كتبها إدوارد سعيد ونشرتها لندن ريڤيو أوف بوكس في ١٣/١٢/٢٠٠١
إبراهيم أبو لغد، أستاذ سابق في العلوم السياسية في جامعة نورث ويسترن في الولايات المتحدة، عمل لاحقا كنائب لرئيس جامعة بيرزيت في الضفة الغربية، توفي عن عمر يناهز الثالثة والسبعين في 23 أيار في بيته الكائن في رام الله، وبعد معاناة طويلة مع المرض. جاءني خبر وفاته بينما كنت أسير خارج المطار في طريقي لرؤيته. كان من أقدم وأعز أصدقائي، تميز بقدرته على اسحضار شواهد من التاريخ كمعلّم وكسياسي كاريزماتي أشعلت بصيرته فتيل صداقة استمرت لقرابة خمسين عاماً. وفي جنازته في يافا احتشد الآلاف من المعزين، وكذلك في بيت العزاء الذي أقيم في منزله وفي مؤسسة القطان في رام الله. تحدث العديد من أصدقائه في حفل التأبين الذي أقيم في مسرح في رام الله بعد يوم من دفنه بجانب والده في مقبرة على جانب التل المطل على كهف حيث كان يأخذ زواره للسباحة هناك، لرفضه بالمقابل الذهاب إلى المقهى الإسرائيلي على الشاطئ المحاذي لأرضه بكل ما يتمتع من جاذبيته. كان من أحد المتحدثين في جنازته فيصل الحسيني، والذي وافته المنية بعد أسبوع من حفل التأبين في فندق في الكويت.
من جميع النواحي، عكست حياة إبراهيم الغنية وكذلك طريقة موته الاضطراب والمعاناة اللذين كانا في صميم التجربة الفلسطينية جاعلة حياته مادة غنية للتأمل والتدقيق. تجسد حياته في معظمها الوضع الفلسطيني بكل ما حملت من تردد وحيرة. الشيء الوحيد الذي كان يلوح للجميع عند وفاته هو أن أبو لغد كان قد مارس حقه الخاص في العودة إلى يافا، وهو شيء يستحيل فعله إلا لشخص بإرادته غير العادية. لم يخفق أحد في التأكيد على جوهر عودته إلى فلسطين في عام 1992، بعد غياب 44 عامًا، ولا على التعقيب على إنجازات العقد الذي قضاه هناك في تكريس حياته كمدرس ومفكر معروف ومؤسس للمؤسسات.
رغم هذه الخاتمة المسرحية المكللة بالعودة إلى الديار، بقيت مشاعر القلق لديه هي غامرة. كان لا يزال يشعر بعدم التحقق والاستقرار. لم تغيره العودة، لكنه كان أقل سخطا في موطنه مما كان في المنفى. بالنسبة له، كانت فلسطين علامة استفهام لم تتم الإجابة عليها بالكامل، أو حتى يتم التعبير عنها بشكل كاف.
كان كل شيء في شخصيته يؤكد على مشاعر التشتت وعدم الاستقرار، من مراوحته بين بناء العلاقات الاجتماعية والتواصل إلى عزلته المزاجية وممارسته جلد الذات، من تفاؤله وطاقته إلى الإحساس الرازح بالعجز وهو الاحساس الذي أودى بحياة الكثيرين منا. تختزل حياته في وقت واحد الهزيمة والانتصار، والانتهاك والتحقق، والاستسلام والعزيمة. باختصار، كانت حياته تروي فلسطين، بكل تعقيداتها من قبل واحد من أفضل الفلسطينيين في عصرنا.
