في آخر الطريق الترابي، تجد شجرة بلوط على يمين الدرجات الترابية، تنساب أشعة الشمس وقت العصر من بين أوراقها برقة. رقة تدعو إلى النعاس والنوم تحتها، أعبّر عن إخلاصي للشجرة، تهز وريقاتها، ربما كإجابة… خلف الشجرة، وعلى أرض منبسطة أقل ارتفاعاً تجد محاصيل باذنجان وخضار أخرى زُرعت بالتعاون مع سكان القرية الوديعة التي تنام بين جبلين. لا يقضُّ مضجعها سوى مستوطنة على الجبل (الغربي) تقضم أراضي القرية والقرى المجاورة كفئران الحقل، تزعج الفلاحين لكنها لا تثنيهم عن الزراعة، السنة تلو الأخرى، المحصول تلو الآخر.
كانت إحدى آخر حملاتهم للاستيلاء على أراضٍ في قرية المزرعة الغربية. يلوح الآن أمامي في الأفق المنزلان في الموقع. بُني المنزلان في مراحل مختلفة، بني العلوي في العهد العثماني، أما السفلي فبني في عهد الانتداب البريطاني، وامتلك المنزلين وقطعة الأرض عائلة زلاطيمو، وسكنوا البيتين كمنزلين صيفيين في مراحل مختلفة. أحد أفراد العائلة هو الفنان داوود زلاطيمو. من خلف شجرة البندق من جهة اليمين، يظهر جزء من المنزل العلوي، أما على يسار الطريق الترابي، وتحت الأشجار الحانية من البلوط والقيقب والخروب وغيرها (تُرى كيف تنظر الأشجار الكبيرة، للشجيرات الصغيرة؟) نجد المنزل السفلي، تجاوره نافورة ماء خلت الآن من الماء، لكن الدماغ يأبى إلا أن يسمع صوتها القادم من الماضي، و(إثر هبوب نسيم ملائم، بخفة تماوجت، الأشجار الضخمة، فوق مياه البركة).
“بين القيقب والبلوط”
يشارك في المعرض القائم في المبنيين، العلوي والسفلي، العديد من الفنانين والباحثين والطلاب، ومنهم: سامية حلبي، الراحل داوود زلاطيمو، شذى الصفدي، يارا بامية، مجموعة من طلاب الدراسات العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية، مجموعة من طلاب قسم العمارة من جامعة ويستمنستر في المملكة المتحدة، مجموعة من طلاب قسم التصميم في جامعة بيرزيت في فلسطين، صور أرشيفية من مجموعة عائلة زلاطيمو، مجموعة من أصدقاء ساقية من الكتاب والموسيقيين والبنائين والمزارعين والعمال، والمهتمين، الذين تظهر جهودهم في المعرض وخارجه في “ساقية”. فالمشاركون؛ إما قاموا بإنتاج أعمال وتصاميم مستوحاة من الطبيعة في الموقع، وإما أن مشاركتهم في المعرض تأتي من جهدهم في تحسين الموقع. فإزالة شجيرات اللوز المنبثقة من سقف المنزل القديم، والحفاظ عليه، هذه العملية اللامرئية لنقُل، بالشكل الكلاسيكي لماهية العمل الفني، هي جزء من المعرض أيضاً، لم يتعلق المعرض فقط بالأعمال والتدخلات المعروضة داخل المبنى. وهو ما يشي حقاً بتكامل الصورة، ما بين جهد العمالة اللامرئي والمعمار وبين النتيجة الكلية. وهو أمر تحاول ساقية الحفاظ عليه، والإبقاء على هذا التوازن.
فكرتُ خلال زيارتي إلى المعرض، للوهلة الأولى: لماذا لا يوجد منشور يحوي أسماء المشاركين (كفنانين) ويحددهم بالاسم؟ والآن أقول لنفسي، ربما ذلك وإن كان مقصوداً أو غير مقصود، يساهم في بلورة الجهود جميعها، كجزء من المعرض، بلا تحديد لهوية الشخص ووظيفته، أو إقصاءٍ لغير الفنانين. وهو حقاً يساهم في النظرة التقدمية التشاركية التي تصرّح بها “ساقية”. هذا التفصيل الصغير، في هذه المبادرة الصغيرة والمحلية، يعد نقيضاً صارخاً لما حدث أثناء بناء متحف لوفر أبو ظبي، بموارده، من استغلال وانتهاكات للعمال وتعريض حيواتهم للخطر، ما يتناقض مع ما روّجت له مؤسسة المتحف التي تدّعي تقديمها فناً من أرقى ما أنتجته الإنسانية. ربما لا يكفي أن نعطي فقط للعمالة جهدها المادي مقابل قدرتها على العمل، بل أن لا تحيّد نتيجة هذه القدرة عن النتيجة الكلية للمنتج، الذي هو، في هذه الحالة، افتتاح المعرض. ذكرت ساقية أسماء جميع المساهمين، من مزارعين، وفنانين، وطباخين، وكتاب، وأكاديميين، في الكتاب الخاص بساقية، وصنفتهم جميعاً كمعلمين، في محاولة لكسر التصنيفات السائدة، حول من ينتج معرفةً، ومن لا ينتج.
معرض “من، حول، وإلى الطبيعة”
هناك توازن رقيق بين المنزلين كبناء بشري والطبيعة المحيطة. تشعر أن المنزلين شفافان ونفّاذان للهواء والضوء، لا نستطيع أن نقول إن المعرض في مكان مغلق أو مفصول عن الطبيعة. الشبابيك المنفتحة على الوادي والشمس، بعض الأبواب غير المثبّتة، الترميم الرقيق والخفيف للمبنى، بحيث أنه لم يعدّل تعديلاً جذرياً على أطلال الزمن، سوى تعديل بسيط يبطئ من عملية اضمحلالها لتعود إلى الأرض، ولا يلغي هذه العملية. لم يتم تبليط الأرضيات في الأماكن التي نزعت منها البلاطات بسبب مرور الوقت، يمكننا رؤية جذوع أشجار ضخمة اقتحمت المكان، في إعلانٍ منها أنه قد حان الوقت. يمكن رؤية أعشاب ونباتات في ثنايا الأسقف، بقايا بيوت عناكب وآثار للأتربة في زوايا المنزليين. لم تتم إزالة سوى ما يسرّع عملية الاضمحلال واختفاء المنزلين بصورة سريعة، كشجرة لوز كان يمكن لولا انتزاعها أن تُسقط سقف المطبخ.
إن وجودنا في هذا الفضاء الآن، وفي هذا الوقت، هو سيرٌ مسالمٌ ومتواضع مع مسيرة الطبيعة نحو مرادها، لكننا أبطأنا مسيرها قليلاً ليتسنى لنا مشاركتها الرحلة حتى آخرها. هذا التوازن الدقيق يجعل رواد المعرض/المنزلين من غير البشر أيضاً، فنجد في المعرضين قططاً وحشرات تخالط مرتادي المعرض وتمشي بينهم دونما خوف، في احتفاء بتنوع الموقع الإيكولوجي. أتمنى أن لا يعاد تأهيل المباني بشكل جذري في المستقبل، وأن تبقي ساقية على توازنها. يحتوي المنزل السفلي على المشاريع الطلابية، من دائرة العمارة في جامعة ويستمينستر في لندن، وبإشراف يارا شريف وناصر غولزاري: الطالبة جوليا توبلي ومشروعها المعماري “شبكة ثمار العمل: إعادة تنشيط أراضي فلسطين الهامشيّة”، والطالبة هيمالي راثود ومشروعها “حدائق الإنتاج الماديّة والرقميّة”.
