يعتمد سكارميتا في «عرس الشاعر» الذي يتناول فيه سيرة جدّه الذي هاجر من جزيرة ماليسيا النائية والفقيرة، بين اليونان وإيطاليا، ليبحث عن مكان إقامة له في تشيلي، بناءً فنيّاً حيويّا متوتّراً لقصّ روايته، فقد قسّمها إلى أربعين فصلاً، كلّ واحد منها لا يتجاوز ثماني صفحات تقريبا أو أقلّ، بحيث ينتقل القارئ من قسم إلى آخر دون أن يغرق في سرد طويل متواصل يمتدّ لعشرات الصفحات، ودون أن يلتزم الروائيُّ غالباً بتسلسل الأحداث وتتابعها، وهذا ما يسمح للروائيّ بالاستئناف مع شخصيّة أخرى أو حدث آخر في الرواية مع بداية كل قسم، ويمكّنه من تأجيج فضول القارئ الذي سيجد تكملة لقصص الشخصيّات في الصفحات اللاحقة.
بهذا يُبقي الروائيُّ القارئ معلّقا ومتعلّقا بما يأتي، أما السرد الروائيّ هنا، فهو سرد ثريّ وجميل ومتعدّد المستويات، يصف الأشياء والمشاعر بدقّة ووضوح ويوظّف استعارات أدبيّة خاطفة وكثيفة ومثيرة للسخريّة بشكل لا يقوى أكثر القرّاء عبوسا على عدم إفلات ضحكة هنا وهناك عند تنقّله بين صفحات الرواية. وتعدّد مستويات السرد يتّضح من خلال توظيف الحوارات الغنيّة والكاشفة بين شخصيّات الرواية التي تجمعها الأقدار رغم اختلاف ثقافاتها أو طبقاتها الاجتماعيّة أو سماتها الشخصيّة ليبدو اللقاء أحيانا وكأنّه تصادم شخصيّات أكثر منه تقاطعاً بينها. ويتخلّل السرد أيضاً رسائل وقصائد شعر ووثائق تاريخيّة ومقالات صحفيّة ووصايا قبل الموت. ويوظّف هذه النصوص والوثائق التاريخيّة والشخصيّة بسلاسة في متن السرد. وهذا ما يجعل من السرد نفسه ثريّاً، مثيراً ونابضاً بحياة الشخصيّات وقصصها وأصواتها.
لكن يبدو أنّ جوهر هذا العمل الأدبيّ الرفيع وما يميّزه يكمن في قدرة الروائي على حشر شخصيّات الرواية في مواقف محرجة كاشفة، ومهارته في وضعها داخل سياقات مناقضة تماماً لما تمثّله أو تدّعيه أو تُؤمن به. فنرى الخوريّ الذي يدعو لإنشاء مواخير في قرية “جيما” خلال حواره مع جيرونيمو البوهيميّ النمساويّ الثريّ صاحب المتجر الأوروبيّ.
الدافع وراء هذا الاقتراح هو زيادة عدد المذنبين والزائرين لهذه القرية النائية التي لا تُعتبر مزاراً، أو مكاناً ذي شأن، ولا يعبأ بوجودها غير النمسا التي تريد أن تفرض سيطرتها عليها قبل نشوء الحرب العالميّة الأولى. وبالمثل يجد استيبان، ابن القرية، الرقيق الشاعريّ الإنسانيّ نفسه في موقف يستدعي منه قتل شاب يبدو بريئا رغم ارتدائه الثياب العسكريّة النمساويّة. ويخوض إستيبان لأجل ذلك صراعاً نفسيّاً مريراً بين إثبات رجولته وشجاعته أمام الآخرين وبين أن يكون مخلصاً لطبيعته الإنسانيّة الرقيقة التي تمنعه من ذلك. حتى جيرينمو المغامر الذي تخلّى عن كلّ شيء للمجيء إلى هذه القرية العزلاء التي نسيتها رحمة الربّ يفاجئنا في لحظة بشتائمه التي تتدفق في مونولوج داخليّ ضد شباب القرية البربرييْن الذين يريدون سرقة حلمه الذي ضحّى من أجله عشر سنين من الانتظار ليسيطروا على سفينة أحلامه التي أعدّها لعرسه من آليا إيمار، البنت الأجمل في الجزيرة، والذهاب بها إلى نيويورك التي وصفها أحدهم بأنها: ” مدينة تنمو فيها بدل الأشجار عمارات شاهقة جداً إلى حدّ أنّ صعود أدراجها يتطلب ثلاثة أيام بلياليها. وقد تمكّنت سيدة من الصعود إلى قمّة أعلى ناطحات السحاب تلك وعادت بعد ثلاثة أشهر لتقول إنّها جلست إلى يمين الرب” (ص. 9). تسفر حادثة مصادرة السفينة هذه عن مشهد سرياليّ، وهو سفينة أنيقة ملكيّة معدّة لطقوس عرس بهيج يركبها جماعة من المقاتلين البرابرة الذين تشمّ رائحتهم من بعد.
