لطالما قال الفلسطينيون إنّ مأساتنا/نكبتنا هي الأكبر في التاريخ المعاصر (على الأقل)، ليلحقهم السوريون و”ينافسونهم“ على ذلك قائلين إنّ مأساتنا الرّاهنة تخطّت كل ما سبقها. لم أضع ”مأساتنا“ في الادّعاءين أعلاه بين علامتَي تنصيص لأنني (لحسن حظّي أو لسوئه) أجدني ضمن هؤلاء وأولئك، فـ ”نا“ المتكلّم تعود، لسوء حظّي وحسب، عليّ كذلك.
على كلّ حال، لم تسحرني يوماً تلك المنافسة على مَن تألّم أكثر، أو فجع أكثر، ولو عاد الأمر لي لاخترتُ أن أكون من بين الخاسرين، أوائل الخاسرين، ألّا أجدني يوماً واحداً من ”آخر الشّهود“ لمأساتيْنا.
اطّلاعي المتواضع -فعلاً- على مآسي شعوب أخرى منحني -نعم، بكل وقاحة- ارتياحاً بأنّنا، كفلسطينيين وسوريين، شركاء مع آخرين كثر في مآسي هذا العالم، آخرين كثر حكوا كثيراً عن مآسيهم. ونحن، ما لم يحكِ أحدنا، أو كلٌ منّا، عن مأساته الفردية ضمن سياقها الجمعيّ، لبقيت تتآكل في ذاكرتنا، نحن الضحايا.
”لماذا رويتُ لكِ هذا؟ الآن أشعر برعب أكبر من ذلك الوقت. ولهذا أنا لا أستعيد الذكريات…“ هذا ما قالته إحدى الشّهود لسفيتلانا أليكسييفتش في «آخر الشهود»، متفادية الحديث عمّا حصل.
جمّعت الكاتبة البيلاروسية (نوبل للأدب ٢٠١٥) شهادات عديدة، وهي ذكريات لمن كانوا أطفالاً في الأيام الأولى للحرب العالمية الثانية في العاصمة مينسك، شهادات تكرّرت خلالها الرغبة في التوقّف عن الحديث أو سرد الذكريات.
لا تنتهي المأساة متى انتهت ممارستُها، أو ممارسة أسبابها، بل تمتد في أذهان ضحاياها الصّامتين عنها، المخبّئينها في دواخلهم، واضعين أملهم، أو ثقل أملهم كلّه، في النّسيان، فتبقى المأساة حالة فردية معزولة عن سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي، تبقى قصصاً وصوراً في أذهان أصحابها تموت بموتهم.
ما فعلته أليكسييفتش في عموم منجزها الأدبي/الصحافي هو استخراج هذه القصص من أفواه أصحابها، وتوثيق مأساة حدثت بمكان وزمان محدّدين، لتتخطى المأساةُ كونها حالة إنسانية إلى كونها فعلاً سياسياً لمرتكبه هويّة واضحة، وليدرك أمثالنُا أنّ مأساتهم تجربة إنسانية ”عادية“ ومشتركة وليست (لحسن الحظ أو لسوئه!) فريدة.
الشهادات في هذا الكتاب هي ذكريات عن طفولة هؤلاء يوم سمعوا لأوّل مرّة أن الحرب قد اندلعت، أو -كأطفال- سمعوا بالكلمة لأول مرة، لحظتها تنقلب حياتهم كأن تُلغى حفلة أو رحلة ليحلّ محلّها لجوء إلى قرية أو قبو. تنقلب في ساعات قليلة، تقول إحداهن: ”في صباح يوم ٢٦ حزيران/يونيو سلّمت أمّي الأجور إلى العاملين، حيث كانت تعمل في شعبة المحاسبة في المصنع. وفي المساء أصبحنا لاجئين.“ كأنّها تعيد صياغة التجربة الإنسانية ذاتها التي كتبها غسان كنفاني في «أرض البرتقال الحزين»: ”وعندما وصلنا صيدا، في العصر، صرنا لاجئين.“
تمتد الذكريات/الشهادات إلى اللحظات الأقسى في سنوات الحرب كلّها، ودائماً يكون الحديث على ألسنة أطفال، وإن أتى بعد سنوات طويلة من حدوثها، فقد أنجزت أليكسييفتش الكتاب بين ١٩٧٨ و٢٠٠٤، وقد كان الشّهود في أوائل الأربعينيات أطفالاً، فكان ما حكوه أشدّ تلقائية. هي المشاهدات الأولى، هي اللحظة التي تعرّف فيها الطفل على معاني كلمات مثل فقر وحصار واختفاء وقتل وتعذيب ولجوء…
إن فكرة أن يحكي الفلسطينيون عن مأساتهم، أن يحكوا عن الخوف، عن اللجوء، عن المجازر التي عاشوها عام النكبة، حضرت في العديد من الأعمال (أدب وتوثيق وسينما…)، لكنّ شعوراً قوياً لديّ يبقى طاغياً هو أنّنا لم نحكِ كفايةً، أنّنا لم نُخبر بحكايتنا، لم نعلن مأساتنا كفايةً، ذلك و”آخر شهود“ نكبتنا يرحلون تباعاً، ليبقى الكثير من القصص الفردية خارجةً عن سياقها الجمعي ونكون، كفلسطينيين، قاصرين عن توثيق أكبر عدد ممكن من هذه القصص وجعلها تجربة إنسانية يشترك معنا بها آخرون.
اليوم، أحاديثنا عن النّكبة صارت منقولة، ما سجّلناه قد وثّقناه، وما بقي مكتوماً ولمُ يُحكَ خوفاً من استعادة النكبة الممتدة في أذهان شهودها، مات مع أصحابها. وهذا ما لا يجب أن يحصل مع السّوريين.
تُنهي أليكسييفتش كتابها الممتع بقدر ما هو مؤلم، بشهادة أخذت منها عنوان كتابها: ”توفّيت أولاً أمّنا الرائعة، ومن ثمّ توفّي أبونا. وأحسسنا فوراً، أحسسنا بأنّنا آخر من يقف عند ذلك الحد، عند ذلك الطّرف. نحن آخر الشّهود. إن زماننا يُختتم. ويجب علينا أن نتحدّث… وكلماتنا ستكون آخر الكلمات.“