سؤال يفرض نفسه عند مشاهدة فيلم المخرج الدنماركي من أصل فلسطيني عمر شرقاوي والذي حمل عنوان “ويسترن عرب” عرب الغرب، الذي عرض في قسم البانوراما في الدورة 69 من مهرجان برلين السينمائي. هل كان يحتاج شرقاوي تسع سنوات بين صناعة فيلمه “أبي من حيفا” ليعي أن والده منير شرقاوي لا يريد إلا أن يذهب إلى هناك ليهدأ من غضب مستمر منذ ترك مدينته وهو في التاسعة ليكون لاجئا من مكان إلى آخر؟
سؤال فرض نفسه تحديدا بعد جملة قالها شرقاوي في فيلمه “أبي من حيفا” الذي أنتج عام 2010، “أبي يخاف العودة! كيف له أن يعود إلى حيفا وقد كان في التاسعة من عمره حين غادرها محاصراً بالخوف؟” وعلى الأرجح أن هذه السنوات الماضية جعلت شرقاوي يعي تماما أن آن لوالده أن يعود إلى حيفا وكان المشهد في فيلمه الجديد «عرب الغرب» عندما رافق عمر والده إلى حيفا وأوصله إلى بيته الذي كان يعيش فيه، وكيف تحول الشرقاوي الأب إلى حمل وديع هادئ مسالم مطمئن، بعد مشاهد عديدة في الفيلم الوثائقي كانت سمتها الغضب المستمر.
نتحدث عن الغضب، وهنا من الممكن أن تمر وجوه كثيرة في بال المتلقي والمشاهد للفيلم، الغضب الذي لا تفسير له ويأتي أحيانا على مواقف لا تستحق كل هذا الصراخ، هو الغضب الذي يكبر كل يوم في قلب اللاجئ والذي لا يفهم وقعه إلا من عاش مرارة تلك التجربة، استطاع شرقاوي ببساطة أن ينقل هذا التفسير المنوط به شخصيا وبمحيطه، فالفيلم ينقسم بين استجداء الإبن لوالده ليتحدث، وبين حياة المخرج نفسه المحتار في هويته وهو ابن لأم دنماركية وعاش جل حياته في الغرب، هي الهوية التي مهما ابتعد اللاجئ الفلسطيني عنها لظروف مختلفة من تجنيس أو تعداد أماكن الرحيل تفرض نفسها.
هذه النوعية من الحكايات قليلة في صناعة الفيلم الفلسطيني، مقارنة مع حكايات الفلسطيني في الداخل، وهنا ثمة تقصير في تسليط الضوء على مشاكل الفلسطيني في كل مكان، ويظل شرقاوي ومثله المخرج مهدي فليفل من أكثر المخرجين الفلسطينيين الذين يتحدثون عن حال اللاجئ الفلسطيني بسبب تجربتهم الشخصية على أقل تقدير.
وعودة لفيلم «عرب الغرب» الذي لاقى حفاوة في برلين إبان عرضه، و بالرغم من أن 77 دقيقة كانت كفيلة لإيصال الرسالة إلا أن ثمة تخبط واضح في الحبكة، يوازيه تخبط في طريقة تصوير الفيلم نفسه الذي يدخل فيه مشاهده تصوير فيلم آخر من بطولة المخرج، وبعد التمعن قليلا ومحاولة التركيز على واقع الكاميرا المهتزة تدرك أن هذا الاهتزاز جزء من تفاصيل نقل الإحساس في كل التخبطات في المشاعر، تدرك أن هذا الأب الذي قضى عمره لاجئا وهاربا وغريبا، يحتاج إلى أن يتنفس بهدوء ولو لمرة واحدة في حياته، هذا الهدوء حصل عليه أخيرا عندما وعى شرقاوي الإبن أن لحظة عودة أبيه إلى حيفا لا بد منها، مشهد عذب ، يجمع بين الإبن والأب المغموران بغضب لا تفسير له طوال الوقت، الشرقاوي الإبن طوال وقت الفيلم يستجدي والده بأن يتحدث مع رفض تارة واستسلام تارة أخرى، كانت حيفا وحدها الشاهدة والمجيبة على كل التساؤلات التي ملأت رأس الشرقاوي الإبن، حصل عليها أخيرا وهو ينظر إلى والده وقد عاد وكأنه الطفل ذو التسع سنوات الذي غادر بيته الجميل المليء بالضحكات التي لم يحملها معه.
الشرقاوي الإبن هو أيضا خفت وتيرة غضبه التي ورثها عن والده، وهو يجول منزلاً كان من المفترض أن يقضي طفولته هو الآخر في زواياه وبين أحضان الجد والجدة، كان التخيل يحضر في بال شرقاوي والواقع وذكرياته تسيل كالماء من فم والده.
يعودان إلى الدنمارك، ويجنح الشرقاوي قليلا في تخبطاته لينقل أحداث من ثورة 25 يناير في شريطه السينمائي، تشعر أن تلك اللقطات تحديدا التي تحاول أن تفهم ماهيتها في فيلمه لها علاقة بذلك لموت، موت الأب، فقد رحل منير شرقاوي والكل شاهد لحظة تسليمه للروح.