إبراهيم -وهو رجل واضح بلا هوادة- سيُذكر أقل بكتاباته، التي كانت متفرقة نسبيًا، مقارنة بقدرته على تنظيم الناس وإنشاء المؤسسات التي سمحت لهم بلعب دور أكثر فعالية مما كان بإمكانهم القيام به كأفراد. في الولايات، كان له دور فعال في تأسيس AAUG (رابطة خريجي الجامعات العرب الأمريكيين)، وصندوق الأرض المقدسة المتحدة، ومعهد الدراسات العربية، والدراسات العربية الفصلية. وقد كان المحرك الأساسي في التخطيط لتأسيس الجامعة الفلسطينية المفتوحة، والتي كان من المقرر أن يكون مقرها الرئيسي في بيروت حتى بدأت حرب 1982 في لبنان مما دفع الفكرة بعيدا عن التحقق. في الضفة الغربية، قام بتصميم مركز لتطوير المناهج الدراسية، ثم مركز القطان لبحوث التعليم. ومع ذلك، بدا وكأنه يعرف أن النضال من أجل فلسطين لا يمكن كسبه فقط من خلال إنشاء مؤسسات من هذا النوع أو حتى من خلال العودة. كان كل ذلك في النهاية يبدو كانعكاس لأنساق ذات مرجعية ذاتية، ستهدم بنيتها في مقابل مشاعر الحرمان والصراع والخسارة التي لا تنتهي. مثل بطل كونرادي، نسبة لجوزيف كونراد*، بدا إبراهيم دائمًا كمن يحاول إنقاذ المعنى والكبرياء من الدراما المحاكة حول قضيته، وكذلك من ضعفه الخاص.
فلنتأمل الأحداث الدرامية التي أحاطت بحياته. وهو على فراش الموت، كانت هناك انتفاضة قوية تتفجر أمام نافذته رغم تشتتها. في عام 1982، كان حصار بيروت، وكانت نتائجه مذابح صبرا وشاتيلا والإخلاء من لبنان (وكذلك منظمة التحرير الفلسطينية)؛ في عام 1948، كان سقوط يافا، وتشتت عائلته، وبداية نفيه الأمريكي الطويل، ونشاطه الصريح في الدفاع عن القضية الفلسطينية؛ في نهاية المطاف، في عام 1992، عودته المفاجئة إلى الضفة الغربية. تقريبا كل أمريكي عربي يقاتل ضد القوالب النمطية العنصرية، والعنصرية الإيديولوجية التي يعاني منها الفلسطينيون، والعداء الدائم للإسلام، يدين لإبراهيم بدين هائل. فقد كان أول من بدأ النضال، وبالنسبة لمعظمنا، هو من جعل هذا النضال ممكنًا في المقام الأول.
بعد ما قراب الأربعين عامًا من النضال في أمريكا الشمالية، كان هناك بالفعل نوع من العودة -أو عودة- ولكن ذلك بالنسبة لإبراهيم كان بمثابة بديلا مصدوعاً: فهي عودة ليس لفلسطين المحررة ولكن إلى منطقة أ، ومع جواز سفره الأمريكي، إلى يافا تحت السيطرة الإسرائيلية إلى حد كبير. كان أول من لاحظ أن عودة الفلسطينيين هي عودة خاضعة للسلطة الإسرائيلية فحتى في وقت وفاته (هدد أفراد مخابرات مجهولون بإلغاء جنازته)، كما كان أول من لاحظ أيضا أنه في عام 1988 قام كل من المجلس الوطني الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية بتغيير مسارهما من حركة تحرير إلى حركة استقلال وطني، وهو انحدار كبير تتجلى صوره بما ستتكشف عنه اتفاقية أوسلو.
لم يكن لأحد أن يفوق إبراهيم في القدرة على تحويل الفوضى الناجمة عن الهزيمة والإحباط إلى نوع من الإنجاز. لكنه لم يكن راضيًا أبدًا عن الانتصارات الأخلاقية البحتة. لقد كان الواقعي أكثر من اللازم في فهمه للقوة العسكرية المتواضعة التي استعملت، على سبيل المثال، لإبقاء عرفات في كارثة بيروت عام 1982. كان يقول: “ليس لدينا دبابات، ليس لدينا قوة حقيقية. ولهذا كان من السهل على الإسرائيليين تدمير مؤسساتنا وقتل كل هذا العدد من الناس.”
قابلت إبراهيم في جامعة برنستون عام 1954. لم يكن هناك طلاب أجانب في الجامعة في تلك الأيام. ولا حتى أميركيين من أصل أفريقي، ولا نساء: فقط الرجال البيض من الذكور الذين حصلوا على تعليم كلاسيكي نخبوي وشعروا بأنهم مؤهلون لحكم العالم. في وقت لاحق، فعل الكثير منهم ذلك بالفعل. أعطى أحد السكان الأثرياء في المدينة المال لقسم الموسيقى لتزويد طلاب الدراسات العليا بتذاكر لبرنامج برنستون للحفلات الموسيقية المرتفعة الجودة. وقد طُلب مني وقتها صرف التذاكر. بعد ظهيرة أحد الأيام الحارة، والبطيئة في سبتمبر/أيلول، ظهر شاب يطلب بأسلوب رشيق، وعيون زرقاء/خضراء حادة ونبرة ثقيلة، التذاكر، وأظهر لي بطاقة هويته بسرعة (لم يكن لدي أي فرصة لرؤية اسمه، فقط سجلت أنه طالب دراسات عليا)، وبعد ذلك، أثناء مغادرته، استدار وسألني عن ما كان اسمي. عندما أخبرته اسمي مرة أخرى تراجع وعاد إلى المكتب حيث كنت أقف وسألني من أين أنا. قلت شيئًا مثل أنا من مصر الآن، لكني كنت من فلسطين سابقًا. أضاء وجهه: قال أنا من فلسطين أيضا من يافا. كان إبراهيم يدرس مع فيليب حتي، وهو مهاجر لبناني أنشأ قسمًا رائدًا في “الدراسات الشرقية”، وهو ما يعني بشكل أساسي التاريخ والثقافة العربية. قدمني لطلاب الدراسات العليا العرب الآخرين في الجامعة، وفي وقت قصير جدا كان لدي مجموعة صغيرة من الأصدقاء الأكبر سنا الذين يمكنني التحدث معهم باللغة العربية وأستطيع معهم أن أندب الوجود الصهيوني في برينستون، والذي كان واضحًا بشكل خاص خلال أزمة السويس.
كلانا غادر برينستون عام 1957 -هو حاصل على درجة الدكتوراه، وأنا حاصل على درجة البكالوريوس- وعدت إلى مصر لمدة عام. رأيت إبراهيم وزوجته جانيت بانتظام في القاهرة، حيث كان يعمل في اليونسكو. في تلك المرحلة كان هناك القليل من الإشارات التي سوف تدلل فيما بعد على انخراطنا في الأنشطة السياسية التي كانت. انتقلت إلى كلية الدراسات العليا في هارفارد ورأيت عائلة أبو لغد أقل تكرارًا، وكنت أعرف أنهم عادوا إلى الولايات المتحدة لبدء حياتهم المهنية في التدريس.ثم ضربتنا صاعقة عام 1967، وبشكل غير متوقع، أرسل لي إبراهيم رسالة يسألني عما إذا كنت سأساهم في عدد خاص من جريدة العالم العربي، الخاصة بجامعة الدول العربية التي تنشر شهريًا في نيويورك، يحررها الضيف، ويقوم في البحث في مواضيع عن الحرب من منظور عربي. اغتنمت هذه الفرصة لألقي نظرة على صورة العرب في الإعلام والأدب الشعبي والتمثيلات الثقافية التي تعود إلى العصور الوسطى. كان هذا هو أصل كتابي الاستشراق الذي أهديته لجانيت وإبراهيم عند نشره.
في السنوات التي تلت ذلك، وعلى الرغم من أن أبو لغد وعائلته عاشوا في شيكاغو وكنت في نيويورك، لكن السياسة قربت من أوصالنا أصبحنا أكثر قربا لبعضنا. شهدنا في الكونجرس معا، والتقينا مع جورج شولتز في عام 1988، وأنشأنا معهد الدراسات العربية في بوسطن، وأنشأنا مجلة فصلية للدراسات العربية وحضرنا معا جلسات المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة وعمان والجزائر. خلال تلك السنوات من النشاط الهائل، أظهر إبراهيم عبقرية في اكتشاف الأفراد الموهوبين في الولايات المتحدة والعالم العربي، الذين قدمهم لبعضهم البعض وساعدهم على العمل معًا. في حزيران عام 1982، بعد أن أمضى عاماً في باريس، انتقل إلى بيروت لتأسيس الجامعة الفلسطينية المفتوحة، التي عمل فيها مع اليونسكو ومنظمة التحرير الفلسطينية. بعد يومين من وصوله، اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان، وبعد ذلك مباشرة، دمر شقته الجديدة بصاروخ إسرائيلي. وقد أمضى الشهرين اللاحقين محاصرا في بيروت، ويعيش في منزل والدتي مع صديقه المقرب سهيل مياري. تواصلنا مع بعضنا البعض خلال تلك الأسابيع الصعبة بشكل منتظم، معظم الوقت بناء على طلب عرفات، الذي استخدم عددًا من الأشخاص، بمن فيهم أنا، كوسيط مع الإدارة الأمريكية.
