بعد أسابيع على بداية تفشّي فيروس “كورونا” في العالم، وإجراءات الاحتواء والتعبئة العامة والعزل المنزلي في لبنان، كما في بلدان كثيرة أخرى، تُطلّ فيروز في شريط فيديو “تسرد” فيه آياتٍ مختارة من “سفر المزامير”، كصلاةٍ لخلاصٍ بشري مطلوب. ثوانٍ عدّة تكفي للتعبير عن سخطٍ فيسبوكيّ إزاء رداءة شريط الفيديو، الموصوف بـ”فيلم رعب” في أحد التعليقات، التي يُطالب كاتبو بعضها بضرورة إنقاذ فيروز من طغيان ابنتها ريما عليها، إذْ يرى هؤلاء أن ريما سببٌ أساسيّ في إظهار فيروز بمظاهر قبيحة وصادمة، لشدّة بهتان المظاهر تلك، وسطحيتها وتفاهة أشكالها.
***
شريط الفيديو بحدّ ذاته غير مستوف حدّاً أدنى من الشرط الفني البصري الجمالي، المطلوب في أعمالٍ كهذه. ألوان مائلة إلى الأصفر الغامق، توحي باكتئاب غير متناسق مع مواجهة فيروس يفتك بالناس، خصوصاً أنّ أبرز أداة للتخفيف من تفشّيه تتمثّل بالعزل المنزلي، والحرص في التعامل مع الآخرين عند الضرورة، ما يعني عزلة ووحدة وتقوقع، يحتاج الملتزمون بها إلى متنفّسٍ مختلف عن ذاك المُقدَّم في شريط الفيديو هذا. ففيروز تكاد تغيب في الشريط، ويكاد صوتها يُلغي بقايا حضورها في الصورة، لكونه مُثقلاً بحطام النبرة والارتباك وضعف النطق. أما الجُمل المختارة فمروية على لسان مغنّية مُقدَّسة إلى حدّ السذاجة، في عمرٍ يُصبح الاختفاء الكلّي عن المشهد العام (الاعتزال) حاجة ملحّة لحماية تاريخ وذاكرة ونتاجٍ.
شريط الفيديو هذا غير ممتلكٍ جمالية صورة وتسجيل وتصوير. ميل الألوان المختارة إلى الأصفر إيحاء إلى امتلاء الفضاء، المُصوَّر فيه الشريط، بمرضٍ أو عزلة، وإنْ يكن المقصود منه انسجاماً مع الحالة العامّة لتفشّي فيروس “كورونا” (هذا تبريرٌ غير متوافِق ربما مع “هدف” الشريط وصانعته، إنْ يكن للشريط وصانعته “هدفٌ” واضح). صحيحٌ أنّ مدّة الشريط قليلة للغاية، لكنّ كلّ شيء جامدٌ فيه، بشكل عاجز عن إقناع المتلقّي بأنّه إشارة إلى جمود الحياة في مرحلة العزلة المنزلية، أو “الحجر الصحي” كتعبير رسميّ عن الحالة الراهنة. اختيار آياتٍ من “سِفْر المزامير”، وإنْ يهدف إلى إنشاد نوع من صلاة تمزج بعض روائع العهد القديم براهنٍ عالمي موبوء، ضعيفٌ لانعدام نسقٍ دراميّ جمالي تأمّلي فيه، يُفترض به (النسق) أنْ يجمع الآيات في نصّ بصري متين الصُنعة. غير أنّ مُنجزة الشريط، ريما الرحباني، تستعين بالتصوير من دون أدنى تبيانٍ إنْ يكن التصوير سينمائياً أو تلفزيونياً، أو مجرّد شريط فيديو يُصنع “كيفما يكن”.
صوت فيروز بحدّ ذاته مُثير لنفورٍ، يشعر به منعزلون قسراً في منازلهم، في زمن الموت المتجوّل في الأمكنة والفضاءات كلّها. غالب الظنّ أنّ شعوراً كهذا سينتاب كثيرين عند الاستماع إلى صوتها في أزمنةٍ أخرى، مع أنّ أزمة أخرى لن تُنتح شريط فيديو مثله (ربما تُنتج شريط فيديو أسوأ منه). جلوس فيروز إلى أقصى يمين الـ”كادر”، الثابت والجامد والفارغ، في زاوية معتمة، حاملة كتاب الصلوات، مسألة تفقد كلّ هاجس فني، على منجزة الشريط التنبّه إليه، والاستعانة به، وإلاّ فلا شيء يستدعي إنجاز شريطٍ كهذا، يجب أنْ يليق بفيروز.، إنْ يُنجَز.
الآيات المستلّة من “سِفْر المزامير” تحمل، كالسِفْر كلّه (وكـ”نشيد الأناشيد” أيضاً)، جمالياتٍ مصنوعة بقلق إنسانيّ يتوق إلى خلاص ربّاني، أو يروي حكاياتٍ أعمق من أنْ تُختزل بكلمة. لكنّ آيات “سِفْر المزامير” في شريط الفيديو الفيروزيّ الرحباني تفقد جمالياتها لأسبابٍ فنية أولاً، إذْ تنعدم في الشريط كلُّ خصوصية بصرية تنفتح على إمكانيات الصورة المتحرّكة في ابتكار الأجمل والأعمق، ولأسبابٍ شخصية ثانياً، تتعلّق بصوت فيروز وحضورها المعطّل (دائماً) أمام الكاميرا.
