تفاجأ التونسيون بالعدد الكبير من المترشحين للرئاسة تجاوز السبعين مرشحاً، وبعد الفرز الأولي بقي حوالي 26 مرشحاً ثم كسب أربعة آخرون قضية الاستئناف ليصبح العدد 30 مرشحاً وهو عدد كبير أيضاً وقد تسببت فيه أساساً تلك الانشقاقات التي عاشتها الأحزاب قبيل الانتخابات. مما جعل وجوهاً سياسية عرفت في تيار واحد تترشح منفردة، ولم يسلم من هذا التفكك والتشتت لا الأحزاب اليسارية ولا الأحزاب اليمينية ولا حتى الوسطية والتقدمية، وهذا ما جعل التونسيين يتساءلون عن مشروعية ترشّح عدد من هؤلاء وكثيرهم من الصف الثاني والثالث وبعضهم غير مصنف أصلاً.
ولكن، المثير للاهتمام هو ظهور وجوه لم يسمع بها الشعب التونسي ولم يرها من قبل، ولا كان لها أي حضور سياسي قبل الانتخابات. ولئن كانت هذه ظاهرة عرفتها الانتخابات الأولى منذ خمس سنوات، لكن يبدو أنها تفاقمت مع هذا الاستحقاق الانتخابي الجديد، فلا ماض لهذه الشخصيات وتكاد تكون مجهولة. من هؤلاء؟ من أنتم؟ ينفلت سؤال معمر القذافي الوجودي من ألسنة التونسيين. كيف سيقنع هؤلاء المترشحون الناخبين؟ من أين سيأتون بسيَر تقنع الناخبين لينتخبوهم؟ يتساءل ناخب تونسي حائر أمام قائمة مرشحي الرئاسة التونسية لسنة 2019.
ذكّرني هذا المشهد برواية “بائع الماضي” للبرتغالي جوزيه إدواردو أغوالوزا وبطلها فيليكس فنتورا، تلك الرواية التي نقلها إلى العربية المترجم والأكاديمي التونسي عبد الجليل العربي المقيم في البرتغال، أستاذ الأدب العربي بجامعة لشبونة، ونشرت بدار نون الإماراتية سنة ٢٠١٦.
وأغوالوزا روائي برتغالي من مواليد أنغولا سنة ١٩٦٠، يعيش اليوم بين أنغولا والبرازيل والبرتغال. نشر الكثير من الأعمال الأدبية في الرواية والقصة والمسرح والمقال النقدي وكتب الأطفال. بدأ حياته الإبداعية سنة ١٩٨٨ برواية “المؤامرة” وروايته هذه تحصلت على جائزة “اندبندنت” البريطانية للرواية الأجنبية. وأطلق عليه أندرسون تيبر مُراجع الكتب في “تايم أوت” الأمريكية لقب “كافكا الإفريقي” و”بورخيس الجديد”.
الحروب مثلها مثل الثورات، تنتج عوالم جديدة ومهن خاصة كمهرب الأسلحة وتاجر العملة والقواد والواشي/البصاص ومتعقّب الأثر والإعلامي المرتزق والقناص وصانع المتفجرات والقاتل المأجور وتنشط فيها الاغتيالات وحتى صناعة أفلام البورنو وعندما تنتهي الحروب أو الثورات تفيض تلك الأراضي بمهن جديدة غير تلك المهن ويظهر أصحاب مهارات خاصة كنازعي الألغام والمقاولين من ناحية ونخبة جديدة؛ وجوه سياسية وإعلامية وثقافية جديدة من ناحية أخرى تحاول أن تفتكّ مواقع الوجوه التي خسرت الحرب أو كسبت الثورة أو تأقلمت معها، وكما تتمخض الثورات والحروب وتلد وجوهاً جديدة لا سابق للناس بمعرفتها، تظهر أيضاً مهن وأعمال وتجارة جديدة تبدو في البداية غريبة ثم تكتسب شرعيتها من خلال الواقع الذي أنتجها فتنسحب الغرابة لصالح المصلحة والضرورة.
هذا تماماً ما حصل في رواية أغوالوزا، فبعد أن خمدت نيران الحرب الأهلية الأنغولية التي انطلقت سنة ١٨٧٥ وامتدت إلى غاية ٢٠٠٢ وبعد أن دمرت الحرب كل شيء بما في ذلك الذاكرة الوطنية، ظهرت مهن جديدة غريبة كان أحد أبطالها فيليكس فنتورا بائع الماضي. رجل غريب يعيش مع وزغة هي التي تروي حكايته، انشغل بجمع النفايات من أخبار الصحف والأشرطة والتسجيلات والصور والقضايا وجعل من تلك الثروة أرشيفاً يعود إليه ليصنع للوافدين عليه ماضياً مشرفاً. كان فيليكس فنتورا “رجلاً يتاجر بالذكريات، يبيع الماضي سراً، كما يبيع الآخرون الكوكايين”.
