«أرجوك يا ربي.. أرجوك أن تساعدني على أن أتلاشى»
وردت هذه الجملة على لسان “بيكولا بريد لوف”، الفتاة السوداء ذات الأحد عشر عاماً، بطلة رواية «العين الأشدّ زرقةً» للروائية والناقدة “الأفروأمريكية” توني موريسون (١٩٣١ – ٢٠١٩)، التي أعلنَ ناشرها بول بورغاردز المتحدث باسم دار نشر الفريد إيه. نوف، عن وفاتها قبل أيام.
جملةُ الرّجاء تلك، جاءت على لسان الفتاة التي لا تحلمُ بشيء سوى بعينين زرقاوين فقط، لا لترى من خلالهما عالمًا مختلفًا في نظرتها إليه وحسب، بل على العكس من ذلك، فإنّ الأسوأ، أنّها كانت تراهنُ على أنّ العينين الزرقاوين ستغيّران نظرة العالم إليها. وبما أنّ الحكمةَ يُمكنُ أن تؤخذَ عن الأطفال، مثلما تؤخذُ عن أفواهِ المجانين، كون الذي يجمعُ بينهما (أي المجانين والأطفال) هو ذلك التحرّرُ من قيدِ الانضباط الاجتماعيّ، فإنّنا أمام جملةٍ رجائيّةٍ صادقة، عبّرَت من خلالها طفلة عمّا تعيشهُ من إحساسٍ بالغبنِ والتمييز، تراهُ ولا تسمعهُ أحيانًا، وتحسّهُ دونَ أن يُنطق. تمنعُ ظهورهُ سطوة القانون، والصوابيّة السياسية، التي أرادَت السلطات الأمريكية المتعاقبة منذُ أواسط القرن العشرين، اتخاذها نهجًا، حاولت نقلهُ إلى الأمم البيضاء الأخرى، في سبيل التخفيف من غلواء المشاعر التمييزية في نفوس البيض إزاء السّود. ما يعني أنّ بإمكانِ الإنسان أن يكرهَ أحدًا بكلّ يُسر، لكنّ عليهِ أن يربّي هذه الكراهيةَ والتمييز في نفسه، من دون التصريح المعلن بها. لأنّ القانون لا يُحاسبُ على النوايا.
غير أنّ القانون أيضًا، فيما بدا ويبدو، يكتبهُ الأقوياء، لا التاريخ فحسب. وعلى ذلك، فإنه قد يُحاسبُ النوايا في مواضع أخرى!
ففي تمّوز/يوليو من العام ٢٠١٣، برّأت هيئة المُحلّفين رجلَ الشرطة الأمريكي “جورج زيمرمان”، في قضيّة قتلهِ للشاب الأمريكي الأسود “ترايفون مارتن”، ذو السبعة عشر عامًا، الذي لقي مصرعهُ في بدايات العام ٢٠١٢ على يد زيمرمان، بعد أن ارتأى هذا الأخير أنّ مارتن، الذي كان يمشي في الشارع وحسب، يُشكّلُ خطرًا وتهديدًا على سلامته!
كان ترايفون مارتن، يرتدي كنزةً ذات قبعة، ويمشي إلى بيته بعد أن اشترى بعض السكاكر من أحد المحلّات، حين رآهُ زيمرمان، وقرر على نحوٍ مفاجئ أنّ الفتى اليافع يُشكّلُ خطرًا على الأمة الأمريكية، فقرر ملاحقته، رغم أنّ الشرطة كانت قد طلبت منه أن يتركه يمضي في سبيله، ما أدّى إلى مشاجرةٍ بين زيمرمان ومارتن، انتهت بإطلاق النار على الفتى الأسود وقتله.
