يوم 13 أيار 2011، قرأت قصيدة “في مديح الوقت” في موقع قديتا، وانتظرت صدور ديوان شعريّ لصاحب القصيدة، مرزوق الحلبي، وها هو يطلّ علينا بمؤلّفه الصادرِ عام 2018 عن دار نشر “جدل” الكرمليّة، وهو يحوي في طيّاتِه 320 صفحة، قام بمراجعتِه وتدقيقه لغويًّا الأستاذ محمود مصطفى، قامَ بتصميمِه وإنتاجِه الفنّان حمدان حمدان ولوحة الغلاف للفنّان صالح قرى.
التقيت قبل فترة وجيزة بالأسير ناصر أبو سرور وخلاصة رؤيته أنّه تخمّر فكتب… وتعرّى، ولا يخجل من عُريه؛ وها هو مرزوق قد كتب وتخمّر ونشر فتعرّى ولا يوجد سبب لخجله من عُريه، يبدو أنّ القصيدة الأولى التي حظيت بالنشر في هذا الكتاب من آب 2003 (قصيدة ثلاثةُ مقاهٍ… أربعة. ص. 106) والأخيرة من حزيران 2018 (قصيدة فرحٌ خَفيفٌ. ص. 27)، فترة كافية لتخمير العنب ليصير نبيذًا معتّقًا شهيًا.
“الديوان” عند الشعراء هو كتاب جُمِعت فيه قصائد لشاعر واحد، نوع أدبيّ معروف في الشعر العربي والفارسي والعثماني والهندي أمّا “المجموعة الشعريّة” فقد دخلت حديثًا إلى معجم اللغة العربيّة وهي عبارة عن مجموعة قصائد لشاعر معيّن ولكنها ليست كلّ قصائده، وها هو مرزوق يتجرّأ على المسلّمات ويسمّي إصداره “مؤلّف شعري”؛ يحوي سبعة فصول: جدل، لغة لم يدخلها أحد، وجع الأماكن، عودة الحلاج، جنّة التأويل، ورد الشام، خاتمة تليق بك. كلّ فصل ومضامينه وكأنّي به يجمّع سبع مساقات تحت سقف إصدار واحد، مهمّة شاقّة بحدّ ذاتها وتشكّل تحدّي للموّلِف وللقارئ العاديّ.
قرأتُ المؤلّف بشغفٍ، شدّني وشوّقني لطريقةِ عرضِه وموضوعاته، بدايةً بلوحة الغلافِ، فهي لوحةٌ جميلةٌ ومعبّرةٌ وتتماثلُ مع قصائدِ الديوانِ آخذةً بعين الاعتبارِ القيمَ الجماليّةَ للتصميمِ الحاضرةَ على كل صفحاتِ المؤلّف.
لكلٍ منّا طقوسه في القراءة والتعامل مع الكتاب الذي يتناوله؛ لديّ رهبة من نسخة ورقيّة تقع بين يدي (أمقت التصفّح والقراءة الإلكترونيّة المُحَوسبة) ولا أخربش عليها، وفجأةً وجدتني “أمركِر” 45 مرّة على نصوص إلزاميّة للتطرّق لها، لا أكثر ولا أقلّ!
تعلّق مرزوق بالوقت، أصبح الوقت هُويّته، وآمن بأنّ الوقت هو ثابتك الوحيد، فالتصق وتعلّق به ولا تُسقطه عنك، جعل الوقت حاضرًا ومرافقًا له يتكرّر في الكثير من القصائد، يواكبه في كلّ خطاه، في أحلامه وأفراحه وأتراحه فيصير ظلّه الملازم له فلا بدّ له من أن يتصالح معه، يداعبه ويهتمّ به يوميًا:
غسيلُ الوقتِ!
كلّ يومٍ أغسلُ الوقتَ
والواقعَ بالكلماتِ
وأنشرُهُ معطَّرًا
هُنا وهُناكَ
فمَن يُعيرني مَلاقطَ الغَسيلِ؟
ومن كثرة تعلّقه به وامتنانه له بالرفقة والمؤانسة، يمدحه ليكون عنوان المؤلّف من نصيبه
فِي مَديحِ الوقتِ!
“في الخمسينَ، تَأتيكَ القصيدةُ فِي غَيرِ مَوْعِدِهَا
عَاريةً مِن كُلّ زينَتِهَا
مَن خَلاخِيلها
بَهيّةً تَهُلّ
مَكْتوبةً بِرَسمِ سِنيكَ وَإكسِيرِهَا
في الخمسينَ، يبدُو لَكَ العُمرُ أقصَرَ
مِنْ مُكوثِ وَرْدةٍ فِي المَزْهَريَّةِ”
مرزوق مثقّف موسوعيّ وصاحب تجربة حياتيّة عريضة ويحاول تمرير فكره وفلسفته في نصوصه الشعريّة، مباشرةً أحيانًا ومشفّرة ومعقّدة أحيانًا أخرى تضطرّك لعدّة قراءات تأمُليّة لتصل عُمقَها علّك تصرخ “يوريكا!”
أحيانًا أقرأ نصوصًا شعريّة وأشعر بأنّي قرأتها أو سمعتها من قبل نتيجة التقليد أو “سرقة النصّ/الفكرة” مع تبديل كلمة هنا وهناك، مجرّدة من جماليّة الكتابة، نمطيّة مُقَولبة متشابهة تتغيّر فيها الأسماء، لكنّي وجدت في المؤلّف أمرًا مغايرًا، مرزوقيًا (إن صحّ التعبير) من حيث الفكرة، المضمون، الأسلوب، الديباجة وموسيقاها، لم يقع في فخّ النمطيّة، وجدته يسير في طريق شقّها لذاته بعيدًا عن النقل والتقليد والنمطيّة المعتادة وكأنّي به يشيّد مدرسة خاصّة به فأبدع، جاءت موضوعاته مختلفة وشموليّة، أفقيّة بانوراميّة، تعبّر عن أناه وخاصّة به، فصار شاعرًا كما يشتهي:
مَا لا تقولُهُ القافيةُ!
سأصير شاعرًا كَمَا أشتهي،
يومَ تمُرّينَ مِنْ قصيدةٍ لي إلى أُخرى
دونَ أن يَراكِ أحَدٌ
ويقولها بصريح العبارة أنّه يطمح للتميّز ويمقت الاجترار والتكرار: ونجح في ذلك!
“إذا كانَ نصّك الأخيرُ
تمامَ الشّبَهِ بنصّكَ الأوّلِ
كُنْ لطيفًا مَعَ الحِبرِ
واختَرْ لنفسِكَ مهنةً أخْرى”
وكذلك الأمر في قصيدته “القصائد!”، لا يُجمّل ولا يُحابي، يثور على النمطيّة المألوفة من حولنا دون خوف أو وجل.
للأماكن حضور في فضاء الشاعر وقصائده؛ يعيشها وتُؤلمه، يتناول في قصيدته “دَليلُ الأمَاكِنِ!” الجليل ومرج ابن عامر والناصرة، وفي قصيدة “ثلاثةُ مقاهٍ… أربعة” يذكر دوزان وفتّوش والرّضى، سافر في أشعاره إلى بلدان كثيرة والوطن مُرافق له وحاضر في مُخيّلته ووِجدانه، حاملًا ريشته ليرسم الأمكنة مقارَنة مع البلد، فحين يصل روما يتساءل:
“وأنتَ في روما، مثلًا،
هلْ تلُمّ الخُبزَ اليابِسَ عنِ الأرضِ،
تُقبّلُه، ثمّ تضَعُهُ في أعلى السّورِ،
كما تفعلُ في الزّقَاقِ المؤدّي إلى بيتِكُم؟
أمْ ستَتْرُكُهُ للحَمامِ، أم لأوْلادِ الغَجَرْ؟”
في قصيدته “هدايا مِن باريس” يرى الوجه الآخر لجسورها والميترو وأشجار الكستناء والحدائق والمقاهي فيصوّر حياة اللاجئين وبؤسهم ويقول:
“هَذا الفَتى المغربيّ،
كَيفَ لا أشتري مِنهُ بُرجَ آيفْلَ المُضيءَ؟
فمَنْ سِواهُ يلْوي علَى الحانةِ آخرَ اللّيلِ
يَخلعُ فيها غُربتَه ويقرأُ رسائلَ الأهْلِ؟”
وحين يزور برلين يرى الوطن:
“في برلينَ، رأيتُ غريبًا يدُلّ غريبًا على ماضيه
ويبتسمُ
منْ كثرةِ الغُرباءِ في ردهةِ الحانةِ
تصيرُ برلينُ وَطَنًا!”
