في أمسية نظمها “المركز الثقافي والفني” الفرنسي والمُسمى بِ “La Générale” في تاريخ ٩آذار ٢٠١٨وذلك بمناسبة نقاش كتابٍ صدر حديثاً لمناضل سوري شاب وهو “محمد مجد الديك” وعنوان الكتاب الصادر بالفرنسية هو “إلى الشرق من دمشق:نهاية الكون، شهادة من ثائر سوري”، كان الكاتب وهو مناضل سوري شاب برفقة مناضل آخر حيث شارك الإثنان في تجربة”تنسيقيات الثورة السورية”منذ بداياتها الأولى وكان برفقتهم شاب سوري – باريسي ثالث يقوم بمهمة الترجمة من العربية للفرنسية لجمهور الحاضرين. وقد كان النقاش جاداً ومثمراً ومؤثراً على الحضور والذي تفاعلَ معه بقوة. في خضم النقاش، أخذ الإجرام الأسدي حقه من العرض والتحليل فيما لم ينطق ضيوف الأمسية بكلمة واحدة حول طبيعة القوى التي هيمنت على “المناطق المُحَرَرَة” وحول سياسات “الإسلام السياسي” في تلك المناطق والتي لم تكن بأقل قمعية من القوى الأسدية فارضةً على جماهير “الغوطة الشرقية” الالتزام الصارم بأحكام الشريعة وبشكل تعسفي واستبدادي واضح. هذا الاستفسار الذي تَقدَمتُ به لم يرُق البتة لمترجم الأمسية السوري الباريسي والذي لم يتورع عن توجيه ملاحظة تشيّ باتهام مُبطن ليّ :”فلسطيني من جماعة المصفقين للأسد” متجاهلاً تكراري في اكثر من سياق من مداخلتي إدانتي الصارمة لسياسات النظام السوري الإجرامية بحق الشعب السوري أولاً وبحق الشعب الفلسطيني (في سوريا وفي لبنان كدوره في مجزرة مخيم “تل الزعتر” تحديداً السابقة لمجزرة “مخيم اليرموك” اللاحقة…).
في تلك اللحظات، ما كان ليّ إلا أن أذكر سلامة كيلة، المناضل في الساحة السورية كسوري والمُنظّرُ لثورة الشعب السوري للتخلص من نير الاستبداد السلطوي للعائلة الأسدية ونظامها. سلامة، السوري-الفلسطيني أو الفلسطيني-السوري كان تجسيداً لالتحام النضال السوري بالفلسطيني في وحدة مصير لا انفكاك منه فما هو جذر هذه الريبة وكيف يمكن ان يُنظَرَ للفلسطيني المُعارض لسياسات النظام السوري كمُؤيدٍ للنظام القاتل! الطريف في الموضوع أن أجد الشاب “محمد مجد الديك”حاضراً في مناسبة تأبين سلامة كيلة في باريس بتاريخ ٨ اكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٨…إذن، لم يكن سلامة كرمز لوحدة المصير السوري الفلسطيني بغائبٍ عن عالمهم ولم يكونوا بحاجة الى تذكيرهم بهذه الوحدة الطبيعية ما بين الشعبين وإن ارتكبت قيادات فلسطينية حماقاتٍ مُشينة كالتي نعرفها والتي لا يمكن أن يتحمل الشعب الفلسطيني أوزارها. ساحات النضال والحروب جمعت ما بين الشعبين ضد العدو الصهيوني المشترك وفي سبعينات القرن المنصرم لم يكن من الممكن تمييز السوري عن الفلسطيني في المجموعات الفدائية في مختلف التنظيمات الفلسطينية كما كان عليه الحال في أوساط الطلبة والمثقفين حيث يتداول السوري والفلسطيني أفكار التحرر والتحرير والحرية، حرية فلسطين وشعبها وحرية الشعوب العربية بأجمعها وبتحريرها من نير مضطهديها من قوى الاستبداد الطائفي والطبقي والعسكرتاري المقيتة.
