ليس من الكليشيّة القول إن المكتبة البيتية جزء من شخصية صاحبها، من ذاته، من تكوينه، من ذكرياته، بل -للدقة- هي جزٌ لا يكشف عنه غيُرها. ما إن يدخل أحدنا إلى بيت آخر، ويجد مكتبة، إلا ويبدأ بتفحّصها، كمن يتكشّف على ذلك الجزء، أو يكتشف أن هنالك، في الآخَر، ذلك الجزء وهو الآن معروض -لايڤ- أمامه. دونها، لا أقول إنّ ذلك الجزء مخفيّ، بل أقول: منفي، غائب، غريب…
لذلك أدركتُ نفيَ ذلك الجزء منّي، من تكويني، حين وصلتُ إلى فرنسا، أو انتبهتُ إلى نفيي عنه، إلى اغترابي بعيداً، ولمُ يُمحَ أو يتضاءل ذلك الإدراك بعد، وإن تكوّنت مكتبةٌ جديدة، بُنيَت على كتاب واحد أتيت به.
دون ذلك الجزء منّي، دون كتبي التي تتوزّع اليوم بين ثلاث مدن عشت فيها، وددتُ مراراً أن أقول للزائرين، وأنا أتفرّج عليهم كمن يشاهد فيلماً للمرة العاشرة مبتسماً مترقّباً المشهد التالي، يتفحّصون مكتبتي، اليوم: انتبهوا! لستُ هذه الكتب وحسب، هنالك أجزاء منّي لم تلتحق بي بعد. لا أقولها لأنّ المكتبة التي صارت في بيتي، اليوم، تحتاج تبريراً بأنّ هنالك ما سيلتحق بها، فلها حيّزها المالئ والممتلئ، بل للاستدراك. أكتب هذا الآن وأتذكّر، قلِقاً، ما وعدتُ به صديقتي، وهو بأن أتخلّص من كتابٍ مقابل كل كتاب أودعه في المكتبة، بعدما وجدنا أنّ كراتين الكتب قد فاقت، بحجمها ووزنها، كل ما عداها حين انتقلنا من بيت إلى آخر، قبل عام.
قبل الانتقال، زرنا البيت لنراه. هو بيت باريسي نموذجي، وذلك يعني شيئاً واحداً: صغير وسيضيّق على المكتبة. زرناه وقلت لها، فور دخولنا، كطفلٍ يسابق صديقته على الكرسيّ الوحيد: هنا ستكون المكتبة. هذه مساحتي وبعدها وعلى أساسها سنحدّد أين نضع ماذا. لم تمانع (أخذتني على قدّ عقلي)، لكنّها احتفظت بكتبها خارج المكتبة، كأنّها لا تريد أن يخلط زوّارنا بين ذلك الجزء من كينونتها، وبينه من كينونتي، كأنّها، باحتفاظها بكتبها خارج مكتبتي، على رفوف منفصلة، رسمت حدوداً ترسّمُ بها مساحتها (الپيرسونال سبايس) التي تشكّلها تلك الكتب.
نصبتُ المكتبة في مكان بيّن لكلّ زائرينا، وملأتها فاصلاً بين الأدب وغيره، مرتّباً، إياها، كما يفعل العقلاء: حسب اللغة والبلد، العربية والترجمات، النّوع والموضوع… لكن بشكل أفقي إذ تكون الكتب فوق بعضها، كي أضطر للمرور (وللإمساك) بغير الكتاب الذي أبحث عنه. بقيت لأشهر كذلك دون أن أعرف لمَ لمْ أرتح كثيراً بما فعلته، إلى أن قررتُ مؤخراً أن أنفضها عن المكتبة بعد نفض الغبار عنها وأعيد ترتيبها. خلطت بين الكتب كلّها، باعدت بين كتب المؤلف ذاته، جاورت بين اللغات… سألتْني صديقتي لمَ فعلت ذلك فقلت “كي أستغرق وقتاً أكثر كلّما بحثت عن كتاب”.
هذا هو حال المكتبة اليوم، وهو حال ذكّرني بتساؤل لڤالتر بنيامين في مقالة له: “وما كل هذه الكتب سوى فوضى تلاءمت مع نفسها حتى صارت تبدو كأنها منظمة؟”
أنا الآن مرتاح نفسياً، لتلاؤم الكتب أكثر، بفوضاها، مع بعضها أولاً، ولعدم قدرة شريكتي على تفحّص إن فعلاً تخلصتُ من كتاب كلّما اقتنيتُ واحداً، ثانياً. مكتبتي صارت -أخيراً- لوحة لجاكسون بولوك
المكتبة هي هنا جزء من المساحة الخاصة الحميمية، من الذهن، من المعرفة، من الثقافة، من الجماليات، من الرّوح، من الخيارات الواعية أدبياً وسياسياً وفكرياً، ذلك الجزء الذي لا يكشف عنه غيرها، ولأنّها كذلك، هنالك دائما نقصٌ في المكتبة البيتية، من قال إن هنالك حدودَ إشباعٍ للمعرفة والثقافة والجماليات! من قال إن الذّهن تسع السماءُ خيالاته! من قال إن المساحة الشخصية الحميمية لأحدنا قد لا تكون الكوكب!
لا بد أن تكون حجتي في ذلك مستخلَصة من المكتبة ذاتها، أبحث عن كتاب ألبرتو مانغويل، أجده بعد بحث بين رواية وكتاب عن السينما أو علم الاجتماع أو النقد الأدبي، أُخرجه وأشير مجدداً إلى العبارة العبقريّة: “في المحصلة، دائماً يتجاوز عدد الكتب المساحة المخصصة لها”. ودائماً يطمح ذلك الجزء من كينونتنا إلى النموّ والتمدّد، بكتب تتراكم وأرفف تضيق.
آمالنا، إذن، ورغباتنا وآفاقنا دائماً ما تتجاوز واقعنا وروتيننا وحدودنا.
لهذه الآمال والرغبات والآفاق، لهذا الجزء الجوّاني في كلّ منّا، فتحنا هذا الملف في “رمّان” عن ركن في بيوتنا، هو الأعز.
أيّ الأمكنة تزيد حميميةً عن المكتبة في بيتك!
من عبارة ڤالتر بنيامين أعلاه، ومن رغبة كلّ منّا بمكتبة تشبه لوحات الأمريكي جاكسون بولوك، ستُرفق المجلّةُ جميعَ مقالات هذا الملف بلوحات له.