يُكرّم في الدورة السادسة في مهرجان سينيبالستين في تولوز

محمد بكري… التزام سياسي لا يحول دون تفنّن الأداء

نديم جرجوره

ناقد سينمائي من لبنان

هذا لن يكون تفصيلاً عابراً. التكوين السياسي يبدأ في ذات المرء انطلاقاً من لحظات كهذه. محمد بكري، أول فلسطيني يدرس المسرح في جامعة إسرائيلية. هذا أيضاً لن يكون تفصيلاً عابراً. البدايات تتأسّس في وقتٍ باكر. أفلامٌ له تعكس شغفه في قراءة الحالة الفلسطينية بعيون سينمائيين فلسطينيين وأجانب. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

08/03/2020

تصوير: اسماء الغول

نديم جرجوره

ناقد سينمائي من لبنان

نديم جرجوره

ليس مفاجئاً ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي مع الممثل والمخرج الفلسطيني محمد بكري. هذا دأبه. يريد إسكات كلّ من يتجرّأ على فضح شيء بسيطٍ من إجرامه. يضيّق سبل العيش على أبناء البلد، ويجهد في إفراغه منهم، من دون أي تردّد إزاء تجاوز قوانين دولية وأعراف إنسانية وأخلاقية، فالقوانين والأعراف المعمول بها يضعها المحتلّ الإسرائيلي وفقاً لثقافته العنصرية والقمعية والتسلّطية والتزويرية. الفلسطينيون جميعهم يُعانون وحشية المحتلّ الإسرائيلي، وتزويره حقائق ووقائع. من يحمل الجنسية الإسرائيلية بينهم غير محيّدين أبداً عن هذين التزوير والوحشية.

المسألة بسيطة: “خطيئة” محمد بكري كامنةٌ في تصويره بعض جوانب الفعل الجُرمي الإسرائيلي، في “جنين.. جنين” (2002). الجيش الإسرائيلي يقتحم مخيم جنين، في عملية “السور الواقي”. كاميرا بكري تدخل المخيم بعد انتهاء العملية. لقاءات مع فلسطينيين يعيشون وحشية الجنود الإسرائيليين، ويوثّقون مع الكاميرا شهادات حيّة عن ارتكابات تتجاوز كلّ وصفٍ ممكن. الرقابة الإسرائيلية تمنع عرض الفيلم، لأنّه “أحادي النظرة”، كما تقول. التماس أمام المحكمة العليا الإسرائيلية، التي تُجيز عرضه بعد عامين من المداولات: “لا أحد يحتكر الحقيقة”، بحسب قرارها.

5 جنود يُشاهدون الفيلم، فيتقدّمون بدعوى قضائية ضد محمد بكري. يُطالبون بنحو 800 ألف دولار أميركي، تعويضاً عن “أذيّة” يُلحقها المخرج وفيلمه بهم. يقولون إنّ المخرج في فيلمه “يُسيء” إلى مشاعرهم، وهم يعتبرون أنّ أفعالهم “نظيفة” و”إنسانية” في مخيم جنين، وفي فلسطين المحتلّة كلّها. نزاع طويل، وصدامات كثيرة، ومحمد بكري مستمرٌّ في مواجهة كيانٍ يفتعل وقائع ويُقدّمها إلى العالم بصفتها حقائق، ويرفض أي نصّ يوثِّق جُرمه، الذي يعيشه كثيرون، ويُشاهده كثيرون.

لكن سيرة محمد بكري غير معقودة على هذا الفصل، المهمّ للغاية في سيرته تلك، الحياتية والمهنية. ممثل مولود في “البعنة” (الجليل) عام 1953، يدرس المسرح في جامعة تل أبيب، ويخوض تجارب فيه كما في السينما، تجعله أحد أبرز الممثلين الفلسطينيين. “هانا ك.” (1983) للفرنسي اليوناني كوستا ـ غافراس خطوة تأسيسية. يغوص الفيلم في تعقيدات الحالة الفلسطينية في ظلّ الاحتلال. يميل إلى مشاعر في سرده العلاقة الصدامية بين المحتلّ وابن البلد. يُقدّم بكري دوراً يعكس التزاماً أخلاقياً وحِرفيةَ، تتوطّد لاحقاً في أدوارٍ كثيرة، بعضها مسرحيّ. لكنّ المشكلة أنّ المسرحيّ غير منتشر كالسينمائيّ، رغم أنّ فصلاً من “المتشائل” يُقدّمه بكري في لقاء سينمائي في الدوحة، عام 2001، يمنح المهتمَّ إضافةً أدائية تمثيلية، تؤكّد حيوية الحركة والنطق والبوح والتماهي بالذات والروح الخاصّتين بالشخصية الفنية.

في الدوحة، ينتقي محمد بكري ما يتيسّر له من أدوات بسيطة للغاية، ويصعد إلى خشبة مسرح كبيرٍ وغير لائق بالتقشّف السينوغرافيّ للنصّ المسرحيّ الأصلي. مع هذا، يُبدع الممثل في إعادة صوغ الحكاية الفلسطينية، المستقاة من كتابة إميل حبيبي، والمفتوحة على همّ وقلق وأرق واجتهاد وعيشٍ. بهذا، يُلغي بكري فراغ الخشبة واتّساعها، لتمكّنه الأدائي من جذب كلّ اهتمامٍ إلى صنيعه كفردٍ، يحوِّل المونولوغ إلى مشهدية بصرية مثيرة للتنبّه والمتابعة والتساؤل والتأمّل.