هذا النقاش وما أثاره لديّ من تداعيات ذكُرني بلقاءٍ مع “أمين صالح”، مثقف سوري-فلسطيني أو هو كسلامة كيلة، فلسطيني -سوري ، حفيد “أحمد حلمي باشا”، السكرتير الشخصي للمفتي الحاج أمين الحسيني، سكرتير “الهيئة العربية العليا” في الأربعينات من القرن الماضي ورئيس “حكومة عموم فلسطين”حتى عام ١٩٦٣ وأحد الشخصيات الفريدة ممن بقي من القيادات الفلسطينية في خط الدفاع عن مدينة القدس بمواجهة العصابات الصهيونية قبل احتلالها للقدس الغربية. السيرة الذاتية لأحمد حلمي باشا المولود في مدينة صيدا اللبنانية والشاب النابلسي اليافع في مقتبل صباه والمحارب الى جانب الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي والمشارك في ثورة القبائل العراقية ضد قوات الانتداب البريطاني ما كان له إلا وأن يعود الى القدس لكي يُدفن بعد هذه المسيرة القومية العربية الحافلة. هل هو بهذا سوري أم فلسطيني أم عراقي؟ حفيده وَرِث هذه الصفات وكيف لا وهو المولود بدوره في مدينة القدس. وهكذا وقبل سلامة وبعده سيبقى السوري الفلسطيني والفلسطيني السوري غايةً في الحضور لمقارعة ما سمُيّ بالدولة “الوطنية” الحديثة والتي لم تكن سوى دولة سايكس-بيكوية بامتياز لخدمة طبقات من الكمبرادور المحلي من الأعيان ومن العسكر بالتواطؤ مع الكولونيالية المُستَحدثَة ومع الدولة اليهودية ثالثة أثافي النهب الامبريالي لثروات المنطقة العربية.
المناسبة الثالثة لحضور هذه التداعيات والتساؤلات تمثلت في سؤال وجههه لي أحد الأصدقاء حول ناشط وكاتب يكتبُ بغزارة في الشؤون السورية والفلسطينية ويناضل في صفوف تشكيلات سياسية فلسطينية وسورية : “هل هو سوري أم فلسطيني”. لقد فاجئني السؤال للوهلة الأولى فأنا لم أسأله ولم أتسائل ولو لمرة حول انتمائه الجغرافي إذ لا تدخل هذه التمثلات في حقلي الذهني و/ أو المشاعري ولم تُشكِل هذه التقسيمات بعضاً من حالات الوعي السياسي لديّ منذ أيام شبابي حتى اليوم. أجبتُ بأنني لا أدري وهل سبق وأن طرح أحد الفلاحين من أنصار شيخنا المناضل “عز الدين القسام” وهم من أرياف نابلس وجنين ومنطقة مرج ابن عامر سؤالاً كهذا في أحراش “يعبد”حيث تحاصرهم قوات الجيش البريطاني! وهل بطل معركة “ميسلون” سعيد العاص القادم من “حماة” لكي يستشهد على أرض فلسطين في معركة “الخضر” عام ١٩٣٦، أبدى استغرابه قبل ان يلفظ أنفاسه الأخيرة لمعنى استشهاده هنا وليس على أرض معركة ميسلون السورية!
سلامة كيلة كان من نفس طينة هؤلاء، “بير زيت” مسقط رأسه لم تكن لتختلف كثيراً لديه عن دمشق وما كان شعاره المفضّل عام ٢٠١١ سوى تلخيص لهذا الازدواج ففي عز النهوض الثوري السوري أطلق شعار”من أجل تحرير فلسطين، نريد إسقاط النظام”
في نفس هذا السياق، تكثفت لديّ إثرَ جميع هذه التساؤلات والتداعيات فكرة طرح سؤال يتعلق بتطابق هذا الشعار مع شعارٍ سبق وأن رفع رايته شهداء “المنظمة الشيوعية العربية” على امتداد عامي ١٩٧٤ و ١٩٧٥فلماذا لم يكن سلامة كيلة هو الرجل السادس من على منصة المشنقة التي نصبها المجرم حافظ الأسد لخيرة الشباب السوري والفلسطيني في ذلك التاريخ البعيد. كيف نجى سلامة كيلة من ذلك المصير المحتوم؟ يمكننا أن نفترض أن سنوات دراسته الجامعية في بغداد والتي تخرج منها عام ١٩٧٩كانت كفيلة بحمايته من هذا الهوى الثوري والذي كان يجتاحه مبكراً، هوىً ما كان له إلا وأن يجعل من انضمامه الى صفوف هذه المنظمة الفلسطينية – السورية الوليدة قدراً حتمياً. وكيف لا وهو الدائر في فلك القائد الفتحاوي اليساري، ناجي علوش، إبن بلده “بير زيت”. تيار ناجي علوش كان على صلة ببعض من شكًل لاحقاً “المنظمة الشيوعية العربية”وتحديداً في ظل نقاشات متقاربة حول ضرورة قيام حزب ثوري عربي واحد كرافعة لتحرير فلسطين وللتحرر من نير أنظمة القمع والاستبداد في ذات الوقت. شعار بناء الحزب الثوري الشيوعي العربي كان من أغلى امنيات سلامة كيلة حتى تاريخ وفاته المفاجئ.
وهكذا، قد تكون بغداد وجامعتها هي من أسقط هذا الرقم السادس من على منصة المشنقة، ولكن ولمعايشتي تلك الحقبة، لم يكن هذا البعد الجغرافي ذَا دلالات سياسية كبيرة وذلك لتنقل الشباب المناضل ما بين بيروت ودمشق وبغداد في شبه حركة دائمة وحيث تنتقل النقاشات معهم من هذا المكان لذاك.
في صباح يوم السبت ٢٩/٧/١٩٧٥ نُصبت المشنقة المُعدة لإعدام “علي الغضبان”(فلسطيني لبناني)، “غياث شيحة”(سوري)، “محمد وليد عدوان”(فلسطيني سوري)، “محمد خير نايف”(فلسطيني سوري) ولِ “علي الحوراني”(فلسطيني سوري). وفي معركة ليلية مع قوى الأمن، قُتل مناضل المنظمة الشيوعية العربية “محمد زهير شقير”(سوري) بطلقة في الرأس.
إضافة لهذا الحكم المجرم للعصابة الأسدية، حُكِمَ على “عماد شيحة”، أخ غياث شيحة بالسجن المؤبد والذي لم يخرج منه سوى في عام ٢٠٠٠.”فارس مراد”،قضى في السجون الأسدية من سجن تدمر الصحراوي الى صيدنايا ما قدره ثلاثون عاماً لكي يخرج في سنة ٢٠٠٤ ولكي توافيه المنية بعد ذلك بقليل في سنة ٢٠٠٩(عن “الحياة”١٧/٣/٢٠١٦).
سلسلة القتل الأسدي بدأت مبكراً وكانت “المنظمة الشيوعية العربية” أول العنقود في هذا التاريخ الدموي المتواصل لهذا النظام الاستبدادي، وأضافةً الى ما تم ذكرهم، أنزل النظام بعدد آخر من أعضاء المنظمة عقوبات قاسية: هشام البريدي(سوري)، محمد فارس(فلسطيني سوري)، هيثم النعال(سوري)، محمد وليد السلطي(فلسطيني سوري)، محمود الأبطح(فلسطيني سوري)، بيهيت كنيفاني(سوري) وأخيه نبيل كنيفاني.
أعتقد أنه لم يدر بخلد الشهداء الخمسة على حبل المشنقة سؤالاً عبثياً فيما لو كانوا من فلسطين أو من سوريا، بالضبط كما لم يدر في خلد الشهيد الشيخ عز الدين القسام في أحراش يعبد وسعيد العاص في الخضيرة وأعتقد بأن سلامة كيلة لم يكن ليخطر بباله سؤال عبثي كهذا لو كان مع قافلة الشهداء هذه.