***
المفارقة المنبثقة من بثّ شريط الفيديو كامنةٌ في أنّ السخرية، التي يعتادها فيسبوكيون كثيرون في مقارباتهم أحوالاً وانفعالاتٍ وتفاصيل يومية (من دون التغاضي عن أنّ لهؤلاء الكثيرين مواقف سجالية جادّة في قضايا تمسّ عيشهم ومكانتهم في الاجتماع والحياة والبلد)، حاضرة لوقتٍ عابر، فالمرحلة، اللبنانية تحديداً، خاضعة لتحالفٍ خفيّ بين سلطات الأمر الواقع، المتحكّمة بالبلد وناسه بجوانب كثيرة، وفيروس “كورونا”، الذي يُجمَع على أنّه (الفيروس) سببٌ لـ”تعويم” تلك الطبقة الفاسدة والناهبة أموال الناس وحقوقهم، بعد أسابيع مديدة على محاولة تحطيم سطوتها، بفضل ابتكارات “ثورة 17 أكتوبر” (2019).
مع هذا، فإنّ أسوأ المُنبثق من بثّ شريط الفيديو متمثّل بمكتوبٍ عنه، غير آبه بمتغيّراتٍ يُدركها البلد وناسه في العلاقة بمفهوم التقديس، المانع نقداً لشخصيات حاكمة في السياسة والأمن والاقتصاد والدين والفن والثقافة. بعض المكتوب، وهو الأقلّ عدداً بالتأكيد، مستمرٌ في تبجيل فنانة، لها حضور كبير في وجدان كثيرين، ممن يستمعون إليها دائماً، وهذا طبيعي، ففيروز ـ بصوتها الأجمل سابقاً ـ أقدر الفنانات العربيات على بلوغ أعماق أناسٍ منتمين إلى أكثر من جيل، يصعب على أخريات وآخرين بلوغها. لكنّ هذا البلوغ منتهٍ، فهي ـ منذ سنين مديدة ـ منعزلة كلّياً، وإطلالاتها الفنية نادرة، وبالتالي فإنّ الإطلالات الفنية النادرة تلك يندر العثور فيها على جديدٍ وساحر وجاذب، كعادة فيروز والرحابنة، أباً وعمّاً وابناً، في صُنعه. بعضٌ يُبجِّل فنانة تُصدر، في وقتٍ عصيبٍ كهذا، شريط فيديو يستحيل العثور فيه على ما يُغري الاستماع إليه ومشاهدته مرة ثانية. بعضٌ يُمجِّد امرأة كأنّ شيئاً غير حاصلٍ في بلدٍ يشهد، في 15 عاماً على الأقلّ، “ثورتين منقصوتين”، لكنّهما تؤكّدان إمكانية اللبناني على تحدّي الأصنام المقدّسة، وتحطيم صُوَرها في مخيّلة ووعي، وإنْ تُصاب الثورتين بأعطابٍ، بعضها قاتل. معظم الأعطاب تلك نابعٌ من سوء إدارة وانهماك مزري في لعبة السياسة والمصالح، كما في “ثورة الأرز” (2005)، بينما “ثورة 17 أكتوبر” يُعاندها حكم المصارف ووباء “كورونا”.
في مقابل نصّ الشاعر والكاتب اللبناني عقل العويط، في “النهار” اللبنانية (4 أبريل/ نيسان 2020)، المليء بتلك المفردات المُكرّرة منذ سنين طويلة عن فيروز وصورتها وصوتها، بعيداً كلّ البُعد عن أي سجال نقدي، أو حتى عن أي تعبيرٍ جديد عن حبّ قديم لها؛ يُطلّ الإعلامي رامي الأمين في شريط فيديو (الموقع الإلكتروني “درج”، 5 أبريل/ نيسان 2020) يرتكز على مقاربة غير فنية، لتوغّلها في إقامة تشابهٍ (وتحليله) بين ثنائية فيروز ـ ريما الرحباني وميشال عون (رئيس الجمهورية اللبنانية) ـ جبران باسيل (رئيس “التيار الوطني الحر” العوني، وصهر الرئيس)، في السياسة والسلطة والعلاقات والبُعد السيكولوجي والسوسيولوجي، إلخ. مقاربة مرتكزة على تحليل ممزوجٍ بسخرية، وجديرة بالتنبّه والمتابعة والنقاش، أكثر بكثير من مقالةٍ يُمكن أنْ تُكتب اليوم أو أمس أو منذ ألف عامٍ أو بعد ألف عامٍ، من دون أي تأثير أو تغيير أو معنى.
***
شريط الفيديو الفيروزي الرحباني هذا “حدثٌ”، “كان يُمكن تفاديه” بكل بساطة.