الخوف ثقافة مضادة

Spaime: Fear, Corneliu Baba

فرج بيرقدار

شاعر سوري

لا بدّ إذاً من هزيمة الخوف بجميع مستوياته وطبقاته، ولكن إذا كانت هزيمة الخوف ممكنة بالنسبة لبعض الأفراد، فإن ذلك لا يعوَّل عليه، لأنه لن يغير شيئاً من الواقع. ما يعوَّل عليه هو إلحاق الهزيمة بتربة الخوف لا بتربيته فقط.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

17/05/2020

تصوير: اسماء الغول

فرج بيرقدار

شاعر سوري

فرج بيرقدار

حرصت وتحرص الأديان والشعوب والأُسَر والمدارس والثقافة عموماً أن تربّي الأجيال على قِيَم ومثل وأخلاق تليق بالإنسان وممكنات التسامي عنده. حتى الأنظمة الاستبدادية لا تخرج في إعلامها وادعاءاتها عن هذا النسق، غير أن ممارساتها القمعية والبطش والتنكيل وأمثولات الرعب التي تشيعها بين الناس تتكفّل بأن لا تترك في معمار تلك التربية حجراً على حجر. 

أجلْ… حتى الأنظمة الاستبدادية تحاول ادعاء الفضيلة، رغم قناعتها بأن ذلك لا يتسق مع تعميم الخوف.

حين نقرأ أو نصغي لرجل دين ولديكتاتور يتحدثان عن أمهات الأخلاق، فإنه يصعب علينا التمييز بينهما، ولكننا حين نستقرئ الوقائع والسبل الممهِّدة للرحمة والسلام، أو المهدِّدة بالويل والانتقام، فسندرك الينابع والمصبّات لكل منهما.

الخوف لا يبني أخلاقاً ولا حباً ولا احتراماً  ولا تسامحاً ولا تسامياً. الخوف ثقافة مضادّة أو موبوءة، تمنع المرء من أن يكون على حقيقته، منسجماً مع نفسه وما تربى عليه من فضائل.

الخوف يمكن أن يحوِّل الكثير من الناس إلى قطعان مستعدة للخروج بما يسميه الاستبداد “مسيرات شعبية طوعية” للتأييد والهتاف بحياة الطاغية “المحبوب” حتى لو كانوا يضمرون السخط والكراهية والموت “للمحبوب” وزبانيته.

المسيرات المليونية المؤيدة لصدام والأسد والقذافي وأمثالهم انتهت مع انتهاء الخوف. وقد رأينا أن نسبة المعارضين تكاد تعادل النسبة التي يقولون إنهم حصلوا عليها في الاستفتاء.

الخوف يعلِّم غالبية الناس أن يكونوا بوجهين، بل بوجوه متعددة، كما يعلِّمهم التملُّق والمجاملة والغش والتحايل والتواطؤ والتقيّة والمراوغة والكراهية، وغير ذلك من هذه الأنساق الأخلاقية المضادّة، في حين أن خطابات الديكتاتور تدعي المنافحة عن القيم النبيلة من صدق وتضحية وعدل وتسامح ومحبة ودفاع عن المقدسات إلخ.

في الواقع أن مشكلة الخوف أكبر وأعمّ وأخطر من حدود جلّاد وضحية. حدث كثيراً أن بعض السجناء استطاعوا تجاوز الخوف من جلاديهم، غير أن ذلك بقي فردياً، وبالتالي لم يغيِّر شيئاً من درجة التلوث في ثقافة وأخلاق المجتمع، إذ يرى الأطفال أهاليهم يكذبون خوفاً من السلطات على أنواعها، فيصبح الكذب أمراً مسوَّغاً أو مقبولاً، ويمكن أن يمارسه الأطفال، اقتداءً أو خوفاً، عند أي مخالفة يرتكبونها أو مساءلة يتعرضون إليها من الوالدين. 

والفقر يدعم ثقافة الخوف ويعضدها. لو أن طفلاً من أسرة فقيرة كسر كأساً فإنه على الأرجح سيتكتّم على الأمر أو ينكره خوفاً من ردّ فعل الأهل، وقد يبلغ به الأمر أحياناً حدّ اتهام أحد إخوته بكسر الكأس. 

الطفل الذي يعيش في أسرة غير مهدَّدة من سُلطة أو فقر أو جهل، يتربى غالباً على صراحة وصدق أعلى وخوف أقلّ.

قد تكون الجرأة ممكنة أو أسهل في العلاقة مع المجتمع، إلا أنها تتضاءل كثيراً في علاقتها مع السلطة والفقر والمستقبل المجهول. 

في الاستفتاء على رئاسة الأسد الأب عام 1978 كنت أؤدّي الخدمة العسكرية الإلزامية. دُعينا جميعاً إلى ساحة الاجتماع، وهناك شرح لنا قائد الكتيبة تفاصيل عملية الاستفتاء، حيث سيستلم كل فرد بطاقة فيها دائرة خضراء تعني “نعم”، ودائرة حمراء تعني “لا”، وأن العملية ستجري ضمن غرفة سرية، وذلك لضمان حرية التصويت. في الحقيقة وعلى العموم أنا لا أثق بما يقوله النظام وأزلامه، وأعتقد أن معظم الآخرين مثلي. 

الخوف غرفة مفضوحة وبدون جدران، فعن أي سرّيّة يتحدثون، ومن يضمن أن الصندوق السريّ، أعني السحري، لن يجعل جميع البطاقات بدائرة “نعم” الخضراء فقط؟

حين جاء دوري أخذت بطاقتي بين إصبعَي السبّابة والوسطى، وذلك تحسّباً من ترك أي بصمة تشير إلى صاحب هذه البطاقة. راقبت جدران الغرفة بحثاً عن ثقب أو كاميرا فلم أرَ ما يريب، لذلك قررت تجاوز الخوف وسجّلت على البطاقة “لا”. في اليوم التالي استدعوني مع ثلاثة أحدهم برتبة نقيب من منطقة إدلب، والثاني رقيب أول من دمشق، والثالث رقيب من “كفر زيتة. وضعونا في سيارة “زيل”عسكرية تحت حراسة مسلّحة، ومضوا بنا إلى قيادة اللواء. كان المغزى من ذلك إنذارياً صريحاً واضحاً مؤدّاه: إذا لم يكن الخوف المختزن لديكم كافياً، فسنزيد لكم الجرعة، ومن استطاع تجاوز خوفه أثناء الاستفتاء، فعليه أن يدرك فداحة الضريبة لكي لا يعود إليها ثانيةً. 

كان في طفولتي وشبابي ما يكفي من الأسباب لكي أعقد حلفاً مع الجراءة، وربما التهوّر، كانت نهايته السجن. 

في السجن أدركت أن وجوه الخوف تتعدد وتتناسخ بدءاً من السلطات السياسية والأمنية والدينية مروراً بالمجتمع وانتهاءً بالقابليات أو الاستعدادات الفردية أو الشخصية.

لا بدّ إذاً من هزيمة الخوف بجميع مستوياته وطبقاته، ولكن إذا كانت هزيمة الخوف ممكنة بالنسبة لبعض الأفراد، فإن ذلك لا يعوَّل عليه، لأنه لن يغير شيئاً من الواقع. ما يعوَّل عليه هو إلحاق الهزيمة بتربة الخوف لا بتربيته فقط.

الكاتب: فرج بيرقدار

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع