مُنتجة سورية تُدمِع عيناها أمام مشاهد الخراب في بلدتها السورية المدمّرة، المتحوّلة مع المخرج السوري الليث حجّو إلى ديكور واقعي لفيلمه القصير “الحبل السرّي”. تخرج من الصالة منزعجة للغاية. تجلس في سهرة خاصة، فتبوح عن هواجسها وسبب اضطرابها، بانفعالٍ طاغٍ عليها. تقول إنّ هناك 11 فردًا من عائلتها شهداء، جرّاء قصفٍ وحشي على البلدة نفسها، المُراد لها أنْ تخرج من ألم أبنائها إلى ديكورٍ سينمائي لفيلمٍ يستلّ حكايته من مواجع الخراب نفسه، من دون أن يكون الفيلم واضحًا في قوله أحوال الخراب هذا ومُسبّبيه. تعجز عن قبول المسألة. تُدرك أنّ السينما تخترق كلّ شيء، فهذا جمالها، وأنّ السينما “تستغلّ” كلّ شيء، فهذا شرط إبداعها، أحيانًا. لكنّها ـ أمام أنقاض بلدتها المتحوّلة إلى مسرحٍ سينمائي لحكايةٍ، يُفترض بها أنْ تروي شيئًا من الألم السوري، وإنْ بإسقاطه على ألم الحروب كلّها ـ غير مُتمكّنة من قبول “سرقةٍ” كهذه (كما تقول)، فالدم دمها، والخراب خرابها، والألم ألمها، وهي ـ المُنتجة السينمائية ـ غير مُهتمّة بحاجات السينما، الآن هنا.
قبل ذلك بوقتٍ قليل، يُناقش لبنانيون قليلو العدد، بمنطق متماسك ووعي معرفي ونضج ثقافي وموقف أخلاقي واضح، استغلال المخرج اللبناني أحمد غصين خراب القُصير والزبداني السوريتين، لجعله ديكورًا لـ”جدار الصوت”، أول روائي طويل له، يستعيد فيه “حرب تموز” (2006)، التي يشنّها الجيش الإسرائيلي ضد لبنان واللبنانيين و”حزب الله”. الحدث الدرامي غير معنيّ بالفعل الجُرمي الأسديّ، تمامًا كالحدث الدرامي لـ”الحبل السرّي”، المُبتعد عن كلّ تلميح أو مباشرة أو تفسير، بخصوص انتماءات الشخصيات الظاهرة فيه، رغم أنّها (الشخصيات) سورية. فـ”جدار الصوت” مرتكز على ذاكرة لا تزال فاعلة في الوجدان والذاكرة اللبنانييّن، ومهموم باستعادة محطة دموية من الصراع الإسرائيلي اللبناني/ الحزب الإلهي، بعيدًا عن خطابية مباشرة، وعن إعلان انتماء سياسي لشخصياته إلى حزب أو جهة. المخرج نفسه، في فيلمه هذا تحديدًا، يتوغّل في أعماق ذوات فردية، وفي متاهات ذاكرتها ومصائب راهنها، في حرب إسرائيلية يعاني تداعياتها، العنفية والجُرمية، جنوبيون يُحاصَرون في منازلهم، فيتعرّضون للقتل والتهجير والخراب على أيدي الجنود الأعداء.
مناقشو استغلال أحمد غصين خراب البلدتين السوريتين، و”حزب الله” مُشاركٌ أساسيّ في تدميرهما وتهجير أبنائهما الناجين من مقتلته (كما في مدنٍ أخرى، وضد أبنائها أيضًا)، يُركّزون على الجانب الأخلاقي في استغلال صُوَر خاصة بحدثٍ محدّد، لصالح سردية أخرى. إذْ كيف يُعقَل أنْ يتحوّل خراب بلدتين سوريتين، لـ”حزب الله” دور أساسي في صُنعه، إلى ديكور بلدة جنوبية، أثناء حربٍ يخوضها الحزب نفسه ضد العدو الإسرائيلي؟ فالاستغلال بهذا المعنى يبدو، بحسب هؤلاء، كأنّه يمحِي جريمة يرتكبها حزبٌ، لتصوير جريمة أخرى “يتعرّض” لها الحزب بأقلّ ما يتعرّض لها اللبنانيون ولبنان، أساسًا. وهذا، برأيهم، يُلغي كلّ فعل أخلاقي، وكلّ جمالية سينمائية، معروفٌ، تاريخيًا، أنّها تتجاوز كلّ شيء من أجل ابتكار نتاجاتها.
لن يعثر مشاهدو “الحبل السرّي” على ما يُشير إلى “الهوية السياسية” للبلدة السورية، وإلى انتماءات ناسها المُحاصَرين في بقايا منازلهم، داخل أحياء مدمّرة، وغالبيتها مهجورة. والحصار متأتٍ من إحكام قنّاص قبضته على البلدة وناسها، لكنّه (القنّاص) غير ظاهر البتّة، ما يعني انعدام كلّ إمكانية لتبيان انتمائه. أي أنّه غائبٌ كلّيًا عن عدسة الكاميرا، التي تكتفي بتصوير عدسة منظار بندقيته، وجزء من بندقيته، لتأكيد حضوره القاتل. لا شعارات ولا أقوال ولا مسالك تشي بانتماءٍ ما إلى فصيل أو جهة أو نظام، للقناص والبلدة، ولناس البلدة أيضًا. فالقصّة تروي حكاية وليد (يزن الخليل)، الزوج المرتبك، لأنّ امرأته ندى (نانسي الخوري) تُشرف على ولادة جنينها، و”الداية” عاجزة عن بلوغ منزلهما، فالقنّاص يحول دون تنقّل آمن لهم في بلدتهم، وهو غير عابئ بأحد منهم، وغير مستمع إلى تمنّياتهم (التي يقولونها بصوتٍ عال لعلّه يستمع إليهم) بإتاحة مجال لهم كي تساعد “الدايةُ” في ولادة الجنين بسلام. لكن الجنين يولد على يديّ والده، والأم تنجو من أي مُصابٍ، ووليد فرح بهذا، إلى درجة الانتصار على القنّاص بشتمه، بل بإعلان انتصار الحياة على الموت.
مشاهدو “جدار الصوت” يُدركون، منذ اللحظات الأولى، أنّ حربًا إسرائيلية تجري فصولها في جنوب لبنان، وأنّ الدمار الذي يظهر في بلداتٍ متفرّقة، هو دمار جنوبيّ. لكن اكتشاف الاستغلال يسبق المُشاهدة، وإنْ يكن اتّخاذ موقفٍ من الاستغلال غير محتاج إلى المُشاهدة، فالمسألة أخلاقية بالنسبة إلى مناهضي الاستغلال. خراب البلدتين السوريتين، المنقول إلى “جدار الصوت”، يتسبّب بهما “حزب الله” بمشاركته في الحرب الأسديّة ضد سورية وأبنائها. المشاهدون يُدركون أنّ الجنوب محتلّ، فبعض الجنود الإسرائيليين يقتحمون البلدة، التي يأتيها مروان (كرم غصين) بمفرده لمرافقة والده إلى بيروت، فيَعْلَق في أحد منازلها رفقة صديقين عجوزين (بطرس روحانا وعادل شاهين) لوالده المختفي، وجار لهما مع زوجته (عصام بوخالد وسحر منقارة كرامي). هؤلاء يُحاصَرون في منزلٍ يحتلّه جنود إسرائيليون، غير مُدركين أنّ في الطابق السفلي لبنانيين جنوبيين، بعضهم مُقاومٌ لاحتلالهم الجنوب زمنًا مديدًا قبل عام 2006، فهذا البعض يقول، وإنْ مواربةً، إنّ مقاومته سابقة لمقاومة “حزب الله”.
لن يظهر الجنود الإسرائيليون (باستثناء ظلال لهم عبر إحدى نوافذ المنزل، وعبر عين أحدهم بعد مقتله، فالعين تقع على ثقبٍ بين الطابقين)، رغم سماع أصواتهم وهم يتحدّثون بالعبرية (ومعرفة ما يقولون غير مهمّ دراميًا وسرديًا)؛ كما أنّ القنّاص السوري لن يظهر، ولن يُسمَع صوته، ولن يتبيّن ملمحٌ له. يكتفي أحمد غصين بالتقاط أصوات المحتلّين قبل انسحابهم؛ بينما قنّاص الليث حجّو صامتٌ كلّيًا. مخرج “جدار الصوت” راغبٌ في التقاط نبض الناس وانفعالاتهم وأمزجتهم، ولحظات عيشهم ساعاتٍ مديدة في منزل يحتل إسرائيليون طابقه الأعلى؛ ومخرج “الحبل السرّي” (تأليف رامي كوسا) ينبش انفعالات أناسٍ يُحاصرهم قنّاصٌ في بلدتهم المدمّرة جرّاء الحرب (لكن، أية حرب هي هذه؟).
وأحمد غصين، إذْ يستعيد “حرب تموز” تلك، يكتب نصّه انطلاقًا من حكاية يعرفها منذ وقتٍ بعيد، تقول إنّ الحدث الأساسيّ فيها حقيقي، فيلتقي “أبطالها”، الذين يتجنّبون التوغّل في أمورٍ يريدها السينمائي اللبناني، فإذا به يستلّ من مرويّاتهم ما يُعينه على تفكيك أحوالٍ وعلاقات وارتباكات ومواجع وتحدّياتٍ، عبر 5 أشخاص يواجهون فرضية الموت كلّ لحظة، قبل خروجهم أحياء من حصارهم. والليث حجّو يجعل قصّته أعمّ، وإنْ يستند إلى سوريين في سردها، فالمناخ والتفاصيل يُمكن أن تعكس بلدانًا أخرى وأفرادًا آخرين.
النقاش حول جعل الخراب السوري ديكورًا سينمائيًا يحتدم بين رأيين، يتناقض أحدهما مع الآخر، بل يتواجهان بحدّة. فهناك من يقول إنّ السينما تتخطّى الحدود كلّها، ما يعني أن الاستعانة بخراب سوريّ “مُبرّرٌ” سينمائيًا، طالما أنّ الاستعانة غير معنيّة بموقف واضح إزاء الحرب الأسديّة. وهناك من يعتبر الاستعانة إعتداءً صارخًا على الدم السوري والجرح السوري والموت السوري، وهذا “خطّ أحمر” يُفترض بالجميع ألاّ يتخطّاه، احترامًا للضحايا. يقول أصحاب الرأي الأول إنّ عدم إعلان الفيلم ومخرجه موقفًا من الحرب الأسدية “تبريرٌ” للاستعانة، فالحاجة ملحّة، ولا بأس بصُوَر تلبّي المطلوب. لكن أصحاب الرأي الثاني غير مقتنعين بهذا، فالاستعانة إهانة، وإنْ يبتعد الفيلم ومخرجه عن اتّخاذ موقف، وعن إعلانه سينمائيًا (وهذا نقاشٌ آخر). يُغلّب أصحاب الرأي الأول السينما على ما عداها، بينما يرفض أصحاب الرأي الثاني استغلال خرابٍ وقتل وتهجير لأي سببٍ. يقول الأوّلون إنّ فيلمي “الحبل السرّي” و”جدار الصوت” يختلفان كلّيًا عن أفلام سورية يصنعها خاضعون للنظام، يستغلّون الخراب لإنجاز تلك الأفلام، التي تتّهم، مباشرة أو مواربة، فصائل وتنظيمات معارِضَة للنظام، بأنها هي صانعة الخراب أو سببه، لتبرئة النظام من أفعاله الجُرمية؛ بينما يعجز الآخرون عن فصل الذاتيّ، الذي يعاني ألمًا كبيرًا جرّاء الحرب الأسديّة، عن السينمائيّ، الذي لن يُبرّر له إطلاقًا إهانة الضحايا لأي سببٍ.
لكن التبرير السينمائي يفقد حجّته إزاء قولٍ لسوريات وسوريين، مشتغلات ومشتغلين في مجال السينما، يعكس رفضًا لتحويل المدن السورية المدمّرة، “بكلّ ما تحمله من أدلّة وبراهين وشواهد على الجرائم المرتكبة بحقّ الناس المطالِبين بالكرامة والحرية وكريم العيش”، إلى “ديكور لأفلامٍ سينمائية تُطبّع مع النظام”؛ ورفضًا لأنْ تُدفَن، مع أنقاض تلك المدن، “ذكرياتنا وقصصنا وآمالنا”. فالبيان الصادر عن 86 سوريّة وسوريًا، يُعيب على أصحاب مشاريع سينمائية، “تقتحم فرق تصويرهم تلك الأحياء والبلدات السورية بكاميرات (أعضاء الفرق)”، تجاهلهم “ذاكرة المكان، وحرمة البيوت، وقصص ساكنيها وأرواحهم وذكرياتهم”، ويأخذ عليهم التزامهم “حيادًا فادحًا وسكوتًا مطبقًا تجاه المسؤول عن كلّ هذا القتل والتهجير”.
لكن، ألا يُلغي سجالٌ كهذا كلّ نقاشٍ يتناول سينمائيّةَ الفيلمين، ومدى تمكّنهما من تلبية الشرط السينمائي في صنعهما، رغم أهمية طرح السجال سؤالاً أخلاقيًا، قبل أيّ سؤال آخر؟ ألا يُلغي سجالٌ كهذا كلّ نقاشٍ نقدي سينمائي، لن يتجاوز تغاضي “الحبل السرّي” عن اتّخاذ موقف واضح مِنَ الحرب الأسديّة، ومِنَ “المسؤول عن كلّ هذا القتل والتهجير”، طالما أنّه يستند إلى وقائع سورية، ويتعاون مع ممثلين سوريين، ويختار أنقاضًا سورية، ليقول إنّ الحروب كلّها متشابهة؟ ألا يُلغي سجالٌ كهذا كلّ نقاشٍ يتناول “جدار الصوت” سينمائيًا، من دون تجاهل القول بأنّ تصوير لقطاتٍ في بلدتين سوريتين مدمّرتين “مُعيبُ” أخلاقيًا، وحاصلٌ بإذنٍ خاص من النظام السوري، أو من “حزب الله”، المُشارِكَين في تدميرهما، وفي قتل بعض ناسهما، وتهجير بعضهم الآخر؟
السؤال الأخلاقي ضروري ومهمّ وجوهريّ. لكن النقاش السينمائي، إن يكن سويًا كما يُفترض به أنْ يكون، يجعل السؤال الأخلاقي جزءًا بارزًا في تحليله وقراءته وتفكيكه هذين الفيلمين، وأفلامًا أخرى أيضًا.