على عادتها سنويًا، وخلافًا للتوقعات والتنبؤات حول الفائز بجائزة نوبل للآداب، توّجت الأكاديمية السويديّة يوم الخميس الموافق 10-10-2019 كلا من الروائيّة الأديبة البولنديّة أولغا توكارتشوك (57 عامًا) بجائزة نوبل عن عام 2018 بعد حجبها العام الفائت، لأسباب جنسيّة فضائحيّة وأخرى ماليّة، والروائيّ والمسرحيّ النمساويّ بيتر هاندكه (77 عامًا) عن عام 2019.
تواصل الأكاديمية السويديّة في إدهاش العالَم وإثارة التساؤلات حول طريقة عملها واختياراتها الجدليّة، منذ عام 2016 مع اختيارها بوب ديلان حاصدًا لجائزة نوبل. هذا العام أيضًا تواصل الأكاديمية في مسارها الجدليّ وهي تجمع بين شخصيّتين أدبيّتين لهما أثرهما في الثقافة والمشهد الأدبيّ المحلي في بلديهما، وتثير أسئلة الصّوت والتمثيل في الأدب.
أولغا توكارتشوك، من مواليد عام 1962 وتقيم في وارسو، مؤلفة الروايات والمقالات وقد سبق وحصدت العديد من الجوائز والأوسمة، بما في ذلك جائزة مان بوكر العالميّة عام 2018 عن كتابها “flights” ، إلى جانب فوزها مرّتين بجائزة نيكي الأدبيّة البولنديّة عام 2008 وعام 2018، حيث، وعلى نحو نادر الوقوع، تمّ اختيارها بالإجماع من قبل لجنة التحكيم والجمهور العام. توكارتشوك، التي درست علم النفس وزاولته، ولها دار نشر خاصّة، روتا، تصدر فيها أعمالها الأدبيّة، أصدرت عملها الأدبيّ الأول “رحلة أهل الكتاب” عام 1993 والذي استقبله النقاد بحرارة، ومنذ ذلك الوقت وهي تنشر أعمالاً، هي عبارة عن ثماني روايات ومجموعتين قصصيّتين، تلقى استحسانا ورواجًا كبيراً في الأوساط الأدبية والعامة في بولندا، وتحقق انتشاراً دولياً يصل بها إلى جائزة مان بوكر بعد ترجمتها إلى الانجليزية. تُعرف أولغا توكارتشوك أيضًا بعملها في مجال علم النّفس الذي أثرى عوالمها الأدبية، وبنشاطها السياسيّ ومواقفها اليساريّة، وهي عضوة في حزب الخضر البولنديّ.
وقد بررت اللجنة اختيار توكارتشوك بإعلان السكرتير الدائم للجنة ماتس مالم أنّ كتابتها جاءت دامجةً بين الخيال السرديّ والشغف الموسوعيّ اللذين يمثّلان عبور الحدود كشكل من أشكال الحياة.
أما عن اختيار الكاتب النمساوي بيتر هاندكه، والمعروف أكثر في المشهد الأدبيّ العربيّ، بحُكم الترجمات التي قدّمتها دور النّشر العربيّة للعديد من أعماله الروائيّة والمسرحيّة نذكر منها “خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء”، “رسالة قصيرة للوداع الطويل”، “كاسبار”، “الحادث الكبير”، “الشقاء العادي” وغيرها، فقد قال السكرتير الدائم للجنة ماتس مالم إن أعماله الأدبيّة المؤثّرة تتميّز ببراعة لغويّة تستكشف الهامش والمحيط وخصوصيّة التجربة الإنسانيّة.
أثار اختيار أعضاء لجنة نوبل لهندكة جدلاً كبيراً وصاخباً في العالم، وطرح سؤالاً تجاوز الخطاب السياسيّ والأدبيّ ودخل في جدل الشيفرة الأخلاقيّة لهذا الاختيار. وقد أثار فوز هاندكه غضباً واسعاً في كوسوفو والبوسنة، إلى جانب استنكار كتّاب ومثقفين عديدين من أمثال سلمان رشدي الذي وصفه في صحيفة الغارديان عام 1999 بالمتسابق الثاني على لقب المأفون العالمي للعام. وقد ظهر هاندكه كمدافع عن الصّرب أثناء حرب يوغسلافيا في تسعينات القرن الماضي، مقارنًا إياهم باليهود في عهد النازيين، مؤيداً التيار اليميني الصربيّ. حتّى أنّه صرّح بأنّ مسلمي سيراييفو قد ذبحوا أنفسهم منكرًا فعل الإبادة الجماعيّة التي وقعت في سريرنيتسا عام 1995 والتي نفّذتها القوّات الصربيّة في المكان كجزء من عمليّة التطهير العرقيّ ضدّ البوسنيين المسلمين.
