قراءته وتركته أمامي كي أعود إليه لفكرة كتابيّة ما، ومنها ما أقرأه بشكل متقطّع إذ لا تحتاج طبيعتُه القراءة المتواصلة. فوقها كتاب وصلني من صديقتي، جمّع محرّر الكتاب ما ذكره مؤلّفون كبار عن عادات الكتابة لديهم. سأعود للكتاب )لذلك هو هنا أمامي( إنّما ما يعنيني منه الآن هو تثبيت فكرة أنّ الكتابة مهنة كغيرها، تحتاج الانتظام، المداومة، التّمرين، وغيرها مما يمكن أن يشير إلى حرفة تُمارس يومياً. فمعظم المؤلّفين يكتبون كنوع من العمل الحرفيّ، ضمن ساعات عمل محدّدة من اليوم، بانتظامٍ يحرصون عليه.
أحالني إلى فكرة الكتابة كحرفة، أمران: أحدهما يخصّ ”انحرافات“ بدأتْ تتسلّل إليّ تخص التنبّؤ أو التبصّر لا كميزة أدبية روائية فهذه خرافة يخرطها الكتّاب على العالم (سأعود لذلك، فهذا هو الأمر الآخر)، إنّما تخصّ حياتي الواقعية، فمنذ أتتني صديقتي ببطاقات التّارو، محاولةً أقناعي (دونَ أدنى مقاومة عقلانية منّي) بأنّ شيئاً ما فيها حقيقي وواقعي، و”قرأتْ“ لي عنّي وعن أسئلة في ذهني طلبت مني التفكير بها قبل سحبي للأوراق التي ستقرأها، ثم بطاقةً بطاقة تنتقل إلى الحديث عما أفكّر به، تشرح البطاقات وتربط بينها بشكل لا يجعلني إلا أردّد مبهوراً ”مزبوط“، رابطاً باقتناع تام بين ما تقوله وبين ما أفكّر به.
الأمر الآخر هو فقرة من رواية الفرنسي باتريك موديانو «دورا بروديه» يحكي فيها عن فكرة الاستبصار لدى الروائيين، يقول إنّه يعتقد بوجود المصادفات وأحياناً بهِبة التّبصّر لدى الروائيين، ويستدرك أن كلمة ”هبة“ ليست الأنسب كونها تتضمّن نوعاً من التفوّق، إنّما تأتي كجزء من المهنة: محاولات التخيّل الضرورية لهذه المهنة والحاجة للتركيز على تفاصيل محدّدة، وذلك بشكل هوسيّ، فكل هذا التوتّر والجمباز، كله يمكن أن يحرّض على الحدس فيما يخص الأحداث في الماضي أو المستقبل، وهو ما يعرّف به معجم ”لاروس“ كلمة ”استبصار“. (Dora Bruder, folio, p.52)
فالتبصّر حسب موديانو هو حدس يتم الاشتغال عليه، والأساس في ذلك هي المصادفات التي يمكن أن تجعل كتاباً ما، في لحظة منه، تنبّؤياً، وهذا هو حال رواية «1984» لجورج أورويل الذي لم يكن يبصّر فيه، بل ما جعله ”يتنبأ“ هي عملية فكرية ذهنية اجتهد لها، فكان أن جعلت مصادفاتٌ ما كتابَه يبدو كالمتنبّئ بزمننا الحديث، (قد يُحسَد أورويل على عملٍ بدوام جزئي في مكتبة للكتب المستعملة في لندن، أكثر ممّا يمكن أن يُحسد على ”هبة“ استبصارية ما).
ليست هنالك أي علاقة للتبصّر بالأدب، وليس الأول وظيفة الأخير، ولا علاقة لأدب الخيال العلمي بحديثنا هذا، فذلك خيال وعلميّ. والتبصّر في الأدب، ما لم يكن اجتهاداً، هو أقرب لرمية نرد في الكتابة عن غيبيّات، هو ”حدس“ كما قال الروائي الفرنسي، إما أن يصيب أو يخيب.
لذلك علق ما قاله موديانو عن التمرين وبعض المصادفات في ذهني (وتركت الكتاب فترةً أمامي لأعود إليه)، فكلمة ”هِبة“ فعلاً غير مناسبة في الحديث عن الأدب، هي اختصاص قارئي/ات بطاقات التّارو. والكتّاب، في الكتاب المُشار إليه أعلاه، كانوا مضطرّين لأن يعملوا لساعات طويلة، بأصابعهم وخيالهم، وبشكل يومي غالباً، كي يخرجوا بنصّ إبداعي (عظيم في حالتهم)، وما كانوا بحاجة للعمل طويلاً لو أن هبةً ما كانت لديهم، هبة التّبصر تحديداً.
إن أراد أحدنا البحث عن التبصّر، فهو هناك، وهو الاستبصار الوحيد الذي آخذه (الآن) على محمل الجد، هو بطاقات التارو التي تقرأها صديقتي (قد يتعلّق الأمر بها أكثر مما يتعلّق بالبطاقات!)، وهو -وليس الأدب- الأقرب لما يقوله «لسان العرب» إذ أنّ ”التبصّر: التأمّل والتعرّف. والتّبصير: التعريف والإيضاح… واستبصر: تبيّن ما يأتيه من خير وشر… وبَصّره الأمر تَبصيراً وتَبصِرةً: فهّمه إياه. وقال الأخفش في قوله: ”بصُرتُ بما لم يَبصُروا به“: أي علمتُ ما لم يعلموا به من البصيرة.“ وليس هذا ولا ذاك في الرّواية، بل في البطاقات الصّفراء.
إن أخذنا الأدب كمهنة، كتمرين، كجمباز، كالتزام شبه يومي، كساعات يعوّد أحدنا نفسه عليها، فيكثر النّقر على كيبورده، كتابةً وحذفاً، فإنّ تعريف «لسان العرب» هذا لا يمكن أن يتقاطع معه. والتبصّر إن قدّم نفسه ببطاقات التارو (من قارئة تعرف ما تفعل) فلنُنصت له، وإن قدّم نفسه بنصٍ أدبي فهو خرطٌ ونصب.