أما أعمال الطلاب من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وبإشراف نداء سنقرط: فتشتمل على عمل الطالب مات ليدويدج، الذي قام بعملية نسخ مسحي للمنزل العلوي بطريقة (photogrammetry)، والطالبين إيلين مكّونيل وسايروس تشين ومشروعهما: تصاميم بلاط مستوحاة من خارطة التربة ومشروع كاثرين لي “بناء المنطار”، ومشروع أرنزازو دي أرينيو بييو “المرحاض الجاف البانورامي”، ومشروع كيفين شوم “مجسات السناسل”، ومشروع راي يوبينغ هسو “الشاهد”. ومشروع ناديا عصفور من جامعة هارفارد “ورق لعب قصص النباتات الأصيلة” الذي يخاطب الموروث الشعبي والميثولوجيا وراء الأزهار والنباتات الموجودة في الطبيعة الفلسطينية، وفي موقع ساقية بالذات، ومن جامعة بيرزيت، طلاب قسم التصميم مشروع الطالبة ديمة نصار “هرم معياري”، ومشروع الطالبة فاطمة بواطنة “سرج ظريفة”، وأماني دحادحة “مقعد موسيقي”، ومشروع الطالب نور الدين الصوص “طوب وبذور طبيعية”. استقت مشاريع الطلاب أفكارها من الموقع الغني طبيعياً واحتياجاته، ونقلت بعضها الأساليب المعمارية المحلية والفكرة منها إلى الجامعات الأم، في إعادة محاكاة لهذه العناصر.
إضافة إلى مشاريع الطلبة، نجد مشاريع الفنانات: يارا بامية وتجاربها في إنتاج أحبار من أصباغ طبيعية من الطبيعة؛ شذى الصفدي ومشروعها في إظهار الصور. الجدير بالذكر أن الفنانتين يارا بامية وشذى الصفدي كانتا جزءاً من برنامج الإقامات الفنية الذي تشرف عليه ساقية، وقد شاركت فيه إضافة إلى الفنانتين دينا عمرو، وسامية حلبي. في المنزل العلوي، نجد أعمال داوود زلاطيمو، وهو فنان من رواد الفن الفلسطيني، ومن الفنانين غير المحتفى بهم على نطاق واسع، فزلاطيمو لم ينشر أو يعرض أعمالاً، ولم يبع أياً منها، أهدى بعضها فقط، فبقيت حبيسة دائرة العائلة والأصدقاء، فلوحته المعروضة في المنزل العلوي تُحَرّر لأول مرة وتعرض للجمهور. موضوع اللوحة الزيتية نجل زلاطيمو، يركب لعبة بشكل سيارة، وينظر إلى والده. تظهر حول الصبي بعض النباتات في الحديقة، التي تناقض طراوتها، صلادة البلاط والأعمدة، المشهد في منزل زلاطيمو الذي هُجّروا منه بعد النكبة في اللّد، وتم استيحاء أشكال البلاط منه في المنزل الموجود حالياً في موقع ساقية، وتستريح السيارة فوق بلاط لامع ألوانه كرقعة الشطرنج. يمكن أن يُسرّ اللمعان الواضح للأشياء والممتلكات في اللوحة بأن أصحاب البيت من طبقة معينة، بالنسبة إلى تلك الفترة.
مقاربات بصرية: الموضوع
لا يمكن أن لا تذكرنا اللوحة -بأسلوبها وعناصرها- بلوحات أنتجت في أوروبا، وبخاصة في ما بين العصر السابع عشر والتاسع عشر، وثّقت العائلات وبخاصّة الملكية والنبيلة ولاحقاً الثرية من كبار التجار وغيرهم. من هذه اللوحات، لوحة خوسيه كوستا ايبونليز “بيبيتو” لفرانسوا غويا. من الصعب عدم ملاحظة التشابه بينها. طفلان من العمر نفسه تقريباً، ينظران إلى الكاميرا، ألعابهما ظاهرة لنا، وبريئان. لكن ما حقيقة هذا التشابه البصري؟
يبدو بيبيتو سارحاً، مرتدياً بنطالاً من قماش أبيض لامع، وصدرية خضراء لامعة لها ياقة مزركشة بتصميم فلامبوينتيّ ذات حجم كبير نسبياً، خلف الطفل لعبته؛ الحصان الخشبي. تبدو اللوحة غاية في البراءة، لكنها محمّلة بمناسبة سياسية خفية. إذا نظرنا في الزّاوية اليسرى، نرى لعبة بشكل بندقية موجهة. يرتدي بيبيتو ملابسَ كملابس نابُليون، وقَصّة شعر مثله أيضاً، فاللوحة أنتجت في الحقبة النابليونية، وترمز الملابس العسكرية حينه والحصان والبندقية، إلى العسكر وانتصار إسبانيا. لا يمكن أن ننكر أن اللوحة أيضاً -على الرغم من مناسبتها الخاصة- توثيق لمستوى العائلة المرموقة التي أوكلت مهمة “تصوير” ابنها إلى غويا (أصبحت اللوحة الآن تشبه الصور الفوتوغرافية الممسرحة التي تُلتقط داخل استوديوهات التصوير) فوالده هو طبيب عائلة الملك فريدناند السابع.
الاستعراض، وإن جاء عن طريق الطفل، لا يختلف كثيراً عن استعراض النبلاء حين ينتصبون بين ممتلكاتهم، من مجوهرات وأطعمة وأسلحة، في طريقة تستعرض أيضاً توجهاً استعمارياً، أي أن الطفل وألعابه أداة أيديولوجية بشكل أو بآخر. ربما تحتفي لوحة الطفل بمناسبة وطنية، لكنها بصرياً تحمل هذه الروح. عناصر لوحة بيبيتو نفسها من الطفل الشارد، ولعبته، ولمعان البلاط والسيارة، وحديقة المنزل وأعمدته الرخامية، تسرّ بمعلومات بسيطة عن شكل حياة العائلة، لكن هذه المعلومات ليست هدفاً استعراضياً. من أين جاء هذا الاستنتاج؟ أولاً مَن رسم اللوحة هو والد الطفل، أي أن هناك حميمية ومودّة وراء السبب من رسمها، والرسم هو ما يتقنه داوود، لذا استخدم هذه الأداة ربما ليحتفظ باللوحة لابنه حين يكبر، فداوود لم يعرض أعماله يوماً وبقيت حبيسة بين دائرة صغيرة من الأصدقاء والعائلة.
لا تختلف اللوحة عن الصور الفوتوغرافية التي نلتقطها لأبنائنا والمنسية في ألبومات في أدراجنا، أو التي نضعها على مواقع التواصل الاجتماعي. اللوحة أقرب إلى “صورة” منها إلى لوحة زيتية، بالمعنى التقليدي البائد. لمعان البلاط هو لمعان حقيقي وموجود التقطته عين الفنان كعدسة كاميرا مركزة ومصوبة نحو الطفل، لكنها تلتقط، أيضاً، التفاصيل حوله، محور اللوحة هو ابنه الذي يحب، لا اللمعان، ولا البلاط، ولا الممتلكات حوله. هناك ثبات وقوة واستقرار في سيارة سليمان والطفل، وكأنه ينتمي إلى المكان منذ الأبد، وما ساعد في الإيحاء في هذا الثبات هو المنظور ثنائي البؤرة، بينما نشعر أن الطفل وأغراضه في لوحة غويا عرضة للخلخلة، وكأن الطفل وألعابه تطفو، فحيزه المحيط ليس ذا أهمية.
مقاربات بصرية: الأسلوب
في لوحة زلاطيمو المتأثر ببداياته بالمقدسي نيقولا صايغ، وبالحركة المورالية المكسيكية (بحسب سامية حلبي والراحل كمال بلاطة)، التي تصف ذاتها بأنها التقاطع بين السياسة والفن، وأنها فن الانخراط الاجتماعي والسياسي، أي إنها فن جمعي مونيومنتالي عام، موجه للجموع، لذا أغلب هذا الفن نفذ كجداريات هائلة الحجم في الفضاء العام، تُعبّر عن طموحات المكسيكيين ما بعد الثورة في عشرينيات القرن الماضي، من أشهر روّادها دييغو ريفيرا، وهو فنان مكسيكي ماركسي. نجد تأثر داوود بهذه الحركة برسمه الواقعي، وباستخدامه الألوان الدافئة والترابية؛ الأحمر، ودرجات البني، والأصفر الباهت -وهي ألوان قريبة للجميع؛ للأغنياء، وللعمال، وللفلاحين، فهي ألوان الزهور، والتربة، وحجارة البيوت، وطينة البناء، واستُخدمت للتأكيد على شعبية هذا الفن والتصاقه بالعامة- ومن طريقة رسم ملامح الطفل الجامدة إلى حد ما، والعيون الواضحة الشاخصة، ولون البشرة المائل إلى لون الأرض الذي لوَّحته الشمس.
