ـ 1 ـ
تغيب الإنتاجات السينمائية العربية المشتركة بين دول وجهات عربية، فإذا باقتباس سينمائيّ لروايات عربيّة يُعوّض بعض هذا الغياب، وإنْ بشكلٍ متواضع للغاية. نادرة هي تلك الإنتاجات، إذْ يبدو أنّ المخرجين والمنتجين العرب يعثرون على إنتاجات مشتركة مع دول وجهات غربيّة، بـ”سهولة” أكبر بكثير من عثورهم عليها في الجغرافيا العربية. لكن مخرجين عربّا يقتبسون أدبًا عربيًا من خارج بلدانهم، لإنجاز أفلامٍ تتلاءم ومشاريعهم وأفكارهم وانفعالاتهم، وإنْ يبقى الاقتباس قليلاً، كقلّة الإنتاجات المشتركة تلك.
هذا واقعٌ، “يُربكه” إيجابيًا حصول مشروع سينمائي عربيّ على تمويل أو منحة او إنتاج مشترك مع دولة أو جهة عربية. والإرباك الإيجابي يتمثّل أيضًا في اقتباس مخرج مصري رواية لكاتب لبناني، يرى فيها مشتركات عديدة مع مزاج أو نمط تفكير أو أسلوب عيش، كيُسري نصرالله، عند اقتباسه رواية “باب الشمس” (1998) لالياس خوري، جاعلاً من الاقتباس فيلمًا بالعنوان نفسه (2004). أو كأنْ تُغري رواية مهمّة، كـ”الخبز الحافي” (مكتوبة عام 1972، وممنوعة من النشر لغاية 1982)، للمغربيّ محمد شكري، مخرجين عرب، فتُنقل إلى السينما مرّتين: أولى في فيلمٍ قصير للفلسطيني توفيق أبو وائل، بعنوان “يوميات عاهر” (2001)، وثانية في روائيّ طويل بالعنوان نفسه (2004) للجزائري رشيد بن حاج.
هذا غير محصور بمخرجين عرب، إذْ يقتبس غربيّون روايات عربية لإنجاز أفلامهم، كالفرنسيتين زابو بريتمان وإيلِيَا غوبّي ـ ميفيلّاك، اللتين تختاران رواية “سنونوات كابُل” (2002) لياسمينا خضرا، لإنجاز فيلم تحريك بالعنوان نفسه (تبدأ عروضه التجارية الفرنسية في 4 سبتمبر/ أيلول 2019).
بالإضافة إلى هذه المسألة، هناك مشاركة روائيّ عربيّ في كتابة سيناريو سينمائيّ. فالروائي المصري نجيب محفوظ ينخرط في العمل السينمائي أعوامًا مديدة، كرقيبٍ وكاتب سيناريوهات لا علاقة لها بروايات له مُقتبسة للسينما، علمًا أنّ له روايات عديدة “مُقتبسة” للسينما. بينما يُشارك الياس خوري في كتابة سيناريو “خارج الحياة” (1991) للّبناني الراحل مارون بغدادي، المقتبس عن كتاب “رهينة في بيروت” (1987) للصحافي الفرنسي روجيه أوك، وفي كتابة سيناريو “باب الشمس” لنصرالله. علمًا أن خوري نفسه يتعاون مع اللبناني ربيع مروة على كتابة مسرحية “يوميات غاندي” (1991)، المأخوذة عن روايته “رحلة غاندي الصغير” (1989)؛ وعلى إعداد وكتابة “3 ملصقات” (2000) أيضًا. أما اللبناني حسن دواد، فمُشارك في كتابة سيناريو لبغدادي بعنوان “زوايا”، وهو سيناريو غير مُنجز بسبب الوفاة المفاجئة للمخرج (11 ديسمبر/ كانون الأول 1993، قبل أيام على احتفاله بعيد ميلاده الـ44).
المصري الفرنسي ألبير قصيري ـ مؤلّف روايات عديدة باللغة الفرنسية، بينها “شحّاذون ونبلاء” (1955)، المُقتبسة للسينما مرّتين: أولى عام 1972 مع الفرنسي جاك بواترونو، وثانية عام 1991 مع المصرية أسماء البكري؛ و”كسالى الوادي الخصيب” (1948)، التي يقتبسها اليوناني نيكوس بانايوتوبولس لفيلمٍ بالعنوان نفسه (1978) ـ يكتب سيناريو “نوافذ اللوفر” (1974) للفرنسي البلغاري الأصل ميشال ميتراني، عن رواية بالعنوان نفسه (1960) للكاتب والمؤرّخ السينمائي والمخرج الفرنسي روجيه بوسّينو.
