لسنا مكاناً، لسنا حدوداً، لسنا دولةً، لكنّنا حاضرون، ومعنا تحضر ثقافتنا وفكرتنا عن الوطن والانتماء إليه، لم يعتد الفلسطينيون مكاناً خاصاً بهم، مكاناً يدخلون إليه. نحن خارجون دائماً، لا نجدُنا سوى خارجين عن أمكنتنا، مبعثرين في أمكنة الآخرين.
جُملة درويش صارت شعاراً ينكر به الفلسطينيون الحالة القائمة في أنّ “وطني حقيبة” بنفيها، لفظياً، شعرياً، مجازياً، لأنّ الوطن، فلسطينياً، حقيبة. كان كذلك وما يزال. هو الراهن المستنسِخ لذاته، للفلسطيني منذ الخروج الكبير عام النكبة، منذ الترحال الأوّل.
متى وجدنا مكاناً يجمعنا، يتلاشى كالغبار. نُبقي حقائبَنا على ظهورنا، نهيم على وجوهنا. كذلك كان الفلسطينيون في مهرجان كان لهذا العام، لا مكان يجمعهم، لا جناح يأويهم كالخيمة، أشبه بحالهم التي تعوّدوها، حقائبهم على ظهورهم، متنقّلين بين أمكنة الآخرين، أصدقاء لهم وغرباء عنهم.
تعوّدُ هذه الحال ليس حسناً، ليس اختياراً، التكيّف مع الترحال ليس امتيازاً، لكنّ فلسطين هي الفلسطينيون (وفنّهم)، هي أين تواجدوا، هي الفكرة التي يشكّلها هؤلاء بحضورهم أين كانوا، هي كلّ هؤلاء معاً، بفنونهم، هذا ما شعرتُه في المهرجان الكئيب من ناحيته الأخرى، كأنّ عرساً عالمياً يمتدّ لأيّام، ينتشر الفلسطينيون فيه، حقائبهم على ظهورهم، يحكون بمشاريعهم وأفلامهم عن الفكرة التي اسمها فلسطين، يروون حكاياتنا لا كما يريدها الاحتلال، لا كما تريدها جندرمةُ الاحتلال (السّطلة، ما غيرها)، بل كما يريدها كل هؤلاء، هي وطن الفلسطينيين. فلا أعرّف فلسطين بغير ذلك: وطن الفلسطينيين.
فنّنا وأدبنا وتطريزنا وعموم ثقافتنا، هو أنقى ما يمكن أن ينقل للعالم حكاية أهل تلك البلاد التي لا تكسب “قداستَها” إلا من أهلها، المشتّتين والباقين، والتي لا تكسب “قداستُها” أي معنى إلا بفنوننا، وهذه الفنون نحملها متنقّلين بها من مكان آخر، إلى مكان آخر.
لا أقول “لا نريد مكاناً…” بل نريد، نريد مكاناً نرمي فيه حقائبنا ونتجوّل، أخفّاء، في أمكنة الآخرين نحكي حكاياتنا، لكننا، وقد تعوّدنا الخروج دائماً، وتعوّدنا أن يكون بقاؤنا، متى كان، مؤقّتاً، كنّا “جِمال المحامل” وأحضرنا فكرتنا عن الوطن الذي غاب تمثيله (أو غُيّب) بجناح كالخيمة تأتيه الناس، لا تخرج ناسُه.
لكلّ ذلك، غابت فلسطين مادياً (بمساحة تُقاس بأمتار يعلوها علم) وحضرت معنوياً (بفنون أوسع من المساحات)، وكانت بذلك أشبه لذاتها، وكان أهلُها، بحقائبهم، بفنونهم المحمولة فيها، أصدق تمثيلاً لها من تلك المكاتب الملمّعة، بأمخاخ مغبرّة على كراسيها، ومن نيّة موظّفي الجندرمة وهمّتهم.