من المثير جداً تأثر زلاطيمو بالعديد من المدارس والحركات، منها الحداثية، والخط العربي، والتجريد، والتأثر بالحركة القومية العربية، والآرت نوفو، والخداعية/الخيالية الأوروبية، ومن ثم تأثره بالتكعيبية والمورالية المكسيكية كأسلوب، على الرغم من أن موضوع لوحته خاص وغير سياسي، ولا تنطبق تحت أيديولوجيا المورالية، وهو مثير للاهتمام حقاً هذا الانفتاح على العالم في فلسطين. نجد لمسة خفيفة جداً وربما غير مقصودة في لوحته هذه من التكعيبية، فالمنظور في لوحته غير حقيقي بشكل كامل، فمنظور السيارة والصبي منحرف قليلاً عن بؤرة تلاشيه، والنسب ببعض أحجام العناصر، كآخر عمود ملاصق للجدار.
الأعمال المعروضة الأخرى في البيت العلوي هي للفنانة سامية حلبي، من رواد الفن التجريدي. سامية متطرفة تطرفاً جميلاً في تعريفها للفن الثوري. فهي ترى الفن التجريدي الفن الثوري الأول، وقد عبّرت عن ذلك في مناسبات عدة. “فهو فن مرافق للثورة وضد النظام الظالم بأشكاله”. تكتسب أعمال حلبي التجريدية في هذا المعرض ثورية مضاعفة، فهي ليست ثورية فقط من حيث الأسلوب التجريدي، لكنها ثورية بالمواد التي نفذت بها، فحلبي أنتجتها باستخدام أنواع مختلفة من الأتربة الموجودة في موقع ساقية؛ التراب الموجود في الموقع، وخلطه مباشرة بالغراء، وأحياناً قليل من ألوان الأكريليك، وأنتجت بها لوحات من الأرض الأم وعنها وإليها، بمفهومها العالمي (Universal) الواسع، والمفهوم القريب من الإنسان وطبيعته التي تميل إلى تطويع ما حوله، طبيعة يخنقها النظام النيوليبرالي وينفيها.
توجد في تاريخ الفن الفلسطيني تجارب مشابهة، منها تجربة سليمان منصور خلال “نحو التجريب والإبداع” برفقة الكبار: فيرا تماري، نبيل عناني، تيسير بركات. لكن المختلف هو علاقة اللوحة بالعالم. فعلاقة أعمال منصور المنتَجة باستخدام الطين بالعالم تنطلق من المحلّي الخاص، والشخصي، وهو بهذه الحالة الاستعمارية التي ارتأت المجموعة مقاطعة المواد الفنية الآتية منها واستبدالها بمواد أخرى تتوفر محلياً. أما أعمال حلبي، فهي تنطلق من العالمي؛ “يونيفيرسال”، وهو الطبيعة الأم بمفهومها الواسع؛ إلى الحالة الخاصة؛ أنواع التراب الموجودة في موقع عين قينيا بالتحديد. من الممكن أن نشابهها، أيضاً، بتجارب عالمية كتركيبات الياباني يوسوكي أساي الطينية داخل فضاء الغاليري.
لكن طريقة سامية انطلقت من الموقع، الطبيعة، ربما ساءلت نفسها: “كيف يمكنني أن أصنع ألواناً وفناً في الخلاء؟” كسؤال غريزي للبقاء: “من أين يمكنني الحصول على طعام في غابة؟”. لم يكن هدفها فقط إنتاج فن من طين، بل إنتاج أداة لإنتاج الفن. تطلق سامية حلبي بهذه التجربة ثورية جديدة، فسبق أن أوضحت في مقابلات عديدة لها، أن سبب اتخاذ أعمالها الطابع التجريدي هو اقتناعها أن هذا الفن هو الفن الثوري؛ أي المرافق والمحفز على الثورات تاريخياً، والثائر على كل ما هو متسلط.
الصور الأرشيفية ولوحة زلاطيمو كشواهد على تبدّل الزمن
الصورة الأرشيفية ليست حنيناً إلى الماضي أو استرجاعاً له بقدر ما هي دليلٌ على أن “شيئاً كان”. تتوزع في موقع ساقية حاملات صور معدنية، تحمل صوراً أرشيفية لملّاك الموقع: عائلة زلاطيمو التي اشترت الأرض بين العشرينيات والثلاثينيات، ومن ثم تحول تصنيف الأرض إلى أرض “ج” بحسب تصنيف سلطات الاحتلال الإسرائيلي. تقول سحر قواسمي في هذا الصدد، تمت الاستفادة من “مشاعية” أراضي “ج”، أي إنه تم قلب الهدف الأساسي الاستعماري (subversion) إلى استخدام في مصلحتنا.
اشترى الجد الأكبر الأرض بهدف أن تستطيع العائلة أن تكون قرب الطبيعة، وتظهر لنا صور العائلة، خلال استخدامهم البيتين ملجأً بعيداً عن المدينة وصخبها، وبيتاً ريفياً للسمر والاستجمام. فزرعوا الأرض، وسبحوا في البركة، وغنّوا وعزفوا في ليل الجبل الموحش. وتتوازى اليوم هذه الصورة الأرشيفية، مع استخدام الأرض الجماعي الحالي، فقد أصبحت البقعة مشاعاً بالاتفاق مع العائلة، للاستخدام العام، والاستصلاح، والتعليم، موسعةً الملكية من الملكية العائلية الضيقة إلى الجمعية المشاعية. وتتجلى هذه الصورة، في الصورتين التاليتين، فمن السهرات العائلية الخاصة، إلى الدبكات والأغاني الجماعية التي جاءت كمبادرة من أهالي القرية، كاستعادة للمكان والطبيعة في يوم الافتتاح في “ساقية”، وهذا التحول لم يكن ليحصل طبعاً لولا مشاركة العائلة نفسها في هذا التحول. سيكون من العظيم لو شهدنا توسعاً في المشاع أو “الاستشياع”، فالأرض -في حالتنا- لا يمتلكها جموع السكان، لكن ملكيتها خاصة، قلبت وظيفتها وفتحت “للكمننة” “commoning”، عن طريق وجود وسيط قام بتوفير هذه الفرصة واستئجار الأرض من ملاكها، وهو مبادرة ساقية كشركة غير ربحية. هل سنشهد ممارسات مشابهة أخرى؟
قضايا البيئة كأرضية عالمية مشتركة للتضامن
منذ العام ١٩٩٠، حصلت زيادة فظيعة في مستويات التلوث، وذوبان مطّرد في القطبين الجليديين، وانقراض المئات من الكائنات، وارتفاع معدلات الحرارة بسبب الاحتباس الحراري، وموجات حرارة قاتلة في اليابان وأوروبا، وارتفاع مستوى البحر، وآخرها حرائق غابات الأمازون، وسيبيريا، والجزائر. أشار العلماء إلى أننا مع حلول العام ٢٠١٤، قد دخلنا عصراً بيئياً جديداً يدعى الأنثروبيسين، بسبب وصول مستويات ثاني أكسيد الكربون إلى مستويات غير مسبوقة. يتوقع أكثر العلماء تفاؤلاً أنّ الحياة على الأرض خلال فترة لا تتجاوز العشرين عاماً لن تكون كما عرفناها البتة.