يقول الراوي الوزغة المتحولة: استسلم فيليكس فنتورا. رجال أعمال، وزراء، مزارعون، تجار ألماس، جنرالات، ناس عاديون، لا ينقص هؤلاء الناس إلا ماض جيد وأجداد مشاهير ومخطوطات… البحث عن اسم متأصل في النبالة والثقافة وهو يبيع لهم الماضي على ورقة. يرسم لهم الشجرة العائلية. يعطيهم صوراً للأجداد ولآباء الأجداد، سادة بخواتم رقيقة، سيدات من الزمن القديم. رجال الأعمال والوزراء يرغبون في أن تكون تلك النساء عماتهم أو خالاتهم…”
كان ذلك قبل أن يطرق باب بيته ذلك المراسل الفوتوغرافي، مراسل حروب وكوارث طبيعية ومجاعات كما ادعى، يريد اسماً جديداً وتاريخاً كبيراً ووثائق رسمية مقابل “عشرة آلاف دولار”، وثائق تثبت أنه شاهد عيان على أكبر المآسي الإنسانية لأنه يريد أن يستقر في ذلك المكان ويصبح مرجعاً، قبِل فيليكس فنتورا وتحول “صانع الأحلام” كما يسمي نفسه إلى مزوّر كبير فاستخرج للحريف جواز سفر ورخصة سياقة ووثائق رسمية باسم جوزيه بوشمان، مصور فوتوغرافي محترف 52 سنة، ولد في شبيا وهي منطقة يعيش فيها البيض والسود. وجعله ابناً لصياد كبير متزوج من فنانة أمريكية وهو ما يفسر لون بشرته البيضاء. وقدم له ألبوم صور لعائلته ولأمه وأبيه وجده، وله وهو طفل. كل ذلك عبر نبش دقيق في الأرشيف الضخم لالتقاط ما يناسب هذا الحريف الاستثنائي.
وتنطلق أحداث هذه الرواية التجريبية فاضحة هشاشة الدولة التي تخرج ما بعد الحرب الأهلية بلا مناعة وكيف يقع كتابة تاريخ جديد لأنغولا وزراعة غرباء فيها على أساس هويات جديدة ناصعة والحال أنهم كانوا قتلة ومجرمين ولصوص ومرتكبي مجازر وكان يجب أن يتحولوا إلى وزغ تختفي في الشقوق.
ليس بعيداً عن هذا الوضع هو ما يحدث في تونس اليوم، منذ جمع التزكيات للمترشحين للرئاسة عندما اكتشف أن هناك تلاعب بالوثائق الرسمية للمواطنين الذين اكتشفوا هم أيضاً صدفة أنهم زكوا مترشحين ووقعوا وهم لم يسمعوا بهؤلاء وبعضهم لا يعرف أسماءهم أصلاً.
أما مقابل فيليكس فنتورا بائع الماضي الذي يشتغل في السر في الرواية فلم يعد فنتورا التونسي مفرداً ولم يعد يفعل ذلك في السر بل تقلدت هذه المهمة جحافل المرتزقة من الإعلاميين وأخذوا يزورون الأحداث ويصنعون سير النضال الطويل المتخيل والمستنبط.
وينقسم هؤلاء المخترعون للماضي إلى اعلاميي التلفزيون وهم الأكثر حظاً، والإذاعات الخاصة، أما الأخطر فهم فرق خفية الاسم تشتغل على صفحات التواصل الاجتماعي والذين يصنعون في الظلام الفيديوهات للمترشحين إما في إطار البروباغاندا أو في إطار الحرب القذرة التي يشغل فيها المونتاج موقع السلاح الأول للتلاعب بأي تسجيل صوتي أو مصور إلى جانب إطلاق الإشاعات والفضائح التي تستهدف المنافسين من المرشحين. ويتحول كل واحد منهم إلى فيليكس فنتورا.
فما الذي سيفعله التونسيون بهذه النكرات التي ما إن أطلت برؤوسها حتى طمعت في حكمهم؟ ما موقف التونسيين من بائعي الماضي ومبيضي الفاسدين بعد أن تنتهي هذه الفترة الانتخابية؟
لماذا يصمت الفنانون والمثقفون عامة ولا يقدمون رأياً حراً في ما يحدث؟
هل أصبحوا رهينة تلك القنوات الخاصة المتوحشة التي تنتج الرؤساء والحكام والتي سلبت منهم ألسنتهم طمعاً في المشاركة في مسلسل أو موقع “كرونيكير” في برنامج منوعاتي؟ أي معنى لحرية الرأي التي يتشدق بها التونسيون والتي غنموها من ثورتهم إذا كانوا تحرروا من سلطة الاستبداد الرسمية وسقطوا في عبودية المال والقنوات والإذاعات الخاصة؟
هل يتحول هؤلاء اللصوص والمزورون إلى وزغ مثل وزغة رواية أغوالوزا، تلك الوزغة التي كانت بشراً ولعنت لتصبح وزغة تعيش في شقوق بيت بائع الماضي فيليكس فنتورا؟
لقراءة الحلقة الأولى من السلسلة: الروايات التي يحتاج التونسيون قراءتها لينتخبوا رئيسهم… «إضراب الشحاذين»
لقراءة الحلقة الثانية من السلسلة: الروايات التي يحتاج التونسيون قراءتها لينتخبوا رئيسهم… «مزرعة الحيوان» أو الثوريّ ينقلب على نفسه