ربما كانت بيروت تجربة أكثر أهمية بالنسبة لإبراهيم من أي وقت قبل أو حتى بعد. لقد علمته قبل أي شيء أنه حتى أفضل المؤسسات يمكن أن تصل إلى مرحلة من الحضيض نتيجة عدم الاستقرار وبهيمية السياسة والذي يؤثر بالسلب على المجتمع في الشرق الأوسط. ثانيًا، علمته الديناميكيات الحقيقية للسلطة، من حيث تأثيرها على من يمتلكها ومن لا يمتلكها. ثالثًا، وربما الأكثر أهمية، علمته أنه يمكن للمرء أن يواصل العمل والاستمرار دائما، على الرغم من أن الفشل يلوح في الأفق. كان هذا هو إبراهيم الحقيقي: الرجل الذي فهم أن الشيء الأهم هو مواصلة العمل والاستمرار، واستطاع أن يبقى متفائلًا ومخلصًا لرفاقه (ودفع روح الدعابة إلى أقصى حد، مهما كانت مروعة).
في كثير من الأحيان كان يقول لي: نحن نعمل بمتوسط متواضع جدا يا إدوارد، عادي جدا، وفي النهاية ربما هذا المتوسط هو ما سيهزم الإسرائيليين، بكل تألقهم. لكنه كان يضيف دائمًا: نحن شعب صالح، وعنيد أيضًا، حتى لو لم نكن دائمًا أذكياء جدًا. ما أزعجه كثيراً في أوسلو هو حجم الإهانات التي طالت الفلسطينيين جميعا. لقد أزعجنا موقف عرفات البغيض والمثير للقلق كلانا بشكل كبير، وشعرنا بالخجل الشديد لامتثالنا إليه قبل أوسلو. أراد إبراهيم، على خلاف لي، أن يعود إلى فلسطين التي شكلتها أوسلو وجزأتها بمنأى عن الإسرائيليين – المنطقة أ – وهناك غرس نفسه من جديد وحث وزملاءه وطلابه على العمل.
يؤمن إبراهيم بالمعايير الفكرية والعلمية سواء في الثقافة العربية أو في الغرب. كان يشعر ببهجة كبيرة عندما كان يقابل شخصًا يجد فيه مستقبلا واعدًا أو موهبة حقيقية، لأنه لا يتنازل عن فرصة لاستخراج أي قدرات كامنة ودفعها للتألق. هناك الكثير من الناس -أنا واحد منهم- ممن تم اكتشافهم وتقديرهم من ثم تجنيدهم في صفوف العمل مع إبراهيم. كان من أروع من يشجعك ويحثك ويحميك كأنه الجهة الراعية لوجودك. لم يكن هناك شيء يشبه إطراءه (“لقد كنت رائعًا”)، ولم يكن هناك شيء يقف أمامه عندما يصف شخص ما (“إنه أحمق”، “jerk” لافظاً حرف الجيم بلكنة أهل مدينة يافا). كأستاذ ومعلم، كان ممزقا بين الرغبة في التأثير والسيطرة، والرغبة في أن تسود المساواة. وبصفته أبًا لثلاث بنات متميزات وزوجًا لباحثة متميزة جدا، كان أكثر تسامحًا وعطفا مع النساء مما هو طبيعي بالنسبة لرجل من أصول عربية، أو حتى لرجل غربي. حتى عندما كان يتصرف بنوع من الأبويًة، كانت يتمتع بميزة أخوية في علاقاته للمراقبة عن بعد، ونادراً ما كان يتجسد لديك أي إحساس بأنه مستبد، على الرغم من أنه يمكن أن يؤثر بطريقة استبدادية، عادةً لغرض جيد جدًا. كان وراء هذا اليقين الصاخب لديه رقة قلب غامرة.
