ببساطة شديدة في الاشتغال البصري، يُقدِّم الثنائي ماريون بيني وغوتييه سيمون فيلماً وثائقياً قصيراً (35 دقيقة)، بعنوانٍ يُستحسن عدم ترجمته إلى العربية، لأنّ ترجمةً كهذه لن تفيه حقّه ونبرته ولهجة النُطق به: !Welome To Balestine, Yamma. بساطة في جوانبه الفنية والتقنية، وفي سرده حكاية زيارة تقوم بها عازفة الكمان الفرنسية أماندين بِيي إلى فلسطين المحتلّة، رغبة منها في التعاون مع “أمواج”، فرقة كورال للأطفال الفلسطينيين، على تدريبهم على العزف، وفي مشاركتهم في إحياء حفلات موسيقية.
وفرة التعليقات، المكتوبة في البداية تحديداً، والمتضمّنة معلومات مختلفة، تساهم في إيضاحات يحتاج إليها مشاهدو الفيلم، وعنوانه مرتبط بنبرة فلسطينية يُراد لأحد الشباب أنْ ينطق الجملة بها. على مدخل بيت لحم، أول مدينة فلسطينية تدخلها كاميرا الثنائي بيني وسيمون، هناك تحذير باللغتين العربية والعبرية: “هذه الطريق تؤدّي إلى المنطقة (أ) التابعة للسلطة الفلسطينية. دخول المواطنين الإسرائيليين ممنوع وخطر على حياتهم، ويُشكّل مخالفة جنائية بحقّهم” (في النص العربي الأصلي بعض الأخطاء اللغوية). في الخليل، تنهش المستوطنات الإسرائيلية المدينة القديمة، فتتداخل الأزقّة بالأسلاك الشائكة، وترتفع أعلام المحتلّ على أبنية تطلّ على منازل الفلسطينيين، وتُدمَّر محلات تجارية، يُقفلها أصحابها لعجزهم عن الاستمرار في إحيائها. التعليق بالإنكليزية على جدارٍ أفضل تعبيرٍ عن الواقع: Ghost Town. نقطة تفتيش تشقّ المدينة إلى اثنتين، ورغم هذا، تشهد الخليل “ولادة” كورال الأطفال “أمواج”.
نقاط التفتيش الإسرائيلية كثيرة، ككثرة المستوطنات. في بيت لحم والقدس، كما في غيرهما من المدن الفلسطينية، التي تعيش تحدّيات يومية، يُظهر الثنائي بيني وسيمون بعضها، وإنْ بشكل عابر. التنقّل بين المناطق يزداد صعوبة، والعمل دؤوب على تسهيله من مشرفين على مشروع أماندين بيي، لأن بعض أعضاء “أمواج” يُمنع عنهم ذلك. الكاميرا ترافق الجميع. تلتقط أشياء من تدريباتهم ونكاتهم وعزفهم وتنقّلاتهم وضحكاتهم. تُصوّر مشروعاً سكنياً إسرائيلياً يقضي على أشجار الزيتون، ويُلغي جبلاً بـ”زرع” الباطون فيه. تريد شابتان فلسطينيتان تفسير الأمر أمام الكاميرا. تقولان وقائع بلغة مبسّطة وهادئة، يتخلّلها ضحكٌ يمتلئ سخطاً وقلقاً مبطّنين.
يكاد الفيلم يغوص في أحوال البلد وتمزّقاته ويوميات ناسه، أكثر من اهتمامه بالموسيقى وبمشروع أماندين بيي. أحوال البلد تظهر عبر وجوه شابّة، تجتهد في اكتساب معرفة الموسيقى، رغم عدم وجود معاهد متخصّصة في فلسطين المحتلّة (كما تقول شابّة متحمّسة للموسيقى)، ما يدفع الراغبين فيها إلى السفر إلى أوروبا، للعلم والتمرين. غوصٌ يبدو أكبر من توثيق رحلة العازفة الفرنسية ومشروعها، الذي يُروى عنه في “جينيريك” البداية ما يلي: “في إطار تأسيس فرقة فيلهارمونية في فلسطين، تزور أماندين بيي بيت لحم، لـ10 أيام تُقدّم فيها “ماستر كلاس” وحفلات موسيقية موجّهة لموسيقيين فلسطينيين شباب يسعون إلى الحِرفية”. لقطات عديدة تُظهر العازفة الفرنسية في مهمّتها هذه، بشكلٍ تسجيلي يُسقط عن الفيلم الجمالية المطلوبة للوثائقي.
