اليوم، بعد سبعين عاماً على احتلال فلسطين وتهجير نصف شعبها، وبالتالي تقسيمه، من سنتها، ١٩٤٨، إلى مجتمعين أحدهما داخل البلد والآخر خارجه، صار الفلسطينيون أكثر تشتّتاً، زمانياً ومكانياً، وصار المجتمعان مجتمعات.
وخلال السبعين عاماً هذه، تعاظم عدد الفلسطينيين ليصير من ١,٩ مليون، عام النكبة، تهجّر منه ٧٥٠,٠٠٠، إلى ١٢,٤ مليون داخل فلسطين وخارجها، فخلقت هذه الأرقام مجتمعات متفاوتة، وساعدت السبعون عاماً على تكريس هذا التفاوت وبالتالي خلق مجتمعات فلسطينية في منافيها، هي فلسطينية بقدر ما هي ابنة المجتمعات المحليّة، وقد تكون أقل.
لكل من المجتمعات الفلسطينية هذه عناصر يمكن أن تمايزها عن الأخرى، ما يباعد بين كلّ منها، وبين ما يمكن تسميته بالمجتمع الفلسطيني بالعموم، فهذه بالأساس تسمية افتراضية، تلاشت منذ عام النكبة، وحلّ محلّها ”الشعب الفلسطيني“ للدلالة على عموم هذه المجتمعات، داخل البلد وخارجه، في المدن والقرى، في المخيمات والشتات. فكانت -الشعب الفلسطيني- عبارة سياسية أكثر منها اجتماعية، أو كانت الإشارة الوحيدة للفلسطينيين عامة، كأصحاب قضية واحدة تجعل منهم شعباً واحداً، وإن بمجتمعات متباينة متداخلة بمجتمعات أخرى يمكن أن تحمل لنفسها تسمية ”المجتمع الواحد“.
داخل فلسطين، هنالك الأرض المحتلة من البلد عام ٤٨، والأرض المحتلة عام ٦٧، في الأولى هنالك شمال ووسط وجنوب، مدن وقرى. وفي الأخيرة هنالك ضفة وغزة، مدن ومخيمات وقرى. في الخارج، على الوسع الجغرافي، تكون التمايزات غير محصورة، فهنالك المخيمات والشتات، في الأولى لكل تجمع ما يميزه: مخيمات لبنان وسوريا والأردن، وهنالك سكّان المدن في هذه البلدان، في الأخيرة يمتد التمايز إلى العالم أجمع، من تشيلي حيث صار للفلسطينيين أجيال، إلى أستراليا وكندا، وباقي قارات العالم، بما في ذلك أقرب الأمكنة خارج بلدان المخيّمات، كدول الخليج وشمال إفريقيا، لكن مرتكز الشتات، اليوم تحديداً، هو في أوروبا التي استقبلت آلاف الفلسطينيين خلال السنوات الأخيرة، هم القادمون من المخيمات في سوريا.
وكل ذلك امتدّ لأجيال، على مدى سبعين عاماً، ما يرجّح مقولة أن لا وجود لمجتمع فلسطيني، بل لمجتمعات فلسطينية تكوّن بمجملها الشعب الفلسطيني، ونسبة عالية من هذه المجتمعات الفلسطينية هي بالتوازي مجتمعات محلّية في أماكن تواجدها، ففلسطينيي سوريا، مثلاً، هم مكوّن للشعب الفلسطيني، هم مجتمع فلسطيني له خصوصياته، هم كذلك من مكوّنات المجتمع السوري، والحال كذلك في كافة أماكن تواجد الفلسطينيين، أفراداً وجماعات.
يحيلنا ذلك إلى تشقّق جديد في تكوينات الشعب الفلسطيني، رافق الخروج السوري من سوريا، بما تضمّنه من خروج فلسطيني من سوريا، فالمخيّم الرئيسي في ذلك البلد، اليرموك، تهجّر كامل سكّانه وسُوّيَ بالأرض. في أوروبا اليوم آلاف العائلات والأفراد من فلسطينيي سوريا، من كافة المخيمات والمدن هناك، مهجّرون إلى كل العالم، بما في ذلك لبنان وتركيا، ولكن أساساً إلى غرب أوروبا، ألمانيا وهولندا وفرنسا وسويسرا والنمسا، والسويد في شمال أوروبا، ليصير الحضور الفلسطيني في أوروبا أكثر تعقيداً وكثافةً.