بعد سبع سنوات من إدانة رشدي له، يعود هاندكه، ليحضر أيضًا جنازة ميلوسوفيتش ويقوم بتأبينه أمام آلاف المشيّعين في الثامن عشر من آذار عام 2006، وهو نفس العام الذي تمّ ترشيحه لنيل جائزة هاينرش هاينه في دوسلدورف وسحبها بعد أن اعترض عضو في مجلس المدينة على هذا الترشيح.
الكاتب الإشكاليّ على صعيد مواقفه السياسيّة، الذي دعا في عام 2014 إلى إلغاء جائزة نوبل التي تسعى إلى قوننة الأدب على نحو خاطىء، أحدثَ ضجّةً كبيرة بنيله هذه الجائزة، بعد أن فقد أمل نيلها منذ سنوات. وقد أبدى الكثيرون استياء من هذا الاختيار الذي كان من الممكن أن يكون طبيعيًا لو لم تكن له هذه المواقف المعلنة حيال حكم ميلوسوفيتش وجرائم الحرب والإبادات الجماعيّة التي ارتكبها. “فهو كاتب جيّد يدمج بين بصيرة عظيمة وعماء أخلاقي”، يقول الكاتب هاري كنزرو الذي أكّد على أهميّة أن يقف المفكّرون والمثقّفون في وجه استهزاء الحكّام ولامبالاتهم حيال الحقوق الإنسانيّة، لا مساندتهم. ووصفته فلورا سيتاكو، سفيرة كوسوفو في واشنطن ، بأنه “ناشر للكراهية والعنف الإثني”. ووصفه الكاتب جوناثان ليتل بالأخرق وعدوّه الإنسانيّ، ووصفته الروائية جنيفر إيغان بالمضلّل الذي استخدم صوته ليقوّض الحقيقة التاريخية التي تؤكّد المذبحة الجماعية التي ارتكبتها القوات الصربيّة.
نعم، يبدو أن الأكاديمية السويديّة غيّرت سياستها وتوجّهها في اختيار المرّشحين، إذ فتحت باب الصوت النسائيّ الأقلويّ لتكون توكارتشوك الفائزة الخامسة عشر بهذه الجائزة. هذا الصوت القادم من بولندة والذي يحمل معه قيم اليسار وجرأة النّبش في التاريخ البولنديّ ومواجهته وهي تصدر روايتها الصعبة “كُتب يعقوب” في محاولة لنبش التاريخ البولندي اليهوديّ وتغيير مساره نحو مفهوم التسامح والانفتاح على الآخر. إلى جانب كاتب بحجم هاندكه وعمقه الأدبيّ وثقافته الواسعة وصوته السياسيّ الذي حوّله إلى مضغة في ألسنة الخواصّ والعوامّ. فجاءت نوبل لتضع صوتَين يشكّلان بصمة أدبيّة هامّة ومشروعَين لغويّين بارعين وعالمين هويّاتيّين جديرين، إلا أنّها فشلت فشلا ذريعًا عندما طَرحت اسم هاندكه أدبيًا وتجاوزته سياسيًا. وربّما هذا هو السؤال الأصعب حول الكود الأخلاقيّ ومدى أهميّته مقارنةً بالكود الجماليّ في المطبخ الأدبيّ.
“أنا كاتب ولست قاضِ” هكذا وصف صاحب “سبّ الجمهور” نفسه مبرراً حضوره جنازة زعيم أدين بارتكاب جرائم حرب. لكنّه نسي أن مهمّته ككاتب أخطر بكثير من مهمّة القاضي. فالقاضي يفصل قوله في حياة شخص وربما ثلّة، لكنّ قول الكاتب يفصل في مصير أمم وأجيال ويعيد إنتاج مفهوم الأوطان والإنسان والتاريخ. هاندكه، حاصد جائزة إبسن وجائزة كافكا، مقابل توكارتشوك التي رافقها يوماً حارس ليحميها من التعرض لأي اعتداء في أعقاب نشر روايتها “كتب يعقوب” وهي تعيد تعريف تاريخ بلادها.
بين صوتين، واحد يعيد كتابة التاريخ ويفتحه على أسئلة إنسانية وجمعيّة حساسة، وآخر ينكر التاريخ ويفتحه على أسئلة فرديّة حساسة، نجحت نوبل هذا العام في أن تثير الجدل وتثير الأسئلة الحرجة حيال الأدب ودوره، وحيال الصوت الذكوريّ مقابل الصوت النسائي، وحيال إعادة تعريف مفهوم الجائزة وحدود بصيرتها وعمائها.