في لندن لا بدّ من شطحة في الـ “هَايْدْبارك” ليتعرّى أمام نفسه وذاته:
“في ال”هَايْدْبارك”،
يقولُ العربيّ لنَفسِهِ الحقيقةَ
ويبقى حَيًا”
وكذلك الأمر في زيارته لأثينا اليونانيّة فيجدها “جنّةُ الـ “جْرافِيتي” على الأرض، وحين يصل فاس المغربيّة يلقى ثلاثة أطفال يتقاسمون رغيفَ خبزٍ حافٍ!
يتغنّى بالغُربة الحارقة داخل الوطن، وهي أصعب أنواع الغُربة، فيجد ذاته وأناه حين يكون في المنفى، بعيدًا عن الوطن، كما شعر إدوارد سعيد ومحمود درويش من قبله، كما يراها في قصيدته “التباس الوطنِ وضوحُ المَنفى”.
للشاعر نظرة ثاقبة تُعريّ الظالم وتصبو للحريّة على أشكالها، والمشكلة فينا وليس في المِرآة التي تصوّر الحقيقة بعَينها.
وجوهٌ في المرآةِ!
المرآة هِيَ هِيَ،
علَى حالِها منْ أوّلِ الخَلْقِ
تعكِسُ ما تَراهُ
وحدُها الوجوهُ هي الّتي تَخذُلُنَا
لفتت انتباهي قصائد عديدة لشخوص أثّرت فيه وعلى مسيرته وفكره، منها من عايشها ومنها من قرأها، ولا أراها قصائد مدح وبلاط، لم يطغ عليها طابعُ الليلَكة، ولم تكُن نفخًا في قربة مثقوبة، كلّ منها في سياقها وتحمل رسالة؛ “في فهْم الغياب!” في الذِكرى الثانية لرحيل والده سعيد الحلبي، “اختصارُ المسافةِ!” في أمسية سلمان ناطور:
“يبقَى السؤالُ حكايةً لا تنتهي
لُغزًا يُشرّفك، ويمنحُكَ المَعَزّةَ عندَنَا،
بينَ الحُضورِ والغيابِ مسافةٌ،
فكَيفَ يا سلمانُ تخدعُنا وتختَصِرُ المَسافَة؟”
وقصيدة “آخرُ الشّعراءِ عَلى حُدودِ الكلامِ!” (أو رسالة متأخّرة لنزيه خير)، قصيدة “قِصّة حُبّ مِصريّةٍ!” إلى شيْماء الصّباغ” (التي قتلتها عناصر الأمن المصريّ مساء 25 يناير 2015 وهي تشارك في مظاهرة سلميّة)، قصيدة “وقتٌ شديدُ الانحدارِ” إلى بشير بشير (صديقه المقدسيّ)، وأخيرًا قصيدته “قِسمةٌ” مُهداة إلى روحِ جورج طرابيشي الذي تخيّلته عرّاب مرزوق، روحه وبصماته تحلّق فوق الكثير من فِكره وأشعاره:
“لَهُمْ وَهْمُ الرّجوعِ إلى البِدايةِ مِنْ نَهايتِهِمْ
لا بُدّ لِلمهزومِ مِنْ مَعنَىً يَعودُ إلَيهِ مِنْ تِيهٍ!
لا بُدّ لِلمهزومِ مِنْ إرثٍ يُضَمّدُ جَرحَ حاضِرِهِ
ويُعطي لِذاتِه حجمًا ولِلمعنى امتِدادًا،
دِفاعًا عَنْ توازِنِه،
دِفاعًا، عَنْ وُجودٍ خارِجَ المَعقول
لَهُمْ هَذا،
كُلّ هَذا
وَلِي قَلَمٌ يُسافِرُ في اللّغاتِ
وَفي المَدَى”
يلخّص مرزوق وِجهته “النقديّة” بجرأة ليُعرّينا فيجمع شخوصًا، لكلّ منها دوره، على طاولة مستديرة في عصف ذهنيّ (في مِهنته اليوميّة يُسمّونه “ريتريتْ”) مُثير: السّموأل، عنتَرَة، سلمان الفارسيّ، المأمون، صلاح الدّين، أبو العلاء، ابن خلدون… والحَلّاجُ:
رَسَائِلُ “وِيكْلِيكْسِ” العَرَبيّةِ!
