“كانت أمي مديدة القامة، نحيفةً لكنها رائعة الجمال. بشرتها سمراء جميلة وشعرها أسود ناعم. وحين تفكّ شعرها ينسدل حتى يصل إلى خصرها. كان من الممتع سماعها حين تغنّي وكنت أجلس حذوها لأتعلّم”، بهذه الكلمات تُفتتح رواية البرازيلي خوسيه ماورو دي فاسكونسيلُوس، “شجرتي شجرةُ البرتقال الرائعة”، وبتوقيع ترجمة عن النصّ الفرنسي من الروائية التونسيّة “إيناس العباسي” وراجعها محمد الخالدي، الصادرة حديثاً ضمن منشورات دار مسكيلياني للنشر في تونس سنة 2018. الرواية تكاد تكون قصيدة ولكن مطوّلة، تبدأ بالتقاطات الشخصيّة البطل/ الطفل: “زيزا”: “كان العمّ إدموندو منفصلاً عن زوجته ولديه خمسة أطفال.. كان وحيداً جداً ويمشي ببطء، ببطء.. ربما كان يمشي بكل هذا البطء لأنه يفتقد أطفاله.. فهم لا يزورونه مطلقاً”.
عائلة زيزا، المرتّبة، والتي تضمّ هندسةً ما تختلف عن هندسة العائلات الطبيعيّة، ثمّة أحداث عدّة رئيسيّة ومن ثمّ متفرّعات للحكاية. شخصيّات عدّة تدور حولها الرواية، أو ربما الأفضل القول: شخصيّات عدّة يتمحور حولها الراوي “زيزا”، الأخير الطفل الذي يتمكّن من القراءة قبل التحاقه بالمدرسة ورؤية المعلّمين، وتدفعه شاعريته المفرطة إلى مصادقة جذع شجرة برتقال المسمّى في مخيلته باسم: “مينجوينهو”، “زيزا” الساخر من كلّ شيء: “نظرت إليّ بانتباه، كانت تحمل نظارات كبيرة تبرز كبر عينيها وسوادهما. والمضحك أن لها شوارب مثل الرجال. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعلها مديرةً”!.
زيزا الراوي، يوصِل السرد إلى المعجزة، هذا ما يتمّ التأكّد منه والاقتناع أنّنا -نحن القرّاء- أمام سرديّةٍ يمكن وصفها باللذيذة! يخترع الأحداث رغم صغر سنّه، فهو يخبر أخيه لويس الأصغر أنّه سبق وأن زار حديقة حيوان، يقرّ للقارئ أنّه يكذب حتّى وإن كان القارئ يعرف أنّه يكذب فعلاً، يُستدلّ على الكذب الأبيض من خلال استطرادات “زيزا” ولعبه على المفردات، لكن جمالية السرد قادرة على الإقناع حقيقةً، دونما أيّ مجالٍ للشكّ بأن ما يقوله، كل ما يقوله زيزا صحيح، تقنية القطع، التي تشبه الأفلام السينمائية في الانتقال من مشهدٍ إلى آخر، تعطي الانطباع التامّ أنّ العمل يتسم بميسم سينمائي صرف، وفعلاً تمّ ترجمة العمل إلى فيلم سينمائي سابقاً، ثم ذلك الانتقال للحديث عن الشخصيّة في شكل حوار عادي إلى الحديث عن تاريخ الشخصيّة وسرد ما حصل معها قبل بدء الحوار بسنوات، كنوعٍ من التوضيح عن طريق العودة إلى الزمن الماضي، مستفيداً من أخيه الأكبر الذي يشرح له كلّ شيء ومن ثم يطلب منه السكوت وعدم الإفصاح: “كانت تتكلّم بصوتٍ منخفض لكن منهك. شعرت بالشفقة عليها. أمّي تعمل منذ ولادتها. منذ أن كان عمرها ستّ سنوات على إثر إنشاء المصنع الذي شغّلوها فيه. كانوا يُجلسون أمّي على طاولة ويتوجّب عليها تنظيف الأدوات وتجفيفها. كانت صغيرة جدّاً إلى درجة أنّها كانت تتبوّل على الطاولة لأنّها لا تستطيع النزول بمفردها. لأجل هذا لم تذهب أمي يوماً إلى المدرسة ولم تتعلّم القراءة. عندما سمعت هذه القصة تُروى، حزنت كثيراً فوعدت أمّي بأنني حين أصبح شاعراً وعالماً سأقرأ لها قصائدي“. كثيرة هي المقتطفات التي يمكن الاستناد على جماليتها ورونقها الأخّاذ، من خلال لغة سردية تتراوح بين الاقتضاب والتكثيف، “العصفور” الذي بداخل زيزا والذي يوشوش في أذنه ويغنّي في ذاته، ومن ثمّ على الطرف الآخر ثمّة الشيطان الذي بداخله، جذوع أشجار البرتقال في ساحة البيت الجديد تطمئنه، ومن ثمّ خوفه المستمرّ من ضياع الأشياء من بين يديه لمجرّد انتقاله من مسكنٍ إلى آخرَ جديد وهذا ما سيحصل، حيث يجبر المرءُ على تكوين ذكرياتٍ جديدة وتحديد أماكنَ جديدة للتفاصيل اليومية داخل المربع، والنزعة الكليّة في امتلاك الأشياء مهما كانت صغيرةً أو كبيرة وامتلاك الإحساس بالاتّجاهات، إضافةً إلى الروح الشريرة المُضحكة والغريبة بالنسبة لطفلٍ يُرفَضُ له طلبٌ ما: “شيطانة شريرة! صهباء بشعة! لن تتزوّجي طالباً عسكريّاً، هذا جيّد! ستتزوجين من جندي معدم لا يجد ما يُلمّع به جَزمته. هذا ما تستحقّينه”.
