هذا ما قاله الشيطان، فولند، إلى المعلّم، وهذا ما حصل فعلاً، إذ أنّ الأوّل طلب من مساعده، القط بيغيموت، أن يحضر له المخطوط الذي أحرقه المعلّم إثر كتابته، فوثب القط عن الكرسي الذي كان/صار سحراً ”رزمة سميكة من المخطوطات“.
هذا في حصل في رواية الرّوسي ميخائيل بولغاكوف «المعلّم ومرغريتا»، هذا ما حصل في خيال المؤلّف الذي كان قد أحرق هو بنفسه مخطوطات سابقة له، منها نسخة أولى من هذه الرّواية التي ستصير واحدة من أهم الكلاسيكيات الأدبية في القرن العشرين.
أما سبب الإحراق هنا فهو الخوف مما يمكن أو يؤدي إليه المخطوط من اعتقال، أو ”اختفاء“ كما هو الحال في الرواية وكما هي الصورة الأصلية التي انعكست عنها حكاية الرواية، والحديث هنا عن الاتحاد السوڤييتي الستالينيّ في ثلاثينيات القرن الماضي، فقد أحرق كل من المعلّم في الرواية وبولغاكوف في الواقع مخطوطه خوفاً من السلطة وأتباعها من المثقّفين والنّقاد، في موسكو.
لكن في الثلاثينيات كذلك، كان هنالك نوع آخر من الإحراق، في مكان آخر تماماً، حيث تمّ إحراق ما تمّ ”تبجيله“ في المكان الأوّل، وذلك في برلين النازيّة، إذ حمل العديد من الطلّاب الألمان آلاف الكتب ”المناهِضة للألمان“ لتجميعها وإحراقها في الساحات العامة، كان ذلك في ١٠ أيار ١٩٣٣، في ساحة الأوبرا، بحضور جوزيف غوبلز، وزير الدعاية النازي آنذاك، في عملية منظّمة. ومن بين الكتّاب الأبرز ممن حُرقت أعمالهم كان كارل ماركس وفريدريك إنجلز وروزا لوكسمبورغ، وذلك موثّق في متحف ”Topography of Terror“ (طبوغرافيا الرعب) في برلين اليوم.
ولأنّ الواقع ضمن أنظمة توتاليتارية، كالستالينية والنازية، هو واقع ديستوبيّ، كارثيّ ومرعب، يمكن لفيلم الفرنسي فرانسوا تروفو «Fahrenheit 451» (١٩٦٦) أن يقدّم صورةً لذلك، فالشخصية الرئيسية فيه تعمل كرجل إطفاء إنّما يحبّ القراءة، وذلك في عالم ”خيالي“ حيث تكون مهمّة رجال الإطفاء هي إحراق الكتب، الأدب تحديداً لأنّها ”تحرّض“ على الخيال والتفكير، ما يجعل مجموعة من ”المتمردين“ ينقذون الكتب بأسلوبهم: كلٌّ منهم يحفظ كتاباً عن ظهر قلب، فيُسمّى باسمه، وما إن يحفظ أحدهم كتاباً، يتلفه فلا يُعتقل بسببه. الفيلم مأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للأميركي راي برادبوري، صدرت عام ١٩٥٣.
وهذا ما نقرأه في «المعلّم ومارغريتا»، إذ يقول المعلّم لحبيبته قبل أن يطيرا كأرواح، بعد موتهما، بأنّ لا حاجة له بأن يحمل المخطوط معه، فقد حفظه في ذاكرته، وفي تعليقات نقديّة على الرّواية نقرأ أن حفظ النّصوص (المخطوطات) قبل إتلافها كان شائعاً لدى كتّاب سوڤييت.
ما أعطى عبارة بولغاكوف ”المخطوطات لا تحترق“ مكانة بارزة في سياق الرّواية ككل -فكانت ”موتيفاً“- هو واقعيتها في حياة المؤلّف نفسه، ومصيريّتها في أن يخرج هذا الكتاب لقرائه، إن كانت كرواية بولغاكوف أم حكاية/مخطوط المعلّم (داخل الرّواية) الذي كتب بولغاكوف الرّواية عنه، وكذلك لسخرية الفكرة التي أتت نقيضة لمدى سهولة أن يُحرق مخطوط هنا أو كتاب هناك، في الواقع، وذلك ضمن مجتمعات تحكمها أنظمة توتاليتارية يكون الشّيطان -فولند، في الرّواية- ”أرحم“ بالمخطوطات من تلك الأنظمة والملحَقين بها من الكتّاب والنقّاد.
كتب بولغاكوف سرّاً روايته هذه في السنوات الإحدى عشرة الأخيرة من حياته (١٩٢٨-١٩٤٠)، بالكاد أنهى نسختها الأخيرة، يمليها وهو مريض على زوجته فتكتبها. مات بالمرض وخبّأتها لتُنشر في بعد ما يقارب ثلاثين عاماً، في ١٩٦٧، في باريس أولاً، ثم بالنسخة الكاملة في فرانكفورت بعد عامين. ووصلت لقرّاء العربية بترجمة بديعة من يوسف حلّاق، من دمشق عام ١٩٨٦، لتتوفّر اليوم بنسخ جديدة لدى أكثر من دار نشر (دار التنوير، دار المدى، منشورات الجمل) ولأكثر من مترجم.
ليس الحرق إلا شكل من أشكال المنع والحظر الذي يتّخذ اليوم، بعد نصف قرن على خروج رواية بولغاكوف (من تحت الرّماد) شكلاً أكثر ”تحضّراً“ إذ لا نار، إنّما النّتيجة تبقى ذاتها، من ذلك ما يمكن ملاحظته اليوم حولنا، لكن كذلك ما يمكن أن يسبق زمن بولغاكوف بسنين، ودون الابتعاد كثيراً عنه.
نيقولاي غوغول، الكاتب الروسي الذي تأثر به بولغاكوف وأشار أكثر من مرّة إليه في روايته، قام بنفسه، كذلك، بحرق المتبقي من مخطوط روايته «الأنفس الميتة»، تلقائياً، بتحريض من رجل دين، حفظاً لروحه من العذاب! ولم يكن لغوغول، لسوء حظّه، شيطانٌ يستعيد له مخطوطَه المحترق، بالسّحر.