عايشة ومبروك سويلم زوجان جزائريان يعيشان في مدينة تيير الفرنسيّة، انفصلا بعد ستيّن عامًا من زواجهما على أرض الجزائر المستعمرة في حينه وانتقلا بعدها مباشرة إلى فرنسا بحثًا عن العمل لإعالة الأهل في الجزائر. بعد الانفصال، انتقل كلّ منهما للعيش في منزلين منفردين، في بنايتين تفصل بينهما عشرات الأمتار . تقوم حفيدتهما المخرجة الفرنسيّة الجزائريّة الفلسطينيّة لينا سويلم بالتحرّي وراء أسباب انفصالهما وفي الخلفيّة تلوح ذاكرة جماعيّة وشخصيّة تم ركنُها لعقود من خلال فيلمها الوثائقيّ الأول “جزائرهم” المعروض ضمن فعاليّات المهرجان الوثائقي السويسريّ الدولي “Vision du Reel” في دورته الواحدة والخمسين والمقامة فعاليّاتها أونلاين نظرًا للوضع الرهن عالميًا في أعقاب تفشي وباء الكورونا.
لينا سويلم خرّيجة جامعة السوربون الفرنسية في التاريخ والعلوم السياسيّة، ابنة لأب جزائري هو الممثّل عزّ الدين سويلم ولأمّ فلسطينيّة هي الممثلة هيام عبّاس، ولدت في فرنسا ونشأت في باريس. كان لرمّان معها هذا اللقاء حول فيلمها الوثائقي الأوّل الذي يتناول المنفى في منحاه الشخصي والإنساني، ويطرح مكاشفة الذاكرة كطريقة للمصالحة مع حاضر افترق فيه رفيقا درب بعد ستّين عامًا من الصمت.
هذه تجربتك السينمائيّة الأولى من خلال فيلم وثائقي طويل وكان إطلاقه أونلاين، حدّثيني أوّلًا عن رأيك بعرض الفيلم بهذه الطريقة؟
سبق انتقال المهرجان إلى صيغة الأونلاين سياق غير واضح المعالم قبل تفشّى وباء الكورونا، وكان لديّ أمل بحضور المهرجان، لدى علمي بالقرار الذي اُتخذ من قبل المهرجان كان الأمر صعبًا عليّ في البداية، وظننت أنّي لن أتقبّل فكرة العرض بهذه الطريقة، لكن بعد أيام معدودة أيقنت أنّها فرصة جيّدة لإطلاق فيلمي في هذا السياق وليس الأمر بذلك السوء، لأنّ مهرجان Vision du Reel عريق وهامّ وسعدتُ للغاية عندما اختير فيلمي وكنت متشوّقة لعرضه وأن أتواجد فعليّا في المهرجان وأشاركه مع الجمهور وألتقي بصنّاع أفلام آخرين، لكن إذا كان لا بدّ من عرض أونلاين فليس هناك أفضل من Vision du Reel كمنصّة سينمائيّة بدل من ألّآ يعرض أصلًا. وعندما وافقت كنت سعيدة بقراري ويتعاظم هذا الأحساس كل يوم مع مرور الوقت، فمثلا عُرض الفيلم قبل يومين (وقت تسجيل الحوار) وشاهده 230 مشاهد، وأتلقّى الكثير من الرسائل. لا شكّ بأنّي فرحة أن الفيلم استطلع أن يخاطب الناس وهم معنيون بالتعبير عن مشاعرهم تجاه الفيلم، وفي نفس الوقت حزينة أنّى لا أعيش تجربة التلاقي المباشر بالجمهور، لا تنسَ هذا فيلمي الأوّل في عرضه الأوّل، لم أعش تجربة العرض الأول (premiere) من قبل ولم أحظ بعرض فيلمي في قاعة، لكني لا زلت متأمّلة أنّ ذلك سيحصل في مرحلة ما.