في ظل هذه التغييرات الملموسة على حياتنا، التي تصيب كل أصقاع المعمورة، ما هي طرق المقاومة والتغيير؟ وكيف من الممكن أن يكون هناك تضامن عالمي تقاطعي، محوره البيئة، أي أن تصب حمايتنا للبيئة والأرض، بمفهومها الواسع الأشمل، في حمايات وانتصارات لقضايا أكثر خصوصية. فالتلوث الناشئ عن إحراق غابات الأمازون على يد الرئيس البرازيلي بولسانارو، الطامع في الربح، ليس مفصولاً عن سياسة بولسانارو المتطرفة أيضاً والكارهة والمحرضة على النساء، والفئات المستضعفة، والمهددة للحريات ولحقوق الإنسان. والتلوث البيئي الموجود في قطاع غزة، الذي سيصبح غير قابل للسكن بحلول العام ٢٠٢٠، وتحوله إلى مكرهة بيئية وصحية، وتلوث مياه البحر، غير مفصول عن السياسات الاستعمارية القامعة، بل هو بسببها.
لا يأتي هذا التغيير الكبير الذي يشهده الكوكب من تصرفات فردية غير مسؤولة، وهو ما يحاول النظام النيوليبرالي تحميل مسؤوليته للأفراد، فيصيح بهم قائلاً: لا تستخدموا الأكياس البلاستيكية عند كل زيارة للسوبرماركت! بينما لا تتوقف مصانعه لحظة عن إنتاج عشرات الآلاف من الأكياس. سبب هذه الكارثة هو أنظمة سياسية واقتصادية هائلة وظالمة، لا تحترم الإنسان أو حقوقه، ولا تهدف إلا إلى الربح. من الجيد لو غيرنا منظورنا لكل قضية، فتتحول إلى قضية بيئية بامتياز، فتصبح البيئة -كونها قضية ملحّة تضر بجميع سكان الأرض وتهدد بقاءهم- أرضية عالمية مشتركة للتضامن والدفاع عن القضايا المحلية، هل سنشهد حراكات حقيقية لمقاطعة الشركات الكبرى الملوثة للعالم؟
ربما حان الوقت لتشكيل حراك جماعي، يتكون من “المستهلك السياسي”، فمجتمع الاستهلاك هو المجتمع العالمي الذي يتمتع بوجود وتأثير فعلي، فحتى أشد المجموعات الصناعية قوة لا تستطيع أن تستغني عن المستهلكين، خلافاً للعمّال، فالمستهلكون المعَولَمون في حلّ من كل ارتباط مكاني وزماني ومادي وتعاقدي مع صاحب العمل، وليس لدى رأس المال أي إستراتيجية في مواجهة سلاح عدم الشراء هذا فقط في حال تنظيمه من مجموعات من “المستهلكين المعولمين”، فحدود قدرتهم على التأثير مرتبطة بحدود قدرتهم على التنظيم. وهل من الممكن أن تنتج عنه حراكات تضغط على الحكومات القامعة والمتطرفة، فيصبح تحرير الفرد، وقضايا المرأة محلياً، مثلاً، جزءاً لا يتجزأ من حراك عالمي عام أخضر؟ فالقضية ليست قضية الأشجار وحدها، بل قضية نظام كامل. في حالتنا المحلية، هو نظام استعماري واقتصادي قام على تفتيت العلاقة بين الإنسان والمحيط، قاضياً على العلاقة العضوية؛ الاستفادة من الأرض وإفادتها، أي الطبيعة، وتفتيت جميع أشكال العلاقة والملكيات المختلفة للمحيط، وتحويله إلى سلعة بدلاً من أسلوب حياة، وهنا تكمن أهمية المبادرات المحلية من تعاونيات زراعية، وأشكال ممارسة فنية تتخذ العلاقة الفطرية بالأرض والطبيعة كنقطة انطلاق لجزء من مشروع تحرري.