الجمل الاعتراضية التي تثبُ فجأةً إلى صلب حديث “زيزا” تَهِبُ النكهة الأبدع في العمل الروائي، وهو الأمر الذي يولد لديك ذلك الشعور بأنّك تتابع شخصيات من لحمٍ ودم، تتحرّك أمامك بكلّ يسر.
ما أشقى أن يكون للمرءِ أبٌ فقير:
يندلعُ الأسى منذ الصفحة الأولى في سرد حكاية عائلة زيزا، الأب الفقير والإخوة القلقون للغاية والعم إدموندو البعيد عن أطفاله، ومن ثم تغيير المسكن بسبب تراكم الأجور الشهريّة للمسكن القديم، فضلاً عن سهرات تمضي تحت ضوء الشموع الحالّة محلّ الكهرباء التي تمّ فصلها من الحكومة، على خلفية تراكم الأجور كما حالُ كلّ شيء ضمن العمل، ومن ثم تنتهي بانسحاب الأم إلى غرفتها للبكاء، وفشل زيزا في الحصول على هديةٍ ليلة الميلاد ليصرخ: “ما أشقى أن يكون للمرءِ أبٌ فقير”!، تنطلقُ الحكايةُ لتصل إلى أوج تعذيبها للمخيّلة: “أنتَ سيّء، وقاسي القلب. أنت تعرف بأنّ بابا من دون عمل منذ فترةٍ طويلة. ولهذا السبب لم أستطع أمس ابتلاع الطعام وأنا أتطلّع إلى وجهه. ذات يوم سوف تصبح أباً وسوف تفهم ما الذي نشعر به في تلك اللحظات” يقول توتوكا الأخ لـ زيزا، الأخير الذي لا بدّ وأن يحصل على ما يريد، أيّاً يكُن الحال، غير أنّه يعود إلى هدوئه مجدداً أو ربما يفكّر في أن يبكي، يذهب في الفجر إلى الشارع يعمل ملّمعاً للأحذية ليشتري بما جناه سجائرَ من النوع الرفيع لأبيه، ويطلق هذه الملاحظة في تعيين الفرق فيما بين الغنيّ والفقير: “شعرتُ بالخزي لقدميّ الحافيتين لأنه كان ينتعل حذاء ملمعاً وجوارب بيضاء ومطاطات حمراء. كانت الأشياء تنعكس على حذائه لفرط ما كان لامعاً. حتّى أنني رأيت عليها عيني أبي تنظران إليّ”.
الانتقالات من خلال قطع الجمل والبدء بجمل جديدة ومن ثمّ مكان جديد، ابتكار روائيّ لا يدعُ مجالاً للملل، ثمّة انتقالاتٌ منعشة على الدوام.
الشجرةُ البطل:
التسلسلُ العذب لسير العمل بلغة الترجمة يدفع القارئ إلى تتبّع الخطوط التفصيليّة، لا تعقيد يشوبُ الأجواءَ، الغرابة متحوّلَةً إلى سَكينة بفضل الحوارات فيما بين “زيزا” و “مينجوينهو” جذعُ شجرة البرتقال، الحديث حول السحب وحول عالم المدرسة الجديد بالنسبة لـ زيزا والخوضُ في تفاصيلَ ممتعة، ومن ثمّ الانتقال إلى الأشياء البسيطة التي تصنع الحنان”: “نعم. لكن الأطفال ليسوا كلهم محظوظين مثلك ليفهموا الأشجار. كما أنّ الأشجار لا ترغبُ كلها في الحديث”، أن تقفز الشجرةُ إلى غرفة النوم حاملةً على غصنها عصفور “زيزا”، هذا هو الحلّ الذي وجده العمل في أن يعطي انطباع أنّ الأشجار تمثّلُ كائناتٍ حيّةٍ رقيقة وتفعلُ أثرها في تغيير الحدث.
“شجرتي شجرةُ البرتقال الرائعة” تدفع بنا إلى تبنّي انطباع خاص يليق بهذا العمل فقط، أنّ المتعةَ ليست كافية في الكتابة والقراءة، بل يجب أن تكون الأشجار على درايةٍ بالأحداث، لا بل أن تكون جزءاً لا يتجزّأ من أي عمل وكشخصيّاتٍ رئيسة تتدخّل وتسرُد، ثمّ الإيجازُ والاقتضاب في ذاك السرد: “لا تبكِ، يا صغيري. سنحصل على بيتِ كبيرٍ جدّاً. ونهر حقيقي يمرّ خلفه مباشرةً. يوجد الكثير من الأشجار، وهي ضخمة جدّاً. ستكون كلّها لك. تستطيعُ أن تصنعَ أراجيح”.