لنعد إلى بداية رحلة “جزائرهم”،لماذا صنعتِ هذا الفيلم ؟
أردت دائمًا تصوير جدّتي وكنت معجبة بقصصها، شعرت أنّ هنالك شيء قويّ داخلها ومعاناة متراكمة لا تبوح بها، أكسبها هذا بنظري كاريزما أبهرتني. كنت أصوّر جدّتي كما الجميع يحب أن يفعل، لم أفكّر أنّني سأنجز فيلمًا من خلال تصويرها، لكن تدريجيًّا تطوّرت الأمور إلى أن علمت أنّها وجدي ينفصلان بعد ستّين عامًا من الزواج! أدركت حينها أنّ قصّتهم ليست عاديّة، هنالك شيء خاصّ لا يحصل كثيرا، الافتراق في جيل الثمانين، كان الانفصال بمثابة صدمة لي خصوصًا أنّ جدّتي هي من أخذت القرار، وكذلك فهمت أنّي لا أعلم شيئًا عن حياتهما السابقة، وكان غير مقبول بالنسبة لي أن يرحلا دون أن أعلم قصصهما ودون أن يمرّرونها إليّ، شعرت تلك الحاجة لتصويرهما وكسر الصمت قبل فوات الأوان.
هنالك بالتأكيد لحظة تحوّلوا فيها من جدّ وجدّة إلى شخصيات وثائقية، هل كان مريحا لهما الانكشاف أمام الكاميرا ؟
أحسست منذ البداية أن جدتي مستعدة أن تشاركني تجربتها امام الكاميرا، لكن في الحقيقة لم يشعرا كثيرا بحضور الكاميرا، كانت هنالك أحاديث حقيقيّة وجديّة، لم يُبن الفيلم بمنطق ميزانسين سينمائي معين، صوّر الفيلم بشكل طارئ مع كاميرتي لوحدي، كنت أصور وأسجّل الصوت، واستعنت أحيانا بأختي وأبي وبعض أقاربي. حاولت أن أفعّل عنصر الذاكرة في الحياة العائليّة اليوميّة، ولم أشعر أنهما غير مرتاحين، بالتأكيد كانت هنالك لحظات صمت وأبواب مقفلة في وجهك، جدّي مثلا لم يتكلّم في البداية على الإطلاق، لكن انفتح تدريجيًّا ، خصوصا عندما علم أني سافرت للجزائر، لمسقط رأسه في منطقة العماير وأريته صورًا من هناك. رحلة الفيلم هي رحلتي في حياتهم، كل شي اكتشفه الفيلم، اكتشفته أنا أيضا في نفس الوقت.
كان هنالك توقّع ما أن تصوّري مشاهد في الجزائر نفسها خصوصا أنّك سافرتِ إلى هناك، لماذا اخترتِ ألّا تصوّري مشاهد في الجزائر واكتفيتِ بمناظر قليلة من الطبيعة هناك؟
في البداية لم أخطط مطلقًا أن أصوّر في الجزائر لأنّ الفيلم عن المنفى وتجربة حياة هذا الجيل من الجزائريّين في فرنسا، ، حصلت على إقامة فنية في الجزائر وذهبت إلى العوامر هناك وأخذت كاميرتي ولم أتوقع ما كنت سأجده وابتدأت بالتصوير ، كان أمرًا لا يصدّق لم أتخيّل تلك المناظر، تلك الجبال المغطّاة بالثلوج، لم أعرف كيف أتصرّف في ذلك الحيّز الذي تعرّفا فيه على بعضهما البعض قبل ستّين عامًا، وها أنا في نفس المكان تحت الثلوج مع كاميرتي، كان الأمر كالحلم ، غير حقيقيّ، قابلت بالتأكيد بعض أفراد العائلة في القرية، وصوّرت معهم لكن قرّرت ألّا أظهرهم على الشاشة لأنّ الفيلم في النهاية عن جدّي وجدّتي وعمّا في عقولهم وقلوبهم، وليس عمّا يحصل اليوم في الجزائر بل ذكرياتهم عن وطنهم وهم بعيدون عنه، لذلك أسمّيها جزائرهم وليس الجزائر.
في أحد المشاهد الدالّة تعلّق جدّتك لنفسها صور أو بطاقات مبروَرة كُتب عليها “أفضل أم في العالم” و “الجدة الأفضل تسكن في هذا البيت”، هذه المرأة تكافئ نفسها بنفسها وتقول لنفسها ما لا تسمعه من الآخرين ومن زوجها تحديدًا. ما هي أكثر المشاهد التي أثّرت فيكِ خلال تصوير الفيلم؟
أول مشهد يخطر في ذهني عندما أخبرَتني كيف تزوّجت جدّي. كنت أعلم أنّهما لم يعرفا بعضهما البعض وأن زواجهما كان مرتّبا من قبل عائلتيهما كما الجميع في تلك الفترة، لكن لم أكن أعلم أنها لم تره بتاتاً واكتشفتْه فقط حينها، ولذلك رد فعلي في الفيلم هو نفسه في الحياة ،كنت متفاجئة جدا وتأثّرت بأنها شاركتني تلك الذكريات الخاصّة والممنوعة، وشعرتُ كم حاولتْ ألّا تهوّل من قسوتها وشاركتها بطريقة طريفة وبضحك لتخفف من وطأتها، لتحمينا وتحمي ذكرياتنا عنها. كان مؤثرًا للغاية. ومع جدي هنالك اللحظة التي أريه فيها صورًا التقطتها في الجزائر في مسقط رأسه ، كانت تلك اللحظة الأولى التي أراه فيها مبتسما وعيناه تبرقان ، كانت المرّة الأولى في الفيلم يعبّر فيها عن عاطفة إيجابيّة ويمتلئ قلبه بشيء ما .