كما أنّه لا يمكن أن نقول أنّ الشعب الفلسطيني، بمجتمعاته كافة، يتشارك هموماً يومية واجتماعية واقتصادية متماثلة، فهو، في أوروبا، الأقل تشاركاً فيما بينه، فهذه قارة واسعة ولا يجب أن يحيلنا الحديث عن أوروبا، كمكان واحد، إلى مجتمع فلسطيني واحد، هو في فرنسا كما هو في السويد. وفي هذه القارة تحديداً، حيث الاتساع الجغرافي والتفاوت الثقافي والأنظمة السياسية، استجدّ الحضور الفلسطيني السوري فيها، أي فلسطينيي سوريا، إنّما هو حضورُ أفراد وعائلات، فيبقى الحضور أقل من أن يكون مكوّناً أساسياً لما يمكن تسميته بفلسطينيي أوروبا.
هؤلاء القادمون من مخيّمات سوريا، توزّعوا بغير إرادتهم على دول القارة ومدنها وقراها النائية، لنجد أنّ مخيّم حمص -مثلاً- موزّع على مناطق عدّة في هولندا وألمانيا، والحال كذلك فيما يخص باقي المخيمات في سوريا وباقي المناطق في أوروبا. والمجيء القسري لهؤلاء، وحالة اللجوء بمعانيها وارتداداتها لديهم، لن تسمح لهم بالالتئام مع المجتمعات المحلية، بمن فيها المجتمع الفلسطيني هناك، الحاضر في أوروبا منذ ما قبل الأزمة في سورية، أي القادمين غالباً بإرادتهم لأسباب معيشية اقتصادية عائلية، لدول ومناطق اختاروها مسبقاً، يستقبلهم فيها، غالباً، من يمكن أن يهيّئ لهم بيتاً وعملاً…
تواجُد الفلسطيني القادم من سوريا، في أوروبا، أضاف إلى التواجد الفلسطيني السابق عليه في هذه القارة تعقيدات وارتباكات لما يمكن أن يكون عليه التواجد الفلسطيني بالعموم، لما يمكن أن نقول عنه، هؤلاء هم فلسطينيو أوروبا وهذه هي همومهم. فهم في أمكنة لم يختاروها، خرجوا مهجّرين من سوريا، مفتّتين في أوروبا، على مستوى العائلة الصغيرة، إلى هذه القارة الكبيرة.
حالة التراوما الملحوظة لدى هؤلاء -فلسطينيي سوريا- في أوروبا، تحول دون اندماجهم بالمجتمعات الفلسطينية السابقة هناك، وبطبيعة الحال بالمجتمعات المحلية في تلك البلدان، فتقاربَ أصحاب الهمّ الطارئ والراهن إلى بعضهم البعض، فلسطينيو سوريا والسوريون، ولدى هؤلاء وأولئك الأسباب ذاتها التي أودت بهم إلى أوروبا، هم بذلك أبناء هموم راهنة أتوا من مناطق متقاربة إلى أخرى، بعيدة جداً في أوروبا، متقاربين فيها كذلك، وللغربة والوحشة تأثيراتها.
هذا ما يجعل فلسطينيي سوريا في أوروبا جزءاً من المجتمع السوري في هذه البلد، أكثر من كونهم جزءاً من المجتمع الفلسطيني، يمكن ببساطة ملاحظة ذلك في الأنشطة والاعتصامات والتظاهرات التي تشهدها أوروبا فيما يخص كل من المسألتين الفلسطينية والسورية، بالملاحظة سنجد حضوراً أكبر لدى فلسطينيي سوريا في تلك الأنشطة الخاصة بسوريا، بأحداث سورية راهنة، مع انقطاع شبه تام لدى الفلسطينيين القادمين إلى أوروبا من مناطق أخرى وبأزمنة أخرى سابقة للأزمة السورية. والفلسطينيون غير القادمين من سوريا غير حاضرين في تلك الأنشطة، المعنية بالمسألة السورية، ما يوسّع الهوّة بين فلسطينيي سوريا من جهة وباقي الفلسطينيين في جهة أخرى، في أوروبا، ويضيّقها بينهم وبين السوريين في أوروبا، القادمين منهم إثر اندلاع الثورة تحديداً، والنشطين في كل ما يخص الأحداث في سوريا والتفاعل معها على الساحات الأوروبية. كل ذلك يساهم، مع غيره، في جعل الأفراد والعائلات الفلسطينية القادمة من سوريا، جزءاً من المجتمع السوري في أوروبا (لنسمّه كذلك تجاوزاً) والمتكوّن حديثاً، أكثر من كونهم جزءاً من المجتمع الفلسطيني هناك، لكن لهذا أسئلته كذلك.
