لا أدري إن كانت نهاية العالم قد حلّت منذ حين، أو أنّها آتيةٌ لا ريب فيها. رُبّما تكون بدايةً لشيء ما. لا أعرف ما يُسمّى هذا بالضّبط.
المرّة الثانية التي صدّقت فيها أنّ ثمّة نهاية للعالم، كانت عندما شاهدتُ عدنان ولينا في بداية الألفيّة الثالثة: “اندلعت الحرب العالمية الثالثة عام ٢٠٠٨، استخدمت فيها الشعوب المتحاربة أسلحة مغناطيسية تفوق في خطورتها الأسلحة التقليدية، ونتيجةً لذلك، حلّ الدمار في البرّ والبحر فانقلبت محاور الكرة الأرضية وباتت الكرة الأرضية تعيش الكارثة المؤلمة. مضى الآن عشرون عامًا على الكارثة ولم يبقَ على هذه الجزيرة سوانا، أتت الحرب على معظم أجزاء الأرض، والآن أخذت الأشجار والحشائش تنمو ثانيةً وأخذت الأسماك تملأ مياه البحر. لقد انتعشت الأرض وامتلأت بالحياة من جديد.”
تشكّل تصوّرٌ في ذهن طفلة عن الحياة ما بعد النهاية. ولم تكن تلك الحياة سارّة، أو مختلفة عمّا قبلها.
أذكر أنني لطالما انتظرتُ وأخي عام ٢٠٠٨، لنرى ماذا سيحدث. منذ ذلك الحين، شُنّت حروبٌ كثيرة. واستُخدمت أسلحة عدّة، وانتهت الحياة في أماكن كثيرة. لكن هذا العالم الحقير، يبقى دائمًا على ما هو، لن يحفظ ماء وجهه قط.
أمّا المرة الأولى التي تعرّفت على شكل نهاية العالم، والتي يعتبرها معظمهم نهاية سعيدة، رغم أنّها دمويّة، فصدّقت، عندما حدّثتنا المعلّمة عن يوم القيامة، الذي سيأتي فيه الدجّال ليضع الطّالحين منّا في براميل من الزّفت، فأصبحتُ كلّما شاهدت عُمّالًا يخلطون الزّفت في أحد أحياء القرية، أشمّ رائحة القيامة.
عرفتُ رائحة نهاية العالم قبل أن أعي رائحة العالم نفسه.
كبرت ولم أشغل نفسي كثيرًا بحدوث الحرب العالمية الثالثة أو عدم حدوثها، ثمّ أن القيامة بالنسبة لي، أضحت مجرّد قصة خيال علمي، كتبها أحدهم منذ زمن طويل، وصدّقها كثيرون. لكنني وبصراحة، فضّلت دائمًا نسخة عدنان ولينا من نهاية العالم، فقد كانت مرئيّة وملوّنة ومُرفقة بالأغاني وقد احتوت على أسماء مثيرة كعمروس ونامق وعبسي وعلّام. وتلك الأسماء فضّلتها على الدجّال وإبليس، خصوصًا لأنّها كانت شخصيّات مصوّرة، لا مجموعة أحرف تنطلق من شفتيّ معلّمة لئيمة بائسة، تبثّ السمّ في أذهان أطفال، أصبحوا قطعانًا يحلمون بيوم القيامة السعيد.
كبرتُ وأصبحت خلايا مخّي تتراقص حول عالمي، الذي كلّما بدأت بنسجه، تمزّق.
يوم الأربعاء، حزمتُ أغراضي باكرًا، وتركت ورائي مكان عملي المقفل، شوارع المدينة الفارغة، البارات موصدة الأبواب، ألعاب الطرنيب والكاتان في مطبخنا الدافئ، الباحثين عن أوراق التواليت، ورشة كتابة لا موعد لها، الموسيقى الكلاسيكية المنبعثة حديثًا من بيت أحد الجيران، الجيران الذين لم أرهم قط، غرفة صغيرة مُرتّبة وشمسًا ظهرت أخيرًا لتؤنس مساحات شاسعة من اللاشيء، وتوجّهت إلى المطار.
لم يمضِ على عودتي إلى برلين شهرٌ واحدٌ، وها أنا أتركها مجدّدًا. وكم تمنّى أصدقائي أن لا أسمع صوت المنبّه ذاك الصباح، فلا أصحو، ولا أذهب. وهذا، لا أخفيني سرًّا، قد أحزنني. لكنّ السعادة العارمة كانت تكسو وجهي النّاعس وقد ملأتُ حقيبتي هذه المرة ما يكفي من الكمامات والمعقّمات، بالإضافة إلى الحبوب المنوّمة المعتادة.
لا أستطيع أن أحدّد مصدر خوفي هذه المرّة، لكنّ سبب سعادتي كان يبدو أكثر وضوحًا ويكاد يُقرأ من على جبيني. هذه ليست مصيبتي وحدي. ليست مصيبةً تنمو في دماغي وتنمو، ثم تُزهر، ثم تُثمر، ثم تتساقط أوراقها ثم تزهر من جديد.
فيما مضى، كلّما نظرت خارج دماغي، كبرت مصيبتي، والآن أنظر خارجه، فيبتسم. ليس عليّ أن أجيب على أسئلة مصيرية لا أعرف لإجاباتها أي ملامح. ليس عليّ أن أبرّر خياراتي لأحد. فجميعنا نغوص في المجهول، وجميع الخيارات تبدو مفهومة، أو على الأقلّ، لا نقاش فيها. مجرّد معلومات عابرة. يا للجمال!
وعلى العموم، لا أرى أي علاقة طردية تربط بين مقدار الخوف من الشيء وعدم الإقدام عليه. أي أنني لا أذكر أنّ خوفي من شيء، منعني من الإقدام عليه. لكنني لا أفهم لما تشدّني العلاقات العكسية، التي كلّما زاد مقدار المتغير الأول فيها، نقص مقدار المتغير الآخر. وحقيقةً، مع كمية المتغيرات المتداخلة، لا أودّ معرفة الجواب. دماغي حقًّا يبتسم، ولا يشعر بضرورة إجابة نفسه على هذا السؤال المصيري.
خرجتُ من بيتي في نويكولن الساعة الرابعة صباحًا، متوجّهة إلى المطار وأنا على اطّلاع مسبق على تعليمات لا تنتهي أرسلها لي والدي الليلة التي سبقت يوم سفري. لا تقتربي من تجمعات كبيرة، احرصي على ابتعادك مسافة مترين على الأقل عن أي شخص كان، ضعي الكمامة في المطارات وعلى متن الطائرة، اغسلي يديك مع الصابون أو عقّميهما بوتيرة عالية، اشربي الماء كل ربع ساعة… بعد هذه الرسالة قلت له: لا أستطيع شرب الماء بوتيرة عالية كهذه! بصير بدي أزنقح!
لا عليكم، كل تلك التعليمات استطعت استيعابها، إلّا واحدة: تجنّبي عطسة أيّ شخص قريب كان.
نعم؟ كيف بحقّ الكون من الممكن تجنّب عطسة لسنا نحن من نُصدرها؟ هل كان عليّ أخذ كتاب “كيف تختفي” للطريق؟
يا للهول!
انطلقتُ في طريقي، وكنت أحرص على ألا ألمس أسطح الأشياء العامة، أي كلّ شيء فعليًّا، فمثلا كنت أقصد أبواب القطارات التي سيدخل إليها أو يترجّل منها الآخرون وأنتظرهم ليفتحوها.
كلّما اقتربنا من المطار كان يظهر المزيد من الكمامات على الوجوه الجالسة أو المزيد من الوجوه الداخلة التي ترتدي الكمامات.
وصلتُ إلى المطار. لم أدخل الحمام. لم أشرب الماء. لم أتحدّث إلى أحد. لم أغسل يديّ، لكنّي كنت أعقّمهما باستمرار. وبسرعةٍ كبيرة أصبحت بجانب بوابة المسافرين إلى أرض الوطن، بكمّامة تكاد تغطّي وجهي كلّه.
لم يعطس أحد. حتى أنا لم أعطس.
لم يكن هناك الكثيرين ممّن اجتاحهم الشعور بالضمان والأمان تجاه أرض الوطن. على الرغم من ذلك، كان معظم المسافرين من الفلسطينيين.
هذه علاقةٌ طرديّة بامتياز.
رأيت أشخاصًا أعرفهم ويعرفونني، لكنّني لم أودّ التحدّث إلى أحد، لأتجنّب العطسة في حال حدوثها، ولأنني بارعةٌ في اختراع الأفكار وتصديقها، تساءلت: من هذه التي تجلس في الزاوية بشعرٍ محلوق وكمّامة؟ أنا لا أعرفها.
ولأنني لا أعرفني، كيف للآخرين أن يتعرفوا عليّ؟
حسنًا. لا أملك الماء. كيف سأتناول المنوّم؟
وسرعان ما تذكّرت أنّ مصدر خوفي بات مجهولًا، فابتسم دماغي موقنًا أنني سأنام بعد لحظات من جلوسي في الطائرة.
كان لكلّ راكب ثلاثة مقاعد، إذ أن الطائرة شبه فارغة، لكنني وضعتُ طبيعتي البشريّة جانبًا ولم أطمع، فاكتفيت بالجلوس على المقعد المحاذي للشباك، مكتوفة الأيدي، في جيبي الأيسر هاتفي النقّال، وفي جيبي الأيمن المعقّم. انتابني شعور غريب دفعني لأقول في نفسي “إلى الجحيم أيتها القلعة” كما يقول عبسي، فابتسمت. وقبل أن تُقلع الطائرة، غفوت.
ياه! ما هذا الوطن الفارغ؟ وما هذه السلاسة المدهشة التي جعلتني أخرج من المطار كأنني أتمشى على شاطئ المتوسط؟ أنا معتادة على أن يستقبلني ضابطٌ، ثم يدعوني للجلوس في غرفة على الهامش لمدة ساعة على الأقل بعد أن يأخذ جواز سفري. لكن هذه المرة كانت مختلفة جدًا.
كان من المفترض أن تهبط الطائرة الساعة 12:15 ظهرًا، لكنني في هذا الوقت، كنت أجلس في باحة المطار أنتظر والدي ليقلّني إلى البيت. على ما يبدو كانت السماء أيضًا فارغة.
تتصل أمي، وتقول لي أن والدي في طريقه إليّ، وأنّه عليّ الجلوس في المقعد الخلفيّ الذي يفصل بينه وبين المقاعد الأمامية “نايلون”.
ضحكتُ بشدّة. لم أصدّق. حتى وصل والدي واكتشفت أن هذه حقيقة. المزيد من الحواجز في وطننا الجميل.
هل لديك كمّامة أخرى؟ سألني، بعد أن قال لي مرحبا من مكانه في السيارة.
نعم، ناولته كيس الكمامات، حيث أمسكه بدوره بورقة، ووضع كمّامة على وجهه. وجلست أنا في المقعد الخلفيّ مشدوهةً.
ما أن خرجنا من محيط المطار حتى انتابتنا موجة ضحك.
تتصل أختي لتحدّث والدي، ولأنّ النايلون يفصل بيننا، بالكاد أستطيع سماع ما يقولان.
أسمع كلمة صرصور، ثمّ يقهقهان.
لحظة! هل نعتني أحدهم لتوّه بالصرصور؟ وأطلب توضيحًا من والدي. فيجيبني في ثالث مرة أسأله بعد أن ابتسم متجاهلًا من قبل.
هل نعتني أحدهم لتوّه بالصرصور؟
نعم، قالت على سبيل المزاح أنه يجب علينا أن نعقّم جميع الأمكنة التي يمرّ منه الصرصور. وأضافت مقتبسةً أبو عنتر في مسلسل “عودة غوار”: “صرصور وقع بصحن الحمص، شو فيها؟ ما الصرصور خلقة الله”.
