من إطار شباك مكتبي الصغير في البيت، أرى من السماء شقفة صغيرة فقط! وأرى أرضاً ممتدة. فيها بعض البساتين وبيوت الجيران. المساحة المتاحة للرؤية محدودة من الشباك، رغم ذلك اعتبر نفسي محظوظ جدا، لأنني من نفس الشباك أشاهد القطار الكبير في المدى غير البعيد.
يقطع كل يوم مسرعا وصوته يهدر، هذا الحدث البسيط لوحده بالخارج يشعرني بنبض الحياة الكافي ليوم واحد فقط، يشعرني ان الحياة لم تصاب في الشلل التام، وأن هناك حركة وصوت، لأنني أخاف ان أهرم او انهار من ثقل الصمت وحده هذه الأيام .
بدأت أحدث نفسي قائلا، كم هو محظوظ سائق القطار هذا. انه يتحكم بشيء. إنه خارج الحجر ويستطيع أن يعمل، وهو حر طليق في الخارج. جالسا في المقدمة في غرفة القيادة وظهره للركاب، وكأن القطار لعبة بلاستيك بين يديه، يقطع به حارات المدينة.
يفكر في المحطة القادمة ويتأهب ربما، أو أنه يفكر الآن في ساندويتشه نائمة في صندوق الغذاء. هو لا يدري كم عدد الركاب معه في الخلف! ولا من هم! ولا يدري أن كان في قطاره ركاب أصلاً. يقود قطاره كأنه قبطان يرى كل المدى أمامه، ولكنه لا يرى سفينته من الخلف. أتمنى أن تعود الحياة للنبض وأركب هذا القطار من جديد، واتمنى ايضا للسائق هذا أن يكون سعيدا في حياته، واشكره من قلبي على عمله، واشكر القطار.
من الشباك نفسه أرى أن الربيع قد جن جنونه في لندن. طوال عمري كنت أعتقد أن الورود الأزهار هي من تخصص الشرق. نسمع ونقرأ في القصص عن الزهور التي كانت في حديقة “عمر الخيام” ونتخيل جمالها ورائحتها، او زهور بلاد الشام والياسمين في الحقيقة وفي القصص والشعر. حديقة أخرى نسمع عنها في صلالة “عمان”، او حديقة اخرى صممت لكي تشبه الجنة في الهند.
انبهرت لجمال الزهور والاشجار والورود الخلابة، التي تزهر في ربيع لندن. عدد كبير جدا ومختلف من ورود ساحرة اللون والطلة. ورد اصفر يميل للون البرتقالي، نوار ابيض مثل الثلج، زهر عنابي، شجر قصير يحمل ورود متراصة تشبه الأجراس، شجرة نحيلة تشبه النخلة الصغيرة في وقفتها، تحمل ورق بنفسجي خفيف! أوراقها الفاتنة أجمل من الورد نفسه. كلها زهرت وفتحت، الواحدة تلو الاخرى، بتباطؤ طروب وبفترات زمنية متباعدة قليلا، كأنها في مهرجان معد جيداً! انواع فريدة من الورود وورق الشجر، لم اشاهد ابداً مثلها من قبل في حياتي. كل هذا الى جانب العشب الأخضر، الذي يفرش الأرض في كل مكان مثل بساط لطيف. نحاول تخيل الجنة كل على طريقته. تخيلت الجنة انها على هذه الصورة الى حد ما. ضوء شهي وأشعة شمس معتدلة لطيفة، هكذا كانت لندن هذا الصباح.
نحن في اليوم 43 من الحجر الصحي، الساعة الثامنة صباحا يوم الاحد. لا صوت بالجوار ولا اي نبض للحياة! سوى حفيف ورق الشجر تحت الشباك. اشعر بفراغ كبير من حولي! كأنني في وسط المحيط الكبير، اجلس على هذا الكرسي الخشب “كرسي المكتب” نفسه، في وسط محيط ازرق شاسع. أحاول فهم كل هذا الصمت والترقب لوحدي. وما هي ادواتي انا؟ وانا مجرد فرد عادي جداً. لا اعرف شيئاً عن العلوم مثلا! كل شيء الآن يدور حول مادة العلوم “فيروس”. علوم / أحياء / مختبرات / خفافيش / معقمات/ لقاحات. هذه المواضيع بالتحديد التي لم أتعلم عنها الكثير في حياتي من قبل. في شهادتي المدرسية هي المواد التي سببت لي الخجل أمام الأهل والمعلمين في المدرسة. اندهش وارمش وريقي يجف، عند سماع جملة علمية هذه الأيام وعند عدم فهمها! البعض يقول ان الامل كله في العلوم لكي تنقذنا.
كلما حاولت سماع الأخبار، ارى او اسمع محلل جديد. يتحدث عن الفيروس بكلمات وتعابير ورموز علمية معقدة للغاية، بعضها مختصرة بحروف ثلاث او اربعة. يتحدث ويحلل، ويتوقع ويشير ويشدد، ويذكر ويستنتج، وفي السياق يبتسم للمذيعة، وهي تبتسم له بالمقابل.
وانا مشدود امام التلفزيون واقفا وجسدي وملابسي وشعرات ذقني وشكلي كله يشبه” سكوبي دو” أحاول فهم ما يقوله الرجل، تغيظني الابتسامة بينه وبين المذيعة! اسأل نفسي، على ماذا يبتسم الاحمق؟ ان كل ما يقوله رعب وأهوال! ويسترسل بعد ذلك أكثر وأكثر، يتحدث عن الفيروس كأنه صديقه الذي يعرفه جيداً، وكأنه رفيقه من المدرسة في الابتدائي.
أشعر أنني اعزل تماما الان! بدون فهم جيد لما يدور حولي، وما يجري وسوف يجري وبالخارج. لا معرفة جيدة في غموض الفيروسات، ولا عندي رأي مفيد حول تهاوي الاقتصاد والسياسية فيما بعد الفيروس! الحقيقة انني محتار وذهني مثل كومة قطن مشربك! مؤخرا انتبهت على فجأة، فأجد فنجان قهوتي في يدي قليلا يرتجف، ربما بسبب شرب القهوة كثيرا، أو ربما بسبب الحجر، لا أعلم! وانا كغيري! اسأل ويخطر على بالي السؤال، أين هو الضوء في آخر النفق، الذي نسمع عنه؟
تعلمت المسرح ومسرح الدمى بالتحديد. وأفكر من باب المشاكسة “ماذا سوف ينفعني المسرح والسيرك والدمية الخشبية وأنا بالحجر هذا؟ من المؤكد أن المسارح كلها فارغة ووحيدة وباردة الان، بدون الجمهور، بدون حركة وبهجة وعرق جبين وراء الكواليس ، أين المسرح؟
انه شباك صغير وجزء منه محجوب بشجرة كبيرة، تنمو تحت البيت. ان كنت مارا في شارعنا قد لا يلفت نظرك ابدا هذا الشباك من بعيد. وإن احداً ما يجلس خلفه، أحاول العمل، وقتل الوقت قبل أن يقتلني الضجر! بدون موعد مع أي أحد! دفتر يومياتي للعمل “الأجندة” معطل! لا أتحكم بشيء، انني في هذه اللحظة تقريبا بدون ادوات او سحر، او مسرح او عمل! ليس لدي في هذا الصباح سوى هذه الطلة من الشباك، وكتابة هذه الكلمات!