الحادثة التي أثارت موجةً عارمةً من التظاهرات والاحتجاجات في ولايات أمريكية عدة، ضدّ التمييز الفاضح الذي يُمارس ضدّ السود، وقعت في العام ٢٠١٢، أي في العام ذاتهِ الذي قررت فيه الإدارة الأمريكية، أن تمنحَ توني موريسون وسامَ الحريّة الرئاسي، الذي يُمنحُ من قبل الرئيس الأمريكي (باراك أوباما آنذاك)، وهو أعلى وسام مدني في الولايات المتحدة ويعطى للأفراد الذين قدموا مساهمة خاصة لأمن أو للمصالح القومية للولايات المتحدة.
وهنا يصيرُ التساؤلُ عما اعتبرتْهُ الإدارة الأمريكية مساهمةً من قبل موريسون لأمن أو مصالح بلاد العمّ سام، سؤالًا ممكنًا. ليس لما تمثّلهُ إسهامات موريسون للإنسانيّة، وسؤالها الذي لا ينتهي بالطبع، إنما للسبب نفسهِ الذي يجعلُ من السؤال عن منح منظمة حظر الأسلحة الكيماوية جائزة نوبل للسلام في العام ٢٠١٣، في عهدِ أوباما ذاته، وفي نفس العام الذي لقي فيه ما يزيد عن ١٠٠٠ شخص حتفهم، معظمهم من النساء والأطفال، جراء الهجمات التي قادها طيران النظام السوريّ بالأسلحة الكيماوية على قرى وبلدات الغوطة الشرقية، في الريف الشرقيّ من العاصمة دمشق، سؤالًا محقًّا. إضافةً لأحداثٍ كثيرةٍ أخرى، مثل أن يمنحَ أوباما وسام الحريّة إيّاه في العام ٢٠١٧، للسيناتور الأمريكيّ “جو بايدن”، أحد أشدّ المؤيدين لبناء الجدار العنصريّ المقيت الفاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك، والمعروف بمواقفه المناصرة لدولة الاحتلال الإسرائيليّ. الدولة التي ناهضتها توني موريسون طوال حياتها، معتبرةً إياها “دولة فصل عنصريّ” معركتُها معها، لا تنفصلُ عن معركتها مع العنصريّة بوجهٍ عام! ومنتقدةً ازدواجية المعايير الغربيّة، التي تسمحُ للغرب بالاحتجاج على اختطاف الجندي الإسرائيلي “جلعاد شاليط”، في نفس الوقت الذي يقبع أكثر من عشرة آلاف فلسطيني في السجون الإسرائيلية وسط صمتِ العالم.
ومن نافل القول إن الشعورُ المُزيّفُ بالنّدم، ليس جديدًا على “العالم الحديث”، فهو ذاته الذي هجّرَ يهود أوروبا والعالم إلى فلسطين، كتعويض عن العنصريّة التي لقيها أولئك من أصحاب “العيون الأشدّ زرقةً”، الذين أرادت الفتاة السوداء “بيكولا بريد لوف” الانتسابَ إلى عالمهم. يحرّكُها خيالُها الطفل، وما تراهُ وتشعرُ به من اضطهادٍ ونقصٍ اعتقدت أنّ تحوّل لونَ عينيها إلى الزرقة الشديدة قد يُنقذها منه، مثلما جاء في الرواية:
“في كل ليلة تصلي بيكولا من أجل العينين الزرقاوين، وعلى الرغم من أنها في الحادية عشرة، إلا أن أحداً لم يشعر بوجودها. ولكن هذا سيكون مختلفاً، فبالعينين الزرقاوين كما يتراءى لها: سيتغير كل شيء. ستكون أكثر جمالاً، وسيكفّ والدُها عن مشاجرتِها، ويتوقف عن الشرب، ويكفّ أخوها عن هروبه من المنزل.”
أولم يكن هذا النوع من التعويض المزيّف، هو نفسهُ الذي جعلَ ألفريد نوبل، يوصي بإنشاء الجائزة الأرفع والأكبر قيمة في العالم، بعد أن اخترع الديناميت، وساهم بقتل عشرات الملايين من البشر منذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا؟!