الحَلّاجُ:
“أطالِبُكُم بأطرافِيَ كُلّهَا،
وَدَمِي وأصَابعي،
سَأحْتاجُها في رِفقَةِ أبي النّواسْ
بيْنَ الدّساكِرِ حَتى آخِرِ كَأْسْ”
لغة الشاعر انسيابيّة ومتجدّدة، حيّة نابضة وبعيدة عن التكلّس، لا يخشى تعريب المصطلحات الأجنبيّة وتبنّيها بعفويّة حين يقول:
“لن تَرَى “اللايكاتِ” حينَمَا تتناسلُ “البُوستات” مِنِ
اسمِكَ
ورسمِكَ،
ويصيرُ دمُكَ بُحيرَةً للبَجَعِ!”
أو حين يقول دون ارتباك:
“أتوارَى عنْ ظِلّيَ
أجرّبُ “الجرافتي” علَى الجُدرانِ المُعتِمةِ
وأصبرُ واحدًا غيرِي”
وكذلك الأمر في قصيدته “زَمَن المِحَنِ!” (أخذتني إلى رواية “أوبرا القناديل” لمشهور البطران):
“تداعتْ كلُّ الشبكاتِ في هُوّة الزّمنِ
وكُلّ ما هًوَ افترضيّ ضاعَ فِي ارتطامِ كوكَبيْنِ
سرَقَ “الهاكِرزْ” كلّ حيِّز مُتخيّلٍ
لمْ يبقَ للرئيسِ حائطٌ
يعلّقُ عَلَيْهِ
صُورَتَه!”
نشرُ القصائد التي كُتبت خلال خمس عشر عامًا دُفعة واحدة تظلم مرزوق، نجد بعض التكرار والتناغم، وهو أمر طبيعيّ ومهضوم لو وُجدت في عدّة إصدارات؛ كما نرى في قصيدة “اسْتِعارةٌ وقصيدة “إذا أحببتَ”، وكذلك الأمر في قصيدة “استجوابٌ!” وقصيدة “َصَدىً مارقٌ!”، والبِيكار نلتقيه في قصيدة “فِتنة الضّباب”:
“تُغوِينِي الظّاهرِةُ
أنحدِرُ مِنْها إلَى ظِلّها
وكلّما دنوْتُ مِنْ نُقطةِ البِيكارِ
اختفتْ” وقصيدة “نُقطةُ البِيكارِ”.
كلمة لا بدّ منها؛ قرّر مرزوق الاعتماد على التقديم الغَيري كعتبة نصيّة فاستعان بالدكتور باسيليوس بواردي ليكتب مقدّمة توجيهيّة للمتلقّي مشيرًا إلى مُقوّمات المؤلّف متعديًا على النصّ وهو بغنى عن ذلك، فتساءلتُ: هل هي وسيلة تسويقيّة لمرزوق ومؤلّفه ؟ وهو طبعًا بغنى عن ذلك، رغم أنّها حملت عنوان “نصّ لا نفاديّ” صارت في جدول المحتويات “ليس نافخَ بوقٍ”! وقراءتها ترشي القارئ العاديّ وتوجّهه إلى ما يريده له د. باسيليوس أن يراه، حبّذا لو جاءت في نهاية المؤلّف!
نهايةً، أعجبني المؤلّف من أوّلِ نظرةٍ لأنّ النظرَ إليه مريحٌ للعينِ بسبب التصميمِ الغرافي الراقي حيث أخذ كلّ القيَم النصيةِ (الخطوط) مهتمًّا بأوزانِ النصّ، تقريبها وإبعادها عن العنوانِ وعن بعضِها البعض. الفراغُ بين الأسطرِ مريحُ، وتمّ الأخذُ بجميعِ المعاييرِ للخطوطِ ممّا يستحوذ القارئ، يستأنس به ويقرّبه إليه.
حين أنهيت كتابة قراءتي للمؤلّف جاءتني لوحة بريشة صديقي الفنّان التشكيليّ ظافر شوربجي لكلمات كتبها مرزوق: “شجر المنفى أطول، مثل قامات الناس وأعمارهم”!