لكن فلسطين “مكانٌ حيث الفضاء محتلّ، والوقت أيضاً”، كما “الخيالي والحلم، وأحياناً الأمل”. يقول تعليقٌ لاحق لهذا، في “جينيريك” البداية نفسه، إنّ فلسطين “هي أرض التلال وأشجار الزيتون على مدى النظر”. كلامٌ كهذا يُناقضه ما ترويه الشابتان الفلسطينيتان، وهما تكشفان أمام الكاميرا واقعاً مؤلماً: غياب التلال وأشجار الزيتون لحساب المستوطنات. “إلى متى سيستمرّ هذا؟”، تُسأل الشابتان. “لا نحن ولا أنتِ نعرف هذا”، تقول إحداهما.
والفيلم ـ المُشارك في الدورة السادسة (1 ـ 10 مارس/ آذار 2020) لـ”سينما فلسطين ـ تولوز” ـ يستثمر في وقائع العيش الفلسطيني كي يصنع صورة متواضعة عن بلدٍ يُتقن المواجهة والحياة، وينتصر للحقّ، ويُدافع عن تاريخ وحاضر، وإنْ يصعب عليه فرض مستقبلٍ يعنيه ويكون له. ففلسطين لن تكون فقط “اسم نزاع لا نهائيّ”، بل أيضاً “اسم مجتمع متعدّد وحيوي”، كما يُبيِّنه التنوّع “الاستثنائي”، في السينما والموسيقى، الذي تعكسه دورة هذا العام “كعادتها” (التقديم الرسمي للدورة الجديدة). لذا، يشهد الفيلم، ببساطته وتواضعه وسلاسته، على أنّ فلسطين منبع إبداع في الفن والثقافة، وعلى أن شباب فلسطين يُثابرون على ترجمة رغباتٍ لهم في الفن والثقافة، رغم خراب يحاصرهم، وقهراً يُراد أنْ يكون نمط حياة لهم.
الموسيقى والغناء متداخلان معاً في سياق السرد. عزفٌ يعتمد على مقطوعات كلاسيكية، وغناء في الكواليس يتّخذ من فيروز وملحم بركات ما يجعل الشابات والشبان في مزاج لطيفٍ ومريح. تجوّل الكاميرا في أزقة فلسطينية أشبه بمحاولة فهم وقائع مرتبطة بصدام دائم بين مُحتلّ وأناس هم أبناء البلد المحتلّ. يبتعد الفيلم عن السياسي المباشر، لكنّه يُلمّح إليه بخفر ومواربة. ينفضّ عن تصوير المحتلّين، رغم ظهور أدواتهم، فهمّه منصبٌ على البلد وأبناء البلد، وهذا كافٍ لإظهار وجع، يُعطّله جهد شابات وشبان يريدون الموسيقى لغة عيش وحوار وتواصل وبوح وسلوك. لقطات قليلة تُظهر طبيعةً يُراد لها الاضمحلال، وشابات وشبان يُسرفون في الموسيقى تعويضاً عن هزيمة يواجهونها بها (الموسيقى).
لن تحول التقنيات العادية في صُنع !Welcome To Balestine, Yamma دون التنبّه إلى لقطات تشي بتحديد ما يُصيب مدناً فلسطينية من تمزيق إسرائيلي لها. موت قلب مدينة فلسطينية يواجَه بنبض حياة تنسلّ من أوتار وحناجر ورغبات شبابية، تبدو كأنّها تؤكّد حريتها في اختيار ما ترغب في اختياره. كأنّ الموسيقى صدى جيلٍ شبابيّ يعتمدها أداة نجاة من شقاء اليوميّ.