ـ 2 ـ
هذا جانب من علاقة الأدب بالسينما، في العالم العربي وخارجه. تتفوّق مصر على دول عربية أخرى، تمتلك صناعة سينمائية كالمغرب والجزائر وتونس مثلاً، في الاقتباسات السينمائية لروايات مصرية (محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وعلاء الأسواني وإبراهيم نصرالله، وغيرهم). الأفلام تلك، كغيرها من الأفلام المصرية، خاضعة لقراءات نقدية كثيرة، في مقالات ودراسات ومؤلّفات عديدة، فلائحة المخرجين المصريين، الذين يقتبسون روايات مصرية، كبيرة.
لسورية تجربة في هذا المجال، وإنْ تكن متواضعة. فللروائي حنا مينه حضورٌ عبر أفلام مقتبسة عن رواياته، كـ”بقايا صُور”، الصادرة عام 1984، والمتحوّلة إلى فيلم عام 1979 لنبيل المالح، الذي يقتبس “الفهد” (1968) لحيدر حيدر عام 1972؛ و”الشراع والعاصفة”، الصادرة عام 2006، والمنجزة فيلمًا عام 2010 لغسان شميط، “والشمس في يوم غائم” الصادرة عام 1973، والمقتبسة فيلمًا عام 1985 لمحمد شاهين. هذه أمثلة تكشف اهتمامًا سينمائيًا بروايات تعكس جوانب من أحوال أفراد وتفاصيل عيشهم وتحدّياتهم اليومية.
أما المصري توفيق صالح، فيقتبس “رجال في الشمس” (1963) للفلسطيني غسان كنفاني، محوّلاً إياها، عام 1972، إلى “المخدوعون“. لكنفاني أيضًا رواية ثانية، هي “عائدٌ إلى حيفا” (1969)، تتحوّل إلى فيلم (1995) للإيراني سيف الله داد. ميزة الروايتين كامنةٌ في قدرتهما على تفكيك خفايا النفس البشرية في الذات الفردية، في مواجهتها أقسى أنواع القهر والألم والتمزّق، وعلى كشف مآزق ورغبات وتمزّقات. والفيلمان ينقلان المناخ الإنساني فيهما إلى صُور، لن تكون متساوية الأهمية، رغم أنّ أهميتها الأولى حاضرةٌ في توثيق سينمائي لعيشٍ فلسطيني متنوّع الأشكال والمصائب.
ـ 3 ـ
النقاش الفعلي يتوقّف عند لبنان. فهذا بلدٌ تُكتَب فيه وعنه رواياتٍ مختلفة الأشكال والمضامين، وفي الوقت نفسه يعيش حراكًا سينمائيًّا حيويًا، يُنتِج أفلامًا مهمّة، جماليًا وفنيًا ودراميًا. لكنّ العلاقة بين أدبه وسينماه مُعطّلة، أو شبه مُعطّلة، مع أنّ في روايات لبنانية عديدة نَفَسًا سينمائيّا، وبناءً دراميًا يمتلك حساسية بصرية، وشخصيات وحكايات مستلّة من وقائع وراهن وذاكرة؛ بينما السينما المُنجزة فيه تغوص في خفايا وبواطن ومرويات وذاكرة وراهنٍ وخصوصيات، كما تفعل روايات عديدة أيضًا.
ومع أنّ الرواية اللبنانية الحديثة تولد عشية الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، وتُبلور آفاقها ومساراتها في سبعينيات القرن الـ20 وما بعدها، إلاّ أنّ للرواية (والقصّة) اللبنانية حضورًا سابقًا على هذا كلّه، وإنْ بخفر وتواضع، وبشكل غير مكتمل. فبعد مرحلة النهضة والبدايات التأسيسية في المهجر، وخمسينيات القرن نفسه وستينياته، تظهر كتابات يوسف حبشي الأشقر وتوفيق يوسف عواد وفؤاد كنعان مثلاً. في الفترة نفسها، يختار يوسف معلوف رواية “الأجنحة المتكسّرة” (1912) لجبران خليل جبران، مُحوّلاً إياها، عام 1964، إلى فيلمٍ بالعنوان نفسه، وبالإمكانيات السينمائية المتوفّرة حينها، ما يجعله فيلمًا عاديًا. أما روايات الأشقر وعواد وكنعان وقصصهم (للأولين قصص أيضًا)، فلا تزال غائبة عن المشهد السينمائيّ، رغم ما فيها من أدوات سينمائية، كتابة وسردًا وصُورًا مبطّنة في مسارات حكايات وحالات وشخصيات، ورغم كونها مرايا بيئات لبنانية ولحظات تاريخية، وغليانًا في الاجتماع والعلاقات والثقافة والقضايا.
