صمّمت الفنانة الأستراليّة فيونا روبرتس Fiona Roberts في العام 2012 كرسّيا من المُخمل الأحمر مُنجّدا بـ 300 عين مفتوحة على أحداقها، عيون ملوّنة متفاوتة الأحجام نزعتها من دُمى بلاستيكيّة. أطلقت فيونا على كرسيها سكوبوفيليا Scopophillia – شبق النظر أو لذة النظر إلى الآخر. وتقول عن كرسيّها أنّه يجمع نقيضين معا: لذة النظر إلى الغير والتلصّص عليه، والرّهاب من نظر الغير إلينا scopophobia. ومع هذا لا تخلو السكوبوفيليا من لذة الناظر ولذّة المنظور إليه الّذي يتحوّل إلى سلعة أو شيء مسبّب للمُتعة أو مثير للغرائز.
تخيّل أن تدخل غرفة ما تبحث عن كرسيّ يحضنُ جسدك المُرهق، فتفاجئكَ 300 عين تراقبك وتُلغي فكرة الراحة لتحلّ محلّها فكرة الاختباء والهروب، تخيّل أن تتبادل الأدوار مع الكرسيّ، تصيرُ أنت شيئا ويصيرُ هو المُشيّء! ليس هناك ما هو مُرعِبٌ من أن نصيرَ ما صيّرناه، ولكن بوعي الفاعل وليس المفعول، أن نصيرَ كرسيّا بوعي الجالس عليهِ.
وقد تناولت الباحثة النسويّة لورا مالفي في مقالها “المُتعة البصريّة والسينما الرّوائيّة” 1975 مفهوم السكوبوفيليا/التلصّص المُرتبط باللاوعي الأبويّ الذكوريّ والفوارق الاجتماعيّة بين الجنسين، بحسب هذا العالم القائم على عدم المساواة بين الجنسيْن يصير الرجل هو الفاعل/الناظر والمرأة هي المفعول/المنظور إليها. تعتمد مالفي في مقالها على التحليل الفرويديانيّ الّذي يربط بين فعل التلصّص الشّبق وبين تسليع الآخر واستعباده من خلال النظرة/المُشاهدة.
وتُشير مالفي في نفس السّياق إلى الخوف الّذي يرافق اللّذة تلك، خوف الرجل من الإخصاء، فهو يتماهى مع الرجل البطل، ولكنّه يخاف أيضا من المرأة الّتي تقف في النقيض من ذكورته، الذكورة الّتي تمنحهُ القوّة والسّيادة والسيطرة.
أيّ أنّ لذة التلصّص المشروع (الّذي يُشرّعهُ العمل السينمائيّ وموافقة المُمثّلين والمُمثّلات المُسبقة على فعل التلصّص) تخفي في أعماقها خوفا غير مُصرّح به من الوقوع في النقيض لما نحنُ عليه، وهناك، برأيي، تكريس لقوّة من نوع آخر، لسلطة نملكها من وراء الشّاشة، سلطة شماتة مُبطّنة نُمارسها ونحنُ نتابع نقيضنا على الشّاشة وهي أيضا لا نُصرّح بها.
كغيري من المشاهدين تابعت حلقات “اطمأنّ قلبي” وهي تعترض تصفّحيّ العبثيّ لصفحات الفيسبوك. كغيريّ تابعتُ الإعجاب الّذي يصل حدّ التّقديس بظهر “غيث” وحقيبة المُفاجآت الّتي يحملها على ذلك الظهر، كغيري قرأت التدوينات المُستنكرة لكشف وجوه الناس الّذين يشرَعُ لهم غيث وحقيبته أبواب السّعادة، قرأت الآراء المُحلّلة لأسباب العوز والفقر والتّوزيع العادل للثّروات في العالم العربيّ.
لم يشغلني ذلك كلّه بالقدر الّذي شغلتني أحاسيسيّ وأنا أتابع هذه الحلقات. بكيتُ أكثر من مرّة وغضبتُ في كلّ مرّة، الوجوه الّتي تطلّ عليّ من وراء كتف غيث تجهل أنّ ملايين العيون تتابعها وهي لهذا مُرتاحة إلاّ لفقرها وربّما أيضا لفقرها. ملايين من العيون تمارس سكوبوفيليا من نوع آخر، سكوبوفيليا البؤس، نعم هي كذلك، لأنّنا ببساطة مصابون بلذّة التلصّص على البؤس، وما الدموع سوى ماء عادتنا السريّة نسمحُ به وفق عَقد الإثارة، إثارة مشاعر التعاطف والرّأفة وتأنيب الضمير. لو لم نكن كذلك لما احتجنا لمسلسل يأتي لنا بكلّ تلك المؤثّرات مُجتمعة: بيوت لا تُشبه البيوت إلاّ في التسمية والمجاز، نساء هاربات من جحيم إلى الجحيم، رجال يتقمّصون البطولة في حبس الدموع وادّعاء الصّمود، أطفال يتأهّبونَ للعبة الحياة.
غيث الّذي يخفي وجهه لأسباب نجهلها، نتكهّن بها فقط. يكشف لنا عن عشرات الوجوه الّتي تلتقطها كاميرا مُختفية، ننشغلُ بملامحها عنه، نُتابع عجزها وقلّة حيلتها، هوانها وذلّها وهي تتلفّتُ حولها هاربة من عيونٍ لا تراها وتشعرُ بها، تتصاعد الإثارة، نتلصّص من وراء ظهر غيث، يتلاعبُ بنا، يغطّي الوجوه تارة ويكشفها تارة أخرى. نودُّ لو نعرف أكثر، لو يفيض البؤس من الأفواه والعيون، تصلُ الإثارة ذروتها حين يُشرعُ باب السّعادة، يحملُ غيث حقيبته ويغيبُ هو وظهرهُ. تظلّ الوجوه مُعلّقة في الفراغ، تظلُّ عيوننا تتلصّص عليها. ينتهي العَرض وتنتهي معه المتعة.
يُحكى أنّ القدّيس فرنسيس الأسيزيّ (1180) كان قد تخلّى عن ثروته كلّها ووزّعها على الفقراء (لا أعرف إذا كان يملكُ حقيبة على ظهرهِ ولكنّه كان يملكُ وجها بشهادة الرّسومات الكنسيّة) حينما سمع في إحدى الوعظات كلام الإنجيل: واحدة تنقصك بعد، بِع جميع ما تملك ووزّعه على الفقراء، فيكون لك كنز في السماوات، وتعال فاتبعني (لو: 18-22).
قد يكون غيث قدّيسا يتبعُ حدسا سماويّا، ولكنّهُ أيضا مخرجٌ واعد موهوب.
لن يمرّ وقتٌ طويل قبل أن نكتشف أنّ نهاية الفقر (ولو على شاشاتنا) تعني نهاية المُتعة.