دور الفن في التغيير، ومقالات “أبو إبراهيم”
يحاجج الكثيرون حول دور مؤسسات المجتمع المدني، وكونها أحد اللاعبين العالميين، وانحسار دور الدولة، والحزب، والمؤسسة “الوطنية” (national) بالمعنى الجغرافي، فيما يحاجج آخرون حول انخفاض سقف هذه المؤسسات وارتباطه بشكل وثيق بالنظام الاقتصادي العالمي، فهي تلعب ضده، لكن ضمن قوانينه، لكن هل يمكن إحداث تغيير ولو بسيط ضمن هذا الهامش؟
حصلت ساقية على منحة مشروع “الفنون البصرية: نماء واستدامة” (VAFF) المدعوم من الحكومة السويدية بتنسيق من مؤسسة عبد المحسن القطان. الأطراف الثلاثة المشاركة في مشروع ساقية هي مؤسسات أهلية غير ربحية. فساقية مسجلة كشركة غير ربحية. فكيف يمكن تجاوز الأدوار المحددة وسقف التغيير الذي يحاول فرضه النظام العالمي على دور المنظمة غير الأهلية؟ وهل من الممكن القيام بذلك؟ يأتي تغيير وقلب دورها، عن طريق تبني فكر وفن واعٍ بالأدوار الكلاسيكية المنوطة بالمؤسسة اليوم، واستغلال ذلك عن طريق البناء لِلَبنات أساسية، شرط أن تضع هذه اللبنات مسألة استقلالها عن التمويل في أهدافها طويلة المدى على أبعد تقدير.
ليس الهدف من هذا البناء من الداخل الإصلاح، بل الهدف منه إحداث تغيير مرحلي باستخدام الأدوات الموجودة، كمحاولة لتغيير الفكر السائد، وطرح شكل بديل وجديد أيضاً من خلال التركيز على التعليم والطلبة، فساقية تعرّف نفسها على أنها أكاديمية تقدمية بديلة تحاول إعادة صياغة أشكال الإنتاج المعرفي، لذا تستفيد المبادرات التقدمية حديثة النشأة كساقية أكثر من التي أُنشئت منذ فترة طويلة، كونها لم تتبع، بعد، ولم ترتبط ارتباطاً مؤسساتياً وثيقاً بطرق الإنتاج المعرفي والثقافي السائدة، وفي حالة ساقية، تهدف إلى إعادة إحياء فكر المشاع الفلسطيني، المفقود منذ الفترة العثمانية و”التنظيمات” التي طرحتها الدولة. كما تحاول ساقية خلق تعليم وثيق الصلة بالحاجة المحلية، وبشكل أساسي الزراعة، وطرح أصوات جديدة إضافية مسموعة ومؤثرة، ضمن جوقة الأصوات المتشابهة، فأهمية وجود أكاديمية كساقية تأتي، أيضاً، من موقعها المكاني، كما يقول نداء سنقرط في أحد اللقاءات التي أجراها معه جاري جاهي جان، في مكان غير مركزي بل هامشي، بالنسبة لمركزية رام الله كمكان ينتج فيه فن “رفيع”، ومركز لتأثير السياسات الاقتصادية النيوليبرالية. ويشير فريق ساقية إلى أهمية الأرض في التاريخ الفلسطيني، كمكان للثورة والحياة، ومشاعيتها قديماً وتداورها بين أهالي القرى لإنتاج المحاصيل. كما يؤكد القائمون على المشروع أن ساقية تحاول أن تكون أكاديمية تعليمية بديلة، لتملأ الفجوة بين التعليم الرسمي، كسلعة بيد السوق، وبين المعرفة المحلية، والحاجة المحلية والعالمية للتعلم من الطبيعة، والتقرب منها، والعمل فيها إيماناً أيضاً بشمولية الطبيعة كمكان للإنتاج الغذائي، والتعلم، والملاحظة، والمتعة.
يذكر الكتاب الخاص بساقية، قصة فلاح يُدعى أبو إبراهيم، كان يكتب مقالات في إحدى الجرائد الخاصة بالفلاحين، داعياً إياهم إلى التحول إلى الملكية الفردية والخاصة، والتحول إلى استخدام التراكتور، ليتبين لاحقا أن أبو إبراهيم هذا هو صهيوني روسي يكتب باسم مستعار. هناك قدرة غير مستغَلة لدى الفن الواعي، على خلق مساحات هامشية جديدة، من الممكن أن تكون مثالاً بيئياً واقتصادياً رائداً محلياً وعالمياً، هذا الدور لن يتأتى دون فهم الواقع العالمي، والمحلي، والتراوح بينهما. أحب أن أنهي بهذه الكلمات:
“فسيلة صغيرة
تنبثق متجهة نحو السماء
غافلة عن الفأس”.