الشعور بالانتماء إلى مجتمع فلسطيني بعينه، عند فلسطينيي سوريا الواصلين حديثاً، في السنوات السبع الأخيرة، إلى أوروبا، هو هنا، في هذه القارة، امتداد لشعور كان راسخاً في المخيم، كمجتمع فلسطيني له جانبه السوري، كمجموعة سكّانية هي مكوّن للشعب الفلسطيني كما هي مكوّن للمجتمع السوري، بعلاقات وأفكار ومشاعر طبيعية على كلا الجانبين.
في أوروبا اختلف الأمر قليلاً، فالشعور بالانتماء إلى الشعب الفلسطيني يأتي أولاً كامتداد لشعور سابق يبدو وطنياً رومانسياً، مع غربة آنية يملؤها التماهي مع باقي السوريين المهجّرين من بلادهم، ويتسبب بها عزل باقي الفلسطينيين لأنفسهم عن القادمين الجدد من سوريا، يبدأ بعدم الاكتراث بالمشاركة في أنشطة واعتصامات متعلقة مباشرة بتهجير هؤلاء من مخيماتهم، وينتهي بالتأييد المباشر للمتسبب بتهجيرهم وتدمير بيوتهم.
ليست المسألة الفلسطينية هي المحصورة بالأرض المحتلة عام ١٩٦٧، وإن كانت الأحداث تشتعل بين سنة وأخرى فيها أكثر مما هي في أمكنة أخرى من فلسطين كالأرض المحتلة عام ١٩٤٨. المسألة الفلسطينية هي حيث تواجد فلسطينيون، أو حيث بنى الفلسطينيون أمكنتهم، هي المخيّمات خارج البلد كما هي المدن والقرى داخل البلد، ما يعني أنّ المسألة الفلسطينية هي مسألة الإنسان الفلسطيني وليس مسألة فلسطين الخارطة. يحيلنا ذلك إلى القول بأن لا مسألة فلسطينية متآلفة حاضرة في أوروبا. هنالك مسائل فرعية تشكّل معاً المسألة الفلسطينية بالعموم، أمّا الخلل هنا فهو في أن تشكّل معاً ذلك، فهذه الـ ”معاً“ غير حاضرة، هي افتراضية أكثر من كونها واقعية يمكن مشاهدتها على الساحات الأوروبية، فليس هنالك هم فلسطيني أو هموم فلسطينية في أوروبا، تخصّ فلسطينيي أوروبا، ببساطة لأنّ ليس هنالك ما يمكن تسميته بـ ”فلسطينيي أوروبا“، هنالك، بالتحديد، مجموعات متفرّقة تشكّل بجمعها معاً، قسراً ونظرياً، ما يمكن تجاوزاً تسميته بـ ”فلسطينيي أوروبا“.
اليوم، وهؤلاء جميعاً يعيشون الذكرى السبعين لبدء نكبتهم، لاحتلال بلدهم وتهجير أجدادهم منها، ليجدوا أنفسهم في أمكنتهم المتباعدة في مجتمعات غير متماثلة، لا تجمعهم هموم المجتمع الواحد، إنّما هموم الشعب الواحد، في كافة أماكن تواجده.
تباعدَ أفراد هذا الشعب وتجمّعاته زمانياً ومكانياً إلى أن صار الحال ما هو عليه، ما حاولت هذه الأسطر نقله ”بتشاؤله“، (بمفردة إميل حبيبي). ولا يبدو أنّ فلسطينيي أوروبا -لنسمّهم ذلك تجاوزاً- يتّجهون لتآلف فيما بينهم، كفلسطينيين، ولا يبدو أنّ مجتمعاً فلسطينياً أوروبياً يتشكّل، محتوياً فلسطينيي سوريا.
بعد سبعين عاماً، مازال الفلسطينيون ممن وصلوا خلال كل هذه السنوات إلى هذه القارة وبقوا فيها، أفراداً أو جماعات صغيرة. ما يمكن أن يجمع بينهم وبين بعضهم هو ما يمكن أن يجمع بين أي منهم وبين أي متضامن مع القضية الفلسطينية، وهي أسباب سياسية غير اجتماعية، هي بُنى فوقية وليس تحتية، وفي ذلك يتأرجح الفلسطينيون في أي مدينة أوروبية بين كونهم أبناء شعب واحد وبين كونهم أفراداً في مجتمع أجنبي يتشاركون وإياه هموماً لا علاقة لباقي الفلسطينيين بها، وبين استمرار لتآلف مع اللاجئين السوريين، رفاقهم في اللجوء الجديد.
نُشرت في فصلية “سياسات” الصادرة عن معهد السياسات العامة في رام الله، بعنوان “الفلسطينيون في أوروبا… شتات سبعين عاماً”.