مثل الكثير منا، لم يتعاف إبراهيم أبدًا من حقيقة خسارة فلسطين، وقد بنت فيه أيامه الأولى كلاجئ ندبة ثابتة لا تمحى. كانت ذكريات ذلك الوقت، على الرغم من عدم بوحها صراحة أبدًا، تبدو دائمًا جزءًا من غضبه من إسرائيل. حيث أدرك أن معركتنا ستكون طويلة ومعقدة ولن تكسبنا تقرير المصير في حياتنا الآنية. بطريقة أو بأخرى، “فلسطين الجديدة” -عنوان مجموعته الأكثر شهرة من المقالات- هي بمثابة تعبير ملطف عن حقيقة سرقة البلاد من قبل الصهيونية، حيث كان هذا العنوان الأكثر بروزا ضمن كل كتاباته خلال حياته، لكنه لم يكن مناضلاً بلا عقل، بل كان مثقفاً مستقلاً، وناقداً حاداً بشدة. على الرغم من حقيقة أنه كان يعمل دائمًا مهنيًا وشخصيًا من أجل القضية، لم يكن بإمكانك وصفه بأنه محترف أو متخصص في مجال معين. كان هاويًا حقيقيا، مدفوعًا بالحب والالتزام.
عرّفني إبراهيم على فلسطين كموضوع وكتجربة معاشة. كان يكبرني بسبع سنوات، ومعرفته في فترة حياة فلسطين الانتدابية راسخة في وجدانه بشكل أثار في نفسي وفي كثير ممن حوله الرغبة في استعادة ذكرياتنا المدفونة منذ أيامنا الأولى، قبل أن تغير النكبة كل شيء. كان لديه معرفة هائلة ومتراكمة بشكل واضح ومفصلي لتاريخنا، بالإضافة إلى ذاكرة حية عن المكان وكل ما ينتمي إليه من أشخاص أو أشياء، أين ذهبوا، وأين يعيشون الآن أو عندما اختفوا.
لا بد أن يافا كانت مكانًا رائعًا في الأربعينيات. حيث كانت مدرسة إبراهيم، العمارية، قد أنتجت مجموعة مذهلة من المراهقين، الذين ذهبوا كلاجئين ليعيشوا حياة مميزة كنشطاء وعلماء ورجال أعمال. قدمني إبراهيم لهؤلاء الناس وأصبحوا أصدقاء مقربين بالنسبة لي. من بينهم صديقه الشجاع بكلمته، متحدث منظمة التحرير الفلسطينية شفيق الحوت، الذي لم يترك عمله في بيروت، حتى أثناء الاحتلال الإسرائيلي للمدينة في خريف عام 1982، لكنه استقال من اللجنة التنفيذية نتيجة لخلاف عميق مع عرفات حول أوسلو، وعبد المحسن القطان، وهو رجل أعمال ناجح، أنفق معظم ثروته في مساعدة الفلسطينيين على بناء المؤسسات، ومثل شفيق وإبراهيم، كان عبد المحسن كذلك ينتقد صراحة أوسلو.
حافظ إبراهيم دوما على الاضطلاع عن كثب على خط سير حياة أصدقائه بحماس مؤرخ من العصور الوسطى. في اجتماعات المجلس الوطني، أو خلال التجمعات في جمعية الرفاه، كان يعرّفني على دائرة دائمة التوسع من الفلسطينيين، الذين يمكن أن نكتسب من قصص حيواتهم، في ظل حرج طفيف للأفراد أنفسهم، قدر كبير من المعرفة والعظة المستفادة عن فلسطين. حصل المعلمون والمحامون والباحثون وموظفو البنوك والمهندسون على تقدير عميق منه باعتبارهم جزء لا يتجزأ من قصة فلسطين. يمكنك أن تلمس تعزيزه لوجودهم كلما تعمقت أكثر في قصة حياته، حيث تبرز سمته الكونرادية(١) الأخرى وتعطي عمقًا لكل ما كان يقوله.
يعود الفضل لإبراهيم بأن قاد العرب المقيمين في أمريكا إلى التعرف إلى عالم من نضالات التحرر الوطني وسياسات ما بعد الاستعمار. بعيدًا عن كونه قوميًا فلسطينيًا إقليميًا، كان لديه منظور واسع يغديه بطموح يحسد عليه لرؤية العالم . كان يتحدث بإدراك واسع عن الأماكن التي لم أفكر يوما في الذهاب إليها، بما في ذلك البيرو والصين وروسيا. كان يحب أن يعيش في المدن الكبرى وغالبًا ما يقضي بعض الوقت في باريس والقاهرة وشيكاغو. الأهم من ذلك، كان يقظًا لإمكانيات -وحدود- قدرة الناس على المساعدة في قضية فلسطين. وقد سبقني كثيرا في فهمه، على سبيل المثال، أن سي. ل. آر جيمس نفسه كان يتعامل معه كغربي، ولم يكن من السهل التعرف عليه كشخص ينحدر من أصول عربية.