رغم هذا، يؤدّي محمد بكري أدواراً سينمائية عادية أحياناً، وهذا جزء من مهنة يستحيل أنْ تبقى ذات سوية عالية دائماً. يُشارك في أفلامٍ أجنبية، ويمثّل في أفلامٍ فلسطينية. يختار ما يعتبره ملائماً لهمّ أو اشتغال، ساعياً إلى جعل الشخصية المكتوبة إنساناً متجاوباً مع انفعالاته وتوتّراته وأهوائه وأمزجته وقلاقله ورغباته. وإنْ تبتعد شخصياتٌ سينمائية، يؤدّيها بإدارة مخرجين مختلفين، عن همّ فلسطيني محلّي، إلاّ أنّه يُتقن أداءً محترفاً يُلغي المسافات كي يؤكّد أنّ التمثيل مهنة، وإنْ تسقط في أفخاخٍ مختلفة، تبقى نمط عيشٍ وأسلوب تعبير وحِرفية عمل.

له مع ميشال خليفي تجربتا “حكاية الجواهر الثلاث” (1994) و”زنديق” (2009)، ومع علي نصّار “درب التبانات” (1999). تجربته الأولى مع رشيد مشهراوي في “حيفا” (1996)، دافعٌ إلى اختبارٍ ثانٍ معه في “عيد ميلاد ليلى” (2008). مع عاموس غيتاي، هناك “استِرْ” (1986)، وهذا يؤدّي إلى اختبارات أخرى مع عيران ريكليس وأوري بارباش مثلاً. سينمائيون غربيّون يتعاونون معه: الإيطالي سافيريو كوستانزا في Private عام 2004، والأخوان الإيطاليان باولو وفيتّوريو تافياني في “مزرعة القبّرات” (2007)، والفرنسي إيريك روشّان يتعاون معه في حلقات الموسم الثالث من المسلسل التلفزيوني “مكتب الأساطير” (2017).

هذه نماذج. بعضها معقودٌ على حكايات فلسطينية، تكشف جوانب من وقائع العيش في بلدٍ محتلّ. الفلسطينيون يرون فيه وجهاً ملائماً لاختزال بعض تلك الحكايات. آن ـ ماري جاسر تجمعه بابنه صالح في “واجب” (2017)، فيخوض محمد بكري مغامرة تكاد تُلغي كلّ حدّ فاصل بين الحقيقة والمتخيّل. الفيلم مبنيّ على لقاء أبٍ بابنه المهاجر إلى إيطاليا منذ أعوامٍ عديدة. عودة الابن إلى الناصرة منبثقة من التحضيرات العائلية لزواج شقيقته. تسليم الدعوات معقود على الأب الذي يُرافقه ابنه في شوارع المدينة وفضائها وحالاتها. لعبة التمثيل بينهما جزءٌ من سجالٍ داخل الفيلم حول البلد ومفهوم الوطن والهوية والغربة والماضي والتاريخ والراهن.

“زنديق” خليفي يعود ببطله إلى الناصرة أيضاً. بينما ليلى المحتفلة بعيد ميلادها تأخذه إلى رام الله، في رحلة يقوم بها في سيارة الأجرة الخاصّة به. التجوال في أزقة مدن فلسطينية وشوارعها أساسيّ في التقاط نبض حالة وأناسٍ، وفي تمرينٍ إضافيّ لممثل يُكثِّف حضوره أمام الكاميرا، كي يصنع من حركة أو نبرة صوت أو ملمح وجه أو نظرة عين مرايا مفتوحة على وقائع وانفعالات. لن تكون أفلامه كلّها متساوية الأهمية. مع هذا، فإنذ محمد بكري متمكّن من إزالة بعض الفرق لامتلاكه حيوية أداء يُطلقها في”هانا ك.”، ويعكسها في تنويعاتٍ عدّة، ويصقلها في وقوفٍ على خشبة مسرح، كي يروي مقتطفات من سيرة “المتشائل”.

في حوار منشور في الصحيفة اليومية الفرنسية “لو موند” (5 أبريل/ نيسان 2005)، يقول محمد بكري إنّ الحالة “هنا” (فلسطين) تُجبره على التزام سياسي في خياراته المهنيّة. الممثل شاهدٌ على فصلٍ حياتيّ يعيش تفاصيله شاباً في عشرينياته. يحدث هذا عام 1976، مع تعرّض فلسطينيين من “أراضي الـ48″ إلى قمعٍ إسرائيلي أثناء أول تظاهرة تحتفل بـ”يوم الأرض”. احتفال سيُصبح سنوياً ضد السياسة الإسرائيلية المتعلّقة بمصادرة الأراضي الفلسطينية. تظاهرة تنتهي بـ16 شهيداً.

هذا لن يكون تفصيلاً عابراً. التكوين السياسي يبدأ في ذات المرء انطلاقاً من لحظات كهذه. محمد بكري، أول فلسطيني يدرس المسرح في جامعة إسرائيلية. هذا أيضاً لن يكون تفصيلاً عابراً. البدايات تتأسّس في وقتٍ باكر. أفلامٌ له تعكس شغفه في قراءة الحالة الفلسطينية بعيون سينمائيين فلسطينيين وأجانب. 

أتكون هذه لعنة، أو قدرٌ مفتوح على معنى فلسطين في الاشتغال الفني؟ أداءٌ يقول إنّ التزاماً سياسياً لن يحول دون تمثيل يحوّل الشخصية إلى كيان حيّ. أدوار مختلفة تجعله يتفنّن في ابتكار أشكالٍ مختلفة لشخصيات، ربما تتقارب في همومٍ وحالات ومخاوف وتطلّعات، لكنّ محمد بكري يُفرِّق بينها بتمثيلٍ ينبثق من المسرحيّ من دون أنْ يسمح للمسرحيّ بالتغلّب على معنى الوقوف أمام الكاميرا.

الكاتب: نديم جرجوره

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع