تتأثر المعايير الجمالية باعتبارات كثيرة يصعب حصرها بميراث ثقافي من خرافات وأساطير وحكايات وأديان، ولا بطبيعة حياة أو أنماط حياة اجتماعية، ولا بأبعاد نفسية، ولا بأمثولات تاريخية، ولا بالترويجات التجارية والإعلامية والمخابراتية.
باختصار، ليس هناك معايير جمالية محددة أو ثابتة أو مطلقة. هناك أطياف واسعة من الثقافات، وأطياف واسعة من الجماليات، وبالتالي أطياف واسعة من المعايير.
لو سألنا إن كانت البومة جميلة أم قبيحة، فستأتينا إجابات متفاوتة ومتباينة ومتعارضة. الإغريق القدماء اعتبروا البومة مقدسة لأنها تمثّل إلهة الحكمة عندهم، في حين أن هناك شعوباً تنفر منها بسبب خرافات تربطها بالشؤم والخراب والموت، كما في الثقافة الفنزويلية وغيرها، وأيضاً لدى الثقافة العربية الشعبية ومَثَلها الشهير “الحق البوم يدلّك على الخراب”.
النظرة الجمالية للبومة عند من يقدسونها تختلف بالتأكيد عن النظرة الجمالية عند من يتطيّرون ويتشاءمون منها. ومهما حاولتَ أن تلفت انتباه المتطيّر إلى اتساع وجمال عينَي البومة، فإنك لن تلقى منه سوى الصدود، مع أن مخزونه الثقافي من الشعر والأغاني مليء بامتداح سعة العيون وتشبيهها بعيون المها أو البقر الوحشي، ولكن ليس بعيون البوم.
ولو تناولنا موضوع الحيّة/ الأفعى، لوجدنا الأمر أكثر تعقيداً. لا ينفع الحيّة في موروثنا الثقافي أن يكون اسمها وثيق الصلة بالحياة ومشتقّاً منها. ومهما كانت رشاقة الحية وانسيابيتها وسرعتها وقوّتها وقدرتها في الدفاع عن نفسها بسمّها وعضلاتها وتجديد جلدها، فلن تحظَ بنظرة جمالية موضوعية أو حيادية. لم يترك الموروث الشعبي والتفسيرات الدينية للحية أيّ أمل في أن تفوز بأي مسابقة لها علاقة بملكات الجمال.
جماليات الغزلان في المجتمعات الذكورية مرتبطة بجماليات الضعف ورغبة الافتراس التي تمكن تلبيتها رمزياً عبر الاغتصاب أو السيطرة وعرض الحماية. في التراث الشعري العربي كل الغزلان إناث حتى لو كانت ذكوراً. الغزال أو الغزالة في الشعر العربي معادل موضوعي أو مكافئ موضوعي للمرأة.
جماليات النمور على النقيض من جماليات الغزلان. ورغم أن الحيوانات المفترسة غير معنية بالتمييز بين الغزالة والغزال، إلا أنها أنداد للبشر الذكور، بل أكثر افتراسية من البشر.
بعض تصميمات الملابس النسائية التي تأخذ شكل جلد النمر ليس هدفها إظهار قوة المرأة وافتراسيتها، إلا إذا كان المقصود، أو الموحى به بالافتراسية هنا، شدّة الشبق الجنسي. وقد تنطوي تلك التصميمات على إيحاءات تدعو الذكر إلى افتراسها أو اغتصابها رمزياً أو احتوائها كما يحتويها ذلك الزيّ النمريّ الذي ترتديه، وقد تكمن وراء تلك الموضة دوافع مختلفة عما أخمّن، ولكن أياً يكن الحال فإن ذلك يثير تساؤلات ويلقي إشارات متعددة.
أعتقد أنه يليق بالنمر أن يكون بطل كمال أجسام، غير أنه من الصعب علينا تشكيل نظرة جمالية موضوعية حياله. الحبّ والكره متنافران، والجمال والخوف أيضاً.
أما المعايير الجمالية التي تنعقد وتفور وتثور، وتأخذ شكل العواصف التي لا ضوابط لها ولا معايير، فتندلع فجأة ثم تخمد فجاة، فإنها تلك المعايير الجمالية المتعلقة بالموضة.
قد تبدأ الموضة في الغرب، ولكن طغيانها يأخذ مداه الأقصى في الشرق. ولكن في الغرب كما في الشرق، يمكن أن ترى مجموعة شباب أو صبايا يرتدون تشكيلة واسعة من الأزياء التي ينتمي بعضها إلى موضة هذا العام، وبعضها ينتمي إلى موضة مضى عليها أكثر من عشرين عاماً، وأحياناً أكثر من ألف عام.
من الذي يحدّد المعايير الجمالية للموضة؟
هناك موضة إبراز المفاتن بصورة مبالغ فيها، أو طمرها بصورة مبالغ فيها، وهناك موضة التعرّي من غير الحاجة إلى نزع الثياب، وموضة البناطيل التي تظهر نصف مؤخرة المرء، وموضة البناطيل الممزقة بصورة توحي بالاغتصاب لمن لديهم ميول سادية أو بهيمية، وتوحي بالفقر والتشرّد لمن لديهم ميول مازوخية، أو لديهم فائض من التعاطف الوجداني مع مآسي الآخرين، أو لأسباب غير معروفة أو غير مفهومة، وهناك موضة صبغ الشعر بألوان فاقعة، وموضة حلاقة شعر الرأس في منتصفه، أو حلاقة الجزء اليميني منه أو اليساري.
أتذكّر في شبابي أن معايير تناسب الألوان كانت تتركز على ربط الأسود بالرماديّ، والبنّيّ بالبيج، والكحلي بالأزرق السماوي إلخ.
ذات شتاء رأيت ابنة صديق لي ترتدي ثياباً لم تترك لوناً أعرفه إلا وتضمّنته. سألتها إن كانت ترى تناسباً بين جراباتها الصوفية الخضراء و “شراشيبها” الحمراء مع قميصها الأصفر وطاقيتها الزرقاء.
نظرت إليّ بإشفاق وهي تقول: عمّو.. أنت شاعر وتحب الطبيعة، وربما تتغزل بجمالها، فهل ترى أن الطبيعة، بأشجارها ومروجها وتنوع ألوان ورودها، غير متناسبة؟
قلت: لا.. ولكني عنيت أن الموضة.
قاطَعَتني: اعذرني عمّو.. لا أحد غيري يحدِّد موضتي.