تحدث إدواردو غاليانو في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل» عن كرة القدم باعتبارها مصنع العبودية الجديدة، تلك العبودية التي تستهدف اللاعب الموهوب عندما ينتبه إليه رجال الأعمال المضاربين في سوق النخاسة الجديد فـ “يشترونه، يبيعونه، يعيرونه، ويسلم هو قياده لهم مقابل الوعد بمزيد من الشهرة ومزيد من المال وكلما نال شهرة أكبر، وكسب أموالاً أكثر، يصبح أسيراً أكثر.”
هذا المصير الذي ينتظر دائماً كل الموهوبين في عالم كرة القدم ليس إلا جزئية من واقع العبودية التي تفرضها لعبة كرة القدم في العالم على الناس والعالم. حيث تُرمى ألاف القيود مع ميلاد ناد جديد ولاعب جديد. بعض القيود يمسك طرفها رجال الأعمال وبعضها يمسكها رجال الإعلام وبعضها يمسكها رجال السياسة. ومع انتقال الزاوية نحو رجال الإعلام يتحول القيد الحديدي من عنق اللاعب إلى عنق المشاهد ومع تغيير الزاوية نحو رجل السياسة تتحول القيود كلها إلى رقاب المواطنين. وهنا نفهم حرص السلطة على تشييد الملاعب وإطلاق البرامج المختصة ومسابقات وجوائز الرهان الرياضي فكل ذلك يصنع ميكانيزمات السيطرة.
أفيون الشعوب
تخصص الدول ذات الأنظمة الشمولية وخاصة دول العالم الثالث نسبة كبيرة من ميزانياتها للرياضات الجماعية وخاصة لكرة القدم، كل ذلك لمعرفتها الدقيقة بتأثير تلك الرياضة في الجماهير، فهي أداة تأطيره ذلك التأطير الذي يمهد للسيطرة عليه، وهنا نذكر كيف وصل رجل الأعمال الإيطالي سيلڤيو برلسكوني إلى الحكم مثلاً. وقد حاول أن يقلده الكثير من رجال الأعمال في العالم والعالم العربي من الخليج إلى المحيط لعل أقربهم رجل الأعمال التونسي سليم الرياحي عندما تقدم لرئاسة أعرق الأندية التونسية؛ النادي الإفريقي. وقد تحصل على عدد مهم من المقاعد في البرلمان لحزبه.
ظل الساسة العرب يبنون الملاعب ويشترون حتى النجوم الآفلة واللاعبين العالميين الخارجين عن الخدمة في بلدانهم ليستمتعوا بحركاتهم الثقيلة على عشب ملاعبهم المكيفة في صحراء الربع الخالي، كل ذلك على حساب بناء المدارس والإنسان لأنهم في حاجة إلى جماهير لا إلى قراء أو علماء أو مهندسين. وتحارب تلك الأنظمة تدريس الفلسفة في مقابل التحريض على كرة القدم فكرة القدم تشتغل وفق استراتيجيتهم كما لو كانت أفيوناً يخدر تلك الحشود ويمنعها من التفكير عبر إلهائها بمعارك الترف مقابل معارك الحياة الحقيقية.
العرب وكرة القدم المسمومة
في سابقة شهيرة سميت بواقعة “أم درمان” بالسودان، انطلقت أزمة الجزائر ومصر التي ابتدأت رياضية لتتحول إلى مأساة وأزمة دبلوماسية وسياسية وأخلاقية سنة 2009. عاش الشعبان المصري والجزائري أسوأ فترة تاريخية ليست أقل أثراً عليه من هزيمة 67، فقد تجند فجأة مئات الملايين لحرب إعلامية ودبلوماسية بين البلدين طالت المثقفين والفنانين وصارت صكوك الوطنية تمنح بحسب انخراط المواطن في هذه الحرب التي سلاحها الشتم والحط من “الآخر الحميمي” في كل شيء سياسياً واقتصادياً وفنياً. هذا الكم الكبير من “الحيونة” التي أدارتها المؤسسة السياسية المصرية والمؤسسة السياسية الجزائرية بالصحافة الصفراء حولت الشعبين إلى أدوات طيعة في يد الساسة للتغطية على جرائمهم الاجتماعية وتجويعهم لشعبين عظيمين. وقد أثبتت بعد ذلك انتفاضة مصر والحراك الجزائري اليوم بشاعة تلك الأنظمة.
