من بين لائحة الأفلام التي بطلها روائيٌ، وأحبّها وأحبّ اقتراحها، هو هذا الفيلم الذي لم أدرجه هناك لتكون له مساحته الخاصة هنا، أحكي فيها عن تصوير هذا الفيلم لشخصيّة الروائي، عن نموذج لصورة الرّوائي في السينما، وإن لم تكن “روائيته” موضوعاً أساسياً، وذلك في أحد أفضل أفلام أحد أفضل المخرجين لديّ.
«لا دولتشي ڤيتا»
قد لا يلاحط أحدنا أن الشخصية الرئيسية في فيلم الإيطالي فيديريكو فلّيني روائيٌ، فهذا تفصيل يُذكر عرَضاً ثلاث مرّات، ضمن مَشاهد مزدحمة بالأحاديث، كأن يسأله أحدهم أين وصل في كتابه فيجيب بكلمتين لا تشيران إلى أي تقدم به، أو يقول كذلك سريعاً ورداً على سؤال آخر إنّه سيترك الصحافة وكذلك الأدب. فمارتشيلّو صحافي، وهذه المهنة أساسية هنا في حكاية الفيلم وفي شخصية بطله. الأدب لديه فعلٌ ثانوي إذ لا نراه حتى جالساً على كرسي يكتب إلا في مشهد واحد، في ترّاس مطعم تحت الشمس جالساً إلى طاولة أمام آلة كاتبة. لكن، وكما أن الأدب في الفيلم يأتي أخيراً بالنسبة لبطله المشغول بالنساء والسّهر، فالكتابة (في المطعم) أتت أخيراً إذ نراه يحاول الاتصال تليفونياً أو الانشغال بما حوله متفادياً الكتابة، أو متهرّباً منها.
يمضي مارتشيلّو كلّ وقته في الخارج، يدرك ذلك ويقوله لأحدهم. وهذا ما نشاهده، أما الكتابا فآخر أولوياته، إذ يمضي وقته مع المصوّر المرافق له، يرشده كيف يلتقط صوره لصحيفته التابلويد. وكما يلاحق نجمات سينما كصحافي، يلاحقهن كذلك كرجل نسونجي، يقيم علاقات سريعة هنا وهناك، ينتقل من حفلة إلى سهرة إلى أخرى إلى موقع تصوير فيلم… له كاريزما خاصة، وهو محبوب من النساء اللاتي يُحسن جذبهن والتنقّل بينهن.
ليس الأدب هنا ثيمةً أساسية، بل يمرّ خفيفاً دون أن يؤثّر كثيراً عدم انتباه أحدنا إليه على تلقينا للفيلم، وذلك لانغماس الروائي في “الحياة الحلوة” لاهياً بها عن مَنح بعض الوقت للأدب وإكمال روايته. يقول في مشهد: “أهدرُ الوقت، لم أعد قادراً على تدبير أي شيء.” وذلك إشارة، إضافة إلى الأدب، إلى عمله في الصحافة وإلى زوجته التي يسعى مراراً للإفلات منها كي يتسلى مع أخريات.
ليس هنالك حضور للأدب في الفيلم إلا كممارسة غائبة، أما سبب الغياب فهو الوقت غير الممنوح له، فالروائي هنا يستمتع بوقته من ناحية ويعمل لصحيفته من ناحية أخرى، وفي المرة الوحيدة التي حاول الجلوس إلى طاولة ليكتب، تلهّى. النتيجة أن الكتابة غابت عن الفيلم، أو عن يوميات البطل في فيلمه، والكتاب لم يكتمل.
تلك الفكرة الثانوية -جداً- في الفيلم، وقد أتت ضمن موضوعات رئيسية أشد عمقاً تتعلق بمعنى أن تكون الحياة حلوة، وعبثية ذلك، وبمعنى أن البؤس قد يطل من خلف الباب حيث يفرح المحتفلون، بأية لحظة. تلك الفكرة الثانوية المتعلقة بمدى تكريس الكاتب من وقته للكتابة، وبمدى انشغاله بعمله اليومي (هو هنا الصحافة)، وبمدى انحيازه إلى متعٍ يومية (هي هنا السّهر والنّساء)، هي فكرة أساسية في الفيلم، وحضورها يسبّب عدم قدرة الروائي على الكتابة، فالحكاية/الرواية التي تُكتب لا بد من استمرارية لها في ذهن مؤلفها، وهذا أساسه الوقت الممنوح لها.
لدى مارتشيلّو جانبان في شخصيته، أحدهما مسيطر على الآخر، وهذا ما يجعلنا لا نراه إلا محتفٍ بـ “الحياة الحلوة”، على حساب رغبة نشعر بها لديه أحياناً، هي في أن يتطوّر كروائي أولاً وصحافي ثانياً، أن يكرّس نفسه لذلك ويمنحه وقته. أخيراً، نراه ينغمس أكثر في ما هو فيه، تجرّه رغبة أخرى هي الشهرة والنجمات والسّهر.
الفتاة النادلة التي التقاها في المطعم، والتي بدت كتجسيد لروايته التي كان يحاول أثناءها كتابتها. تعود في المشهد الأخير للظهور، على الشاطئ، محاوِلةً قول شيء لمارتشيلّو الذي يعجز عن فهمها وسماعها، إذ لا يسمع الكلمات/الكلام، ثم يتركها وقد عجز عن جعل كلماته هو مسموعة لها (كما عجز عن كتابتها)، ليلحق برفاق الحفلات وهم ينادونه مبتعدين.
الفيلم من بين الأكثر تأثيراً في تاريخ السينما، له مَشاهد صارت أيقونات (مارتشيلّو ماستروياني وأنيتا إكبيرغ في نافورة تريفي في روما). وهو الفيلم الذي نقل فلّيني إلى العالمية، ونال السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام ١٩٦٠.