وكان، على نفس المنوال، بصفته مديرًا لبرنامج الدراسات الأفريقية بجامعة نورث وسترن، لديه معرفة مذهلة بحركات التحرر في إفريقيا، التي عرف العديد من قادتها وقام بدعوتهم للحضور إلى جامعة نورث وسترن. لقد كان الأكثر وعيا وبراعة في وقته في تقدير شخصيات مثل أميلكار كابرال(٢) وأوليفر تامبو(٣)، وفي تقييم حركاتهم ونوع الاستعمار أو نظام القمع الذي قاتلوا ضده، حيث كان يحاول دائما أن يوحد بين أوجه النضال بالتوازي مع الوضع في فلسطين. من خلاله أيضا استطاع المرء أن يتعرف إلى شخصيات عظيمة في الخطاب القومي العربي، مثل محمد حسنين هيكل ومنيف الرزاز.
وبفضل إبراهيم، التقيت في عام 1970 لأول مرة بإقبال أحمد، الرفيق الثاني في ميدان النضال والذي تركني موته المفاجئ في حالة مضنية من العزلة والانكماش على الذات. مثل إبراهيم، كان إقبال (وأستعير واحدة من أرقى كلمات إبراهيم في المديح)، رجل “أصيل”، يتمتع بذات القدر من البلاغة التي لا تنتهي ويستخدمها بلا كلل. كان الجلوس في وقت متأخر من الليل مع كليهما يتركني في حالة من الهدوء والسكينة، حيث كانوا يمارسون مهاراتهم في تفكيك النصوص الطويلة، وتبادل التحليلات الغنية وحتى التحليلات الغامضة، وهي جلسة لم تكن خالية تمامًا من الحماس التنافسي. لم يكن أي من هذين المعلمين لي بخيلًا علي في وقته، ولم يكن أي منهما -ربما لذات السبب- مهتمًا كثيرًا بأي خلل نسبي في الطباعة. كانوا بمثابة المصممون للكلمة المنطوقة، متعددة اللغات، سخية بالأفكار والقصص، لقد عانقوني أثناء مرضي برحابة يمنعني الحرج من ذكرها هنا. ما يزعجني أنهم فارقوا الحياة قبلي وأمام ناظري. لماذا الآن، وفي وقت كانت أصواتهم ستقول الكثير وتنذر بأهمية الجانب الإنساني في كل ما نسعى إليه.
بالكتابة عن إقبال في وقت وفاته قبل عامين، والآن عن إبراهيم، كنت أجد صعوبة في سرد إنجازاتهم الأساسية. ترك كلا الرجلين انطباعًا دائمًا على كل من التقيا به، لا يمكن لمجموعة من الأعمال أن تجسد جوهر أثرهم، فهو أثر متناثر على العديد من المؤسسات والمجموعات والجمعيات والأسر، والتي تغيرت جميعها بشكل واضح وعفوي، بطبيعة هؤلاء الرجال وإنجازاتهم.
عاد كلاهما إلى بلديهما الأصليين لقضاء ما تبقى من عمرهم هناك: إقبال، الذي ينحدر من مدينة بيهار عاد ليستقر في إسلام أباد. أما إبراهيم فهو من مدينة يافا، لكنه عاد ليستقر في رام الله. ولم يعودوا إلى مواطنهم. وفي محاولة لالتقاط الذاكرة التي تجمعني بهم، لا بد للمرء يحصرها ويثبتها، وبهذا المعنى يخونها: فما يمثله هؤلاء الرجال هو الطاقة والمرونة وحب الاكتشاف والمجازفة. أعتقد أن إبراهيم سيظل في القصة اللامتناهية السرد عن فلسطين نموذجًا لما تم تكريسه كفكرة لا تنحني، بل تحيا، وتعاش باستمرار. ولفهم ماهية إبراهيم بشكل صحيح لا بد من إعادة تمثيل دراما النضال وفهم الأصل الذي انحدرت منه، ليس من خلال تقليده ولكن من خلال إعادة إحياء خبراته والاستلهام منها، وبذلك، جعلها ميدانا مشرعا للمراجعة المستقبلية والتفكير النقدي.
هوامش