كان بوتفليقة يخرج مرهقاً من انتخابات رئاسية مزورة ويحتاج إلى شيء من الراحة قبل أن يلتفت إلى الاقتصاد المنهار في عهدته السابقة وكان النظام المصري المترهل يبحث عن بطولة سريعة لنجل الرئيس الذي يستعد للاستيلاء على الكرسي ويحتاج إلى حشود تجعله زعيماً سريعاً فكانت كرة القدم.
ولأن النخب يائسة من أي تغيير ولا تستطيع أن تعيش إلا في كنف القوي سرعان ما رمت بنفسها في حضن الجماهير الغاضبة ولم تسع أبداً إلى تعديل مواقفها ورؤيتها للمسائل وبث الوعي فيها كدور أي نخب مستنيرة في العالم المتقدم. كل ذلك حدث في مصر والجزائر وتصدى لذلك الخطاب عدد قليل من المبدعين المنشقين أصلاً والذين يعيشون بعيداً عن غنائم تلك السلطات التي ترش بها تلك الكائنات الثقافية والإعلامية لتعيش في ما يعتقدون أنه عيش كريم وهو في الحقيقة مذلة واستعباد شبيه باستعباد لاعبي كرة القدم كما وصفها إدواردو غاليانو. فيوم اللعب لست أنت من يقرر اللعب أم لا بل طبيب الفريق وهو جزء من ماكينة النظام؛ نظام وضع قواعد اللعبة: المال والشهرة مقابل العبودية. لست حراً في أن تلعب ولا في كيفية اللعب، فقط عليك أن تطبق التعليمات.
ولأن الشعوب العربية لا تتعلم والأنظمة تعيش من جهل الشعوب وتديرها وفقاً لجنونها وإدمانها، فقد أطلت من وراء ملعب رادس بتونس بوادر أزمة كارثية جديدة يمكن أن تعصف بالشعبين التونسي والمغربي بسبب مقابلة كرة قدم بين الوداد البيضاوي والترجي الرياضي من أجل كأس افريقيا. المقابلة كانت غريبة وتوقف فيها اللعب في تونس وتوج الحكم في النهاية الفريق التونسي لكن “الكاف” (الاتحاد الإفريقي لكرة القدم) قرّر بعدها بأسبوع (قبل أيام) إعادة المباراة في بلد محايد دون جمهور طالباً من الترجي التونسي إعادة الكأس ومعلناً عن عقوبات مالية، وهي سابقة غريبة لم تحدث في تاريخ كرة القدم.
المشكلة ليست هنا إذا نظرنا إليها بصفتها مباراة كرة قدم، ومهما علا شأنها فهي لعبة دورها الأساسي هو التقارب بين الشعوب، ولا المشكلة في ثورة الجماهير الكروية ورفضها للقرار أو مطالبتها به. إنما المسألة في التوظيف السياسي. فقد انطلقت الردود سريعاً بعضها مغربي مشكك في قدرة تونس على تأمين مباراة كرة قدم، تلقفها رئيس الحكومة التونسي يوسف الشاهد الذي يستعد لخوض السباق في الانتخابات الرئاسية ويعاني من تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة ليعلن أن قرار “الكاف” اعتداء على تونس وأمنها وأنه لن يسمح بذلك. هنا انطلق الإعلام والإعلاميون وبعض والكتاب في حملات الشتم المتبادل طالت النظام المغربي والنظام التونسي وأصبحنا في مشهد سوريالي للتفاخر بنظامين أصلاً يعيشان حالة من البؤس التي يفضحها دخل المواطن في البلدين ومقدرته الشرائية وهكذا أطلت أزمة الجزائر ومصر من جديد برأسها بين الشقيقين المغربي والتونسي خاصة أنهما يعيشان دائماً حالة من التنفاس حول القطاع السياحي والاستقرار الأمني في شمال إفريقيا.