لا أبالي، بإمكاني أن أكون صرصورًا.
تتصل أمي لتحدّثني: ميسان، لا تدخلي منتعلة حذاءك. اخلعيه واتركيه في الخارج.
هل أخلع ملابسي أيضًا في الخارج؟ أسألها.
ميسان هذا ليس وقتًا للمزاح. اخلعي حذاءك في الخارج وتوجّهي مباشرة لتستحمّي. سآخذ جميع ملابسك لأغسلها.
لا أبالي، بإمكاني أن أكون جرثومةً أيضًا.
وصلتُ إلى البيت، وفعلتُ ما أرادت بعد ألقيتُ التحيّة عن بُعد. تناولَت ملابسي بكفوفها الزرقاوين، ثمّ أدخلتني السّجن. أقصد غرفتي. بعد أن أزلتُ عن جسدي مشقّة السفر. وفي كلّ مرة كانت تدقّ باب غرفتي، أفتحه لأجد صينيّة طعام أو شراب على الأرض، آخذها بخجلٍ، أمام نفسي وأمام الساكنات جميعها. تراقبُني تلك الساكنات وأنا آكل، فيبتسم دماغي، ثمّ أعيد الصينيّة خارج الباب، وأعود لأجلس في مختبر علوم الأحياء.
ها أنا الآن أجلس في نفس المكان منذ عشرة أيام، توقظني في كلّ يوم ممرّضةٌ مهاتفةً إيّاي، تعتذر عن إزعاجها لي، ثمّ تتعرّف عليّ وتُثني على ما لا أفعله في حياتي الحالية، وتسألني عن درجة حرارتي، لأجيبها أنّها تتراوح بين 35.4 و 36.8 فتستوضح إذا ما كان هناك أيّ عوارض تستحقّ الاهتمام، لأجيبها يوميًا بالنفي. فأخشى أن تقول لي أن هذه درجات تستحق الاهتمام. لكن على ما يبدو جميعنا لا يعرف مصدر خوفه، أو ما بات يستحق الاهتمام فعلًا. يا لجمال الوحدة الوطنية.
وحتى الآن، عدت لممارسة الرياضة، حسنًا القليل منها، وقمت بإجراء محادثةٍ مع بو بريص، كان يعلم أنّ الماء يعيق حركته لكنّه كان يصرّ على النزول فيه، فحاولت مرارًا أن أقنعه بأن يعدل عن تصرّفاته. دون جدوى. كما وأجريت مسابقةً لمجموعة من النمل وتوّجت الفائزين منهم برشّة من مبيد الحشرات بعد أن رجوتهم أن يتركوا غرفتي وشأنها. والأمر الأكثر إثارة من أن النّمل يعمل بجدّ، هو عناده.
سرقتُ اللوز من شجرة جيراننا، وقد كانت تلك المرة الأولى التي أهرب فيها إلى الخارج لبضع دقائق، لكنّها كانت الشجرة التي اعتدت أن آكل منها منذ كنت طفلة، وقد مرّ ربيعان دون أن أتذوّق طعمها.
وأخيرًا، عدت للعمل والتواصل مع العالم الخارجي، لكن بشكلٍ افتراضيّ تامّ. أدرّس اللغة العربية للشاشة، أتحدّث مع الشاشة، وكم أخشى أن أقع في حب الشاشة، فهذه علاقة عكسيّة بامتياز.
ربمّا لن ينتهي العالم كما تصوّرته الطفلة في داخلي من خلال قصة القيامة أو قصة عدنان ولينا، لكنّ تلك الطفلة باتت تشعر أن العالم المحسوس قد ينتهي، ويسود الافتراض مزيِّنًا عالمنا الجديد. أبوكاليبسنا الجديد.
يبتسم دماغي، فهو لا يشعر بضرورة التفكير في هذه التداعيات، التي قد تكون هي الأخرى مجرّد افتراضات من نسيجه الممزّق.
يبتسم، ويغوص في المجهول.