لدى جدك وجدتك ذكريات دامية على مستوى الذاكرة الجماعيّة في الجزائر تحت الاستعمار. هنالك شيء ما عالق لا يُحكى عنه وحاولت أن تصالحيهم معه، كمشهد جدّتك مع صور أمّها وتأثّرها، أو حتّي رمزيّة دخول جدّك إلى متحف صناعة السكاكين في مدينته تيير الفرنسيّة، وهو أفنى عمره كالكثير من الجزائريين في العمل في مصانع السكاكين
كان لي مذهلًا أنّه لا يتحدّث عن عمله، يجيب فقط بنعم أو لا، لذا فكّرت أن اصطحبه إلى مكان يوقد به ذكريات معيّنة، قرّرت أن نذهب معًا إلى حيث كان مصنعا عمل به، وإلى متحف صناعة السكاكين، كنت متأكدة أنّه سيقضي عشر دقائق من الصمت هناك ويغادر، لكنّي رأيت كم أثر الأمر عليه، كانت تلك حياة عمّال مضنية وصعبة، ترك الجزائر وأهله، وعمل كل حياته في مصنع سكاكين، وفجأة أقفلت كل هده المصانع وانطوت معها فترة من حياته. وقف جدّي هناك في المتحف وقد خسر كل شيء عرفه في حياته٬ زوجته، عمله ووطنه. صفّى وحيدًا وهو في هذا السنّ ممتلئًا بالحسرة.
تحول جدّك لجزء من المتحف
صحيح، والمتحف في تيير غاب عنه أي ذكر للجزائريين، كل الجزائريين الذين عملوا وأفنوا عمرهم عمّالًا في مصانع السكاكين ، كانت محاولة لي في هذا المشهد أن أضعه مجدّدًا في التاريخ، حتى في الشرح المرفق داخل المتحف ذُكر أنّها صنعة فرنسية قديمة ولم يذكروا الجزائريين الذين تركوا بلادهم وأُحضروا إلى هذا العمل الذي عانوا فيه كثيرا.
لا شكّ في أنّ الهويّة هاجس يحرّكك و البحث فيها متّقد ومستمرّ ويرافق الظروف التي نشأتِ فيها. سينمائيًّا ، ما هي المرجعيّات التي ترينها ملهمة أو أثّرت علي الطريقة التي تصنعين بها أفلامًا وتتطرق للهويّة الجزائريّة أو الهويّة الأصلانيّة ؟
اعتقد أنّني اكتشفت ما أريد عمله عندما اكتشفت الأفلام الوثائقية، وكذلك عندما اشتغلت في مهرجانات سينمائية لحقوق الإنسان في الارجنتين، هنالك اكتشفت أفلامًا عالجت فنيًّا قضايا الهوية والمسائل الاجتماعيّة والذاكرة والتاريخ الجماعي، هذا الدمج جذبني بين الفن والمشاكل الراهنة ومعالجتها بشكل حسّي ومخاطبة الجمهور بها، مثلا فيلم act of killing لجاشوا اوبنهايمر من الأفلام التي أثّرت في، مع أنّ الفيلم يتناول قضيّة الإبادة الجماعيّة في إندونيسيا وهي قصّة ثقيلة جدًّا، لكنها سُردت سينمائيّا في تبيانها للفظائع دون أن تكون تراجيديّة الطابع وبطريقة جذّابة، وفيلم آخر أحبه “عالم ليس لنا” للفلسطيني مهدي فليفيل، هو كذلك يبدأ مع عائلته ويظهر في الفيلم، وله تجربة شخصيّة خاصة، فهو متواجد في أوروبا وأهله في المخيم ، ويبيّن كيف يؤثّر المنفى على ذاكرة الأجيال، لكن بنفَس فيه دعابة بالرغم من تراجيديّة بعض اللحظات، أعتقد أنّ أقوى التوليفات في هذه الأفلام هو الانتقال من الخفّة إلى الثقل وفي الخلفية قصّة جماعيّة تروى وهذا ملهم.