من جهته يمر المغرب الأقصى بأزمات سياسية كثيرة تظهر هنا وهناك في المملكة وأزمات اقتصادية زيادة على الأزمة الدائمة للصحراء الغربية ومشاكلها مع الجارة الجزائر، ومثل هذه الأزمة قد تلهي الشعب عن المطالبة بحل القضايا العالقة ويزيد تفعيل ما سمي بالثورة الناعمة مقابل الثورة التونسية والانتقال الديمقراطي.
تحرّكَ بعض الإعلاميين والمثقفين بسرعة لتنبيه الشعبين لكن صوت المثقف يبقى صوتاً خافتاً مقابل أهازيج جماهير كرة القدم. فهل ينجو الشعب التونسي والشعب المغربي من مشهد “حيونة الإنسان” ويفوّتا على الجهات التي تريد أن تلهيهما عن المطالبة بالمطالب الحقيقية في الإصلاح السياسي والاقتصادي وانتزاع حقوقه كإنسان أم ستجرفهما أهازيج الهوليغنز العربي ومضخمات صوتها المدعومة سياسيا؟
ما يجعلنا متشائمين قليلاً هو أننا نعي جيداً أن هناك فرق كبير بين إحساس العبد بالألم وإحساس الحر بالإهانة كما يرى يوسف إدريس، فالشعوب العربية مازالت تشعر، في أحسن الأحوال، بالألم الموضعي ولم يحن الوقت لتشعر بالإهانة عندما تُضرب من حكامها، لأن بعض نخبتها خبأت عقولها وألسنتها في جيوبها خوفاً أو طمعاً والدليل هو عودتها السريعة إلى الزريبة بعد أن تكون قد انتفضت في شكل كرنفالي ورقصت في الميادين وغنت أهازيج الحرية.
المثقف في زي الانكشاري
إن المسألة متعلقة هنا بضرورة إيجاد تحليل سوسيولوجي وبسيكولوجي لحالة النخب كيف يقع جرها بسرعة نحو مربع العنف الذي قضت عمرها تحاربه. ولا بد من وقفة تأملية في قدرة هذه النخب على مواجهة سلطة يمكنها عبر مبارة كرة قدم تجنيدها وتحويلها إلى حالات انكشارية تقتل وتضرب وتشتم على الهوية.
هل هذا التوظيف الخطير لكرة القدم باعتبارها أفيوناً للشعوب هو الذي جعل المثقفين اليساريين، كما يقول غاليانو، “يزدرون كرة القدم لأنها تخصي الجماهير وتحرفها عن النشاط الثوري. خبز وسيرك، سيرك دون خبز، فالعمال منوّمون بالكرة التي تمارس عليهم سحراً خبيثاً، يصابون بضمور الوعي، ويتيحون لأعدائهم الطبقيين أن يسوقوهم كالقطيع.”
ولكن ماذا يفعل المثقف المعزول عن الإعلام وعن الجماهير في ظل سطوة كرة القدم وزبانيتها؟ هل في إمكان هذا المثقف أن يقود ثورة أو أن يعدل شيئاً في هذا الملعب؟ ربما ليس أمامه غير اقتناص فرصة دخول مصنع العبودية وانخراطه في سلسلة إنتاج الأفيون فيمكنه أن يتحول إلى معلّق رياضي في برنامج كبير يحوّله إلى تاجر للملابس الرياضية تحوله التجارة الملابس إلى رجل أعمال تحوله الأعمال إلى رجل سياسة يستعمل كرة القدم وتجييش الجماهير نفسها للوصول إلى الحكم. هكذا فعل بعض اللاعبين الذين كانوا عبيداً وصاروا حكاماً.