من خلال هذه الأمثلة الثلاثة نرى كيف يضع الروائيّ شخصيّاته، مهما كانت خيّرة أو شريرة، في سياق مناقض لها كليّاً. ومهارة الروائيّ هنا هي في قدرته على رسم الأحداث ودفعها إلى لحظة الذروة من خلال خلق سياقات مفاجئة للشخصيّة نفسها وللقارئ ذاته. وهي مهارة عالية وإتقان باهر وخفّة يد في رسم الحبكات لا يجاريه بها إلا سارق حميميّات محترف. لذا تبدو الرواية كأنها بلا مركز واحد، بل بعدّة مراكز أو ذرى متسلسلة ومتتابعة يركض القارئ متلهفا خلفها بين صفحة وأخرى. فالروائيّ قادر على دفع الأحداث وحياكتها بشكل تصاعديّ بين فترة وأخرى، كأنّها سلسلة من القمم الهرميّة المتتابعة والمتلاحقة. ولا تخلو أيّ شخصيّة لعبت دوراً في هذه الرواية من تناقض ما، ولم تسلم أيّ شخصيّة أيضاً من سوء أو مصيبة.
التساؤل الاوّل الذي يسيّطر على ذهن القارئ من مجرّد قراءته لعنوان الرواية “عرس الشاعر” هو عن ماهيّة هذا العرس، ومَنْ هي العروس ومَنْ هو الشاعر، وماذا جرى في هذا العرس ليستحق عنواناً للرواية. إنه السؤال اللاواعي الأوّل الذي يتكوّن في ذهن القارئ بشكل تلقائيّ. لكنه حين يشرعُ في قراءة الرواية سيجرفه جمال السرد وسيتنقّل بمتعة ورشاقة بين تناقضات الشخصيّات وردود أفعالها المثير للتهكّم والسخريّة. وتصل تجليّات الواقع وانعكاسه على حياة الشخصيّات حدّاً عالياً من الغرائبيّة في بعض المواقف. لذا فمن الصعب أمام ثراء الخيال هذا في الرواية عدم التفكير بأسلوب الواقعيّة السحريّة التي يمتاز بها كتّاب أمريكا اللاتينيّة. فالمفارقة المذهلة هي أنّه رغم أنّ الحديث هنا يدور عن قرية منسيّة على هامش التاريخ إلا أنّها أصبحت بمهارة الروائي مادة لصور عجيبة غريبة تهكميّة ولاذعة. فهو يستفيد من كلّ حدث وكلّ سمة شخصيّة ليحيك منها حبكة روائية في خضم السرد. لذا يتحكم بذكاء ومهارة في فوضى الأحداث التي تؤسّس وتشكّل الزمان والمكان السِيادييْن في الرواية.
المثير كذلك أن ّهذه الرواية التي تُرجمت إلى عشرات اللغات في العالم ونالت نجاحاً عالميّاً، قائمة على فرضيّة أنّ هذه القرية والجزيرة ككلّ منطقة منسية لا حضارة تسند تراثها، فعملتها النقديّة غير مُستعملة في أيّ مكان آخر خارج الجزيرة، ومن الصعب إيجاد قاموس للغتها الماليسيّة بأيّ لغة أخرى كالإيطاليّة أو النمساويّة في بلد آخر، وهامشيّة أبنائها الذين “لم يكن لديهم أيّ رأسمال سوى السذاجة” جعلتْ السيّدة القنصل تُصدر لهم “جواز سفر جماعيّ” يشمل عشرةَ أشخاص أو أكثر مع أنّهم حتى ليسوا من عائلة واحدة. ومع هذا فإنّ الرواية تنفي الفرضيّة التي قام عليها محور العمل الروائيّ ذاته : وهي أنّ الرواية التي كرّسها الروائيّ عن بلد ناءٍ بلا تاريخ، تحتشد بكم كبير من قصص الناس وأساطيرهم وحاضرهم وماضيهم. وهذا يعكس مدى مهارة هذا الروائيّ الذي يقيم عمله الأدبيّ على فرضيّة بينما العمل الروائيّ بمجمله يشكّل تفنيداً لها.
وتعرضُ لنا الرواية من جانب آخر السياق التاريخيّ لبداية القرن العشرين في أوروبا والنظرة الكولونياليّة الاستعماريّة لدول أوروبا تجاه دول الجنوب. والرواية تعود إلى جذور المنفى، وتفكّك السياق الذي حمل سلالة من المهاجرين إلى ترك بلدهم الأصليّ، وتكشف عن الظرفين الاقتصاديّ والسياسيّ اللذين غيّرا وجه الجزيرة وأقدار سكّانها. وتتناول العلاقة بين السيرة الشخصيّة والأحداث التاريخيّة وتداخلها وانعكاسها على بعضها البعض، وهي ثيمة أثيرة لدى الروائيّ التشيليّ. وتقدّم لنا صوراً مختلفة للوطن لدى شخصيّات في صراع بين البقاء والهروب.
آليا إيمار التي وعدها جيرينمو بحملها بعد الزواج على سفينته إلى نيويورك، هكذا ترى جزيرتها في سياق مونولج داخلي: “إنها تعرف كلّ بيت، والكثير من أثاث الصالونات، والشهور المشطوبة في التقاويم، وأسرّة الحديد البيضاء في المستشفى، والشقوق التي في قاعة المدرسة، وحمّامات أشقاء صديقاتها الصغار، وعشّ غربان البحر، والميزان الألمانيّ حيث يزنون في هذه اللحظات بالذات الخبز لكي يوزعوه من بيت إلى بيت على دراجة ذات ثلاث عجلات، وهي تعرف كلّ قائمة الأغاني التي يترنّم بتصفيرها شبّان الساحة، والتوريات التي يوجّهها إليها بالإجماع المعجبون بردفها وكاحليها، والرجال الذين يتحرّقون عارضين عليها لحس صواني أذنيها، بل وكعبيها كذلك، بلعاب مفرقع ومنوي. أتكون هذه الحفنة من الصغائر هي الوطن ؟” (ص. 78).
هذه الرواية التاريخيّة التي تروي سيرة سلالة الكاتب الشخصيّة والتي لاقت نجاحا عالميّا صادرة عن “دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع”، بترجمة من صالح العلمانيّ، والتي صدرت طبعتها الأولى عام 2000، لتصدر في العام 2014 طبعتها الثانية. والكاتب التشيلي أنطونيو سكارميتا عمل أيضا ككاتب سيناريو ومخرجاً وأستاذاً جامعيّاً. وقد درس الأدب والفلسفة في نيويورك. والرواية تؤكّد لنا أننا أمام كاتب ذي ثقافة واسعة، وقد ظهر هذا في تنوّع الشخصيّات وخلفيّاتها التي تأتي من حقول معرفيّة متعدّدة. وفي نهاية هذه القراءة، أعود إلى بداية الرواية، فقد استهل الروائيّ عمله باقتباس يذكّر فيه أنّ سكّان هذه الجزيرة ثاروا على الإمبراطور الرومانيّ الذي كان يحكم هذه الجزيرة قديما لأنه فرض عليهم التجنيد. وهو نفس السبب الذي يرغب فيه سكّان الجزيرة، بعد ألفيّ عام تقريبا، الثورة على النمساويين الذي يفرضون سيطرتهم بالقوّة على الجزيرة. وهذا إشارة من الكاتب إلا أنّ التاريخ في بعض الأماكن من العالم لا يملّ من تكرير نفسه!