واضح في الفيلم أنّ الأرشيف كان مدخلًا لبناء القصّة وأنت محظوظة بهذا الأرشيف العائليّ الذي صوّره والدك، كان هنالك توثيق لشكل المناسبات العائلية للجاليات الجزائريّة في فرنسا في التسعينات . هل مشاريعك المستقبليّة ستتعامل كذلك مع الأرشيف؟
كان الأرشيف بالفعل نقطة البداية، عندما انفصل جديّ وجدّتي وباشرت بتصويرهم رأيت كل الفيديوهات العائلية، كان أكثر من مجرّد ذكريات، كان إثباتًا للذاكرة التي لا يتحدّثون عنها، كان دليلا بصريًّا وإدماجه هامّ، استطعت ان أقول لهما ها هو الأرشيف ، لديكما قصّة خاصة، قصة منفى وأنا جزء منها أيضًا، وأنا طفلة في ذلك الأرشيف، واستخدمت القليل من الأرشيف نسبيا لأن أساس التغيير في الفيلم وأحداثه تحصل اليوم. المشروع القادم اريد ان اعتمد فيه أكثر على الأرشيف وأن أبني سردية من خلاله، من خلال الصورة، لكن عن طريق شقّي الفلسطيني وتحديدًا من خلال النساء في عائلة أمّي وكيف انتقل تمرّدهن من جيل إلى آخر . لدي فيديوهات كثيرة مصوّر في فلسطين، كانا والديّ يصوّران كل رحلاتنا العائليّة في التسعينات إلى الجليل والقدس وأريحا وغزّة وعكّا وطبريّة. تلك الشرائط هي برهان وجود لك عندما تُنكر هويّتك وأعتبر مشروعي هذا نوع من المقاومة البصريّة.
عندما تقارني نفسك بجدّك وجدّتك ما هو الاختلاف ، وبكلمات أخرى ، كيف ساهم أو أنقص تعقيد هويّتك في تصوّرك لمن أنت؟
كنت محظوظة لأن والديّ الاثنين عملا في السينما، لذا كان لدي مدخل للعديد من الأشياء لا يحظى بها أناس آخرين من هويات مختلطة ممتزجة. بلا شكّ هنالك صعوبة أن تنشأ في دولة لا تتشارك معها التاريخ لكن تتشارك معها الثقافة، أنا ولدت في فرنسا وجزء من ثقافتي فرنسيّ بلا شكّ، لكنّي لست كأي فرنسي أو فرنسيّة آخرين، لدي عائلة في الجزائر وأخرى في فلسطين، وتاريخ جماعي ثقيل لقصص حروب واستعمار واحتلال، أحيانا من الصعب أن تجد مكانك وسط كل هذه التراكيب وتقول لنفسك إنّك ذو امتياز فأنت مولود في أوروبا وخارج كل هذا، لكن في ذات الوقت، يسري تاريخ عائلتك في دمّك وبطريقة ما عليك إيجاد التوازن. هنالك حاجة للتبرير أن تقول مثلا في فرنسا أنا فرنسية ولكني كذلك فلسطينية وجزائرية، والعكس عندما تكون في المكان الآخر، لكن ربّما نحن محظوظون في هذا السياق المعاصر أن خليط الثقافات مقبول دون أحكام كما في الماضي، هذا صراع يومي وصراع إيجابيّ.
ما هي أهم الدروس التي خرجتِ بها في تجربتك الأولى في إخراج فيلم وثائقي طويل؟
أعرف أنّها جملة مكرّرة (تضحك) لكن آمن بنفسك! لم استسلم أبدًا حتى لدى مروري بلحظات لم يكن فيها دعم، وأنا محظوظة أنّ لدي في هذه الصناعة الكثير من الأصدقاء والداعمين الذين أصبحوا قريبين لي. عندما تعود إلى بيتك أنت وحيد وتواجه الأشياء بمفردك، وفقط من خلال العلاقات الإنسانيّة القويّة داخل الوسط السينمائي تستطيع التقدّم، وغايتي أن يشاهد الجمهور هذا الفيلم ويستطيع التواصل مع الذاكرة والإحساس فيه.