ثلاثية يوسف حبشي الأشقر مثلاً، “أربعة أفراس حمر” (1964) و”لا تنبت جذور في السماء” (1972) و”الظلّ والصدى” (1989)، مصدرٌ مهمّ للغاية لصنع سينما تغوص في أحوال بلد واجتماع وأناس في مراحل تاريخية مختلفة في بيروت ومحيطها. قصص فؤاد كنعان، “قرف” (1947) و”أولاً وآخرًا وبين بين” (1974) و”على أنهار بابل” (1987) و”كأن لم يكن” (1992) و”مديرية كان وأخواتها” (1999،) وروايتا توفيق يوسف عوّاد، “الرغيف” (1939) و”طواحين بيروت” (1972)، أمثلة تندرج في السياق نفسه، وإنْ بتفاوت في مدى إمكانية الاقتباس والاشتغال السينمائيين.
هناك كثيرون أيضًا: رشيد الضعيف، الذي يقتبس بهيج حجيج روايته “المستبدّ” (1983) في “زنّار النار” (2004)، علمًا أن الضعيف نفسه يُشارك حجيج في كتابة سيناريو الاقتباس هذا، قبل أن يُشاركه كتابة سيناريو “غوود مورنينغ” (2018)، عن قصّة له غير منشورة. هدى ونجوى بركات وجبور الدويهي ومحمد أبي سمرا وحسن داود وغيرهم، بالإضافة إلى شريف مجدلاني، الذي يكتب رواياته باللغة الفرنسية، وصولاً إلى ربيع جابر، وثلاثيته “بيروت مدينة العالم” (2003، 2005 و2007) مثلاً (من دون التغاضي عن “الأهمية السينمائية” في رواياته الأخرى)، التي تلتقي مع ثلاثية يوسف حبشي الأشقر مثلاً في قراءة مسائل وحالات كثيرة، أبرزها واقع بيروت، وكيفية تكوينها وتشكّلها وتحوّلاتها الكثيرة، في أزمنة مختلفة.
ـ 4 ـ
التزام “سينما المؤلّف”، التعبير المتداول في معظم المشهد السينمائي العربي الحالي، سببٌ لانفضاض مخرجين عرب عن اقتباس روايات عربية أو أجنبية. صعوبة الحصول على إنتاجٍ يحول، غالبًا، دون التورّط في مسألة حقوق الملكية الفكرية. التمويل أو المنح غير كافية لذلك، فمعظم الأفلام العربية، المقتبسة عن روايات عربية أو أجنبية (وهذه الأخيرة نادرة جدًا)، مُنتجة بأموالِ جهات إنتاجية غربيّة.
لكن، أيُعْقَل أن يكون التزام كهذا، أو صعوبة كتلك، سببين لانعدام المحاولة أو التجريب؟ أم أنّ هناك أسبابًا أخرى؟ وفرة الروايات المصرية، والحضور الطاغي لآلية إنتاج ضخمة في القاهرة، والتداخل القويّ بين الرواية والسينما في بلدٍ زاخرٍ برواياته وسينماه، مسائل تُسهّل الاقتباس كثيرًا. بعض الاختبارات الجادّة في دول المغرب العربيّ، على الأقلّ، يحاول مزج حساسية “سينما المؤلّف” بتقنية الاقتباس، وإنْ يصعب إيجاد هذا المزج في أفلام كثيرة، رغم أنّ اشتغالات المغربي نبيل عيّوش، المختلفة في لغتها وانخراطها في تفكيك البنى الاجتماعية والفكرية والحياتية في المغرب، غير عصيّة كلّيًا عن فكرة الاقتباس، فله “يا خيل الله” (2012) مثلاً، المقتبس عن “نجوم سيدي مومن” (2009) للرسّام والنحّات والكاتب المغربي ماحي بنبين، وكتابه هذا مستند إلى قصّة حقيقة، عن عملية إرهابية في الدار البيضاء (2003).
التساؤلات كثيرة. فالعنوان (الأدب والسينما)، رغم الاشتغالات الكثيرة عليه، قابلٌ لمزيد من النقاش النقدي.
في الملف كذلك:
النهاية الحقيقة لـ «دعاء الكروان» لعدي الزعبي
الرّوائي في السينما… ٥ أفلام أحبّها لسليم البيك
السينما للجميع، والأدب أيضًا… خمسة تأملات في السينما والأدب لريم غنايم
السينما في الرواية… اللعنة والغنيمة لكمال الرياحي
القرف… محاولات لفهم عضو جسديّ مفاهيمي بلا حدود (كلمةً وصورة) لعمار المأمون