(1)
حسنًا، ها أنا أعود للكتابة عن نفس الموضوع للمرة الثالثة، أو لا أذكر عدد المرات، بقدر ما أتذكر ضيقي وأنا أكتب هذا النص الاعترافي!
من أين ينبع هذا الضيق؟
(2)
عن “الكتابة” باعتبارها “نهي عن الكتابة”، أو مدخل إلى رمّان كـ”لاكتابة”:
في الكتابة عن الكتابة تحضرني نماذج تثير الانتباه بقدر ما تثير الاستغراب؛ كابن زريق البغدادي/ الذي هاجر من بغداد إلى الأندلس، رغبة في إنتاجٍ شعريٍ يدر عليه هباتٍ سلطانية، بينما سكن أبو العلاء المعري بيته واعتزل عالمه ليدخل مجازاته الكتابية، كلاهما اندفع بالكتابة إلى “رؤية ما لا يرى” بتعبير الجرجاني.
من هنا تنبثق رؤيتي عن الكتابة كموضوع، وتجربة الكتابة في “رمّان” كتجربة، لا بوسم المديح فيهما، في عصر الكتابة والحرف والأثير الأزرق، إنما بقصد تعرية العنف الكامن في الكتابة والعين، والرؤية، والحفر في كل ما لم يكتب بعد في جسد المكتوب.
فإن أقر مديح الكتابة أن “النقصان هو أصل المعرفة” إلا أنه لا يقر بالنقصان كممارسة ووجود، له مواريث من الألم والقسوة، ولعل النفري في علاقاته بالكتابة لهو أفضل دليلٍ يقدم لنا خرائط الكتابة وأصواتها وهواجسها.
يقول جيل دولوز: “لا ينبغي البحث عما إذا كانت فكرة ما صادقة أو صائبة. وربما يلزم البحث خارجًا وفي مجال آخر، عن فكرة أخرى مغايرة، بحيث يسير بين الفكرتين شيء ما، لا هو في إحداها ولا هو في الأخرى”، هذا هو النقصان في الكتابة. تلك الإزاحات التي تستدعيها الكتابة لتقع، ما يجعل الكتابة في حد ذاتها كيانًا منفصلًا عن مضمونها من حيث هي عملية بنيوية لها اقتصادها السياسي.
يقول النفري في “المواقف والمخاطبات”، وتحديدًا في “موقف الأمر”: “وقال لي: أكتب من أنت لتعرف من أنت، فإن لم تعرف من أنت فما أنت من أهل معرفتي”، في هذا الأمر المقدس بالكتابة، اقتراب الأنا الكاتبة من الإلهي المطلق، على شكل ممارسة هوياتية تستجلي الأنا، لتنطلق من “من هو” لتصل إلى “من أنت”، بين محرابين في الـ”نحن”؛ كلحظة كتابية، لكن هل تحقق تلك اللحظة الكتابة اتحادًا “مثنويًا” -من مثنى- بين الإثنين؟
لا نظن!
فالكتابة هنا ترسيم حدود الأنا/الذات الكاتبة. وديمومة الكتابة هاهنا تنطلق من ديمومة الالتباس، فالالتباس في الهوية هو أصلها، ولا تمام له، وإلا ما التبس، وعليه لا نهاية للكتابة عنه، وعن أناه، وآخره.
أشار النفري أن الـ”أنا” في الغيبة تغدو، وفي الرؤية “أنت”.
ابن زريق ارتحل من أناه إلى “أنت” أخرى بعيدة في المكان، والمعري استحضر المكان إلى “أنا”ه، وهذان الدربان المتوازيان متماهيان في المكان على اتساعه، إلا أنهما يذكراننا ببداوتنا العربية، ومدائحها في عدم الطمأنينة إلى مكانٍ ما -مديني-، وأن الارتحال أصل الوجود، وأن الـ”أنا” هي المكان الأول، والكتابة -أي كتابة- ما لم تؤسس للارتحال بالمعنى البدوي الصحراوي الموسوم بالندية مع المكان والاستقرار، فلا معنى لها، إنما هي موت وجرد.
إذن الكتابة حركة بشكلٍ ما تتوسم حدود الجسد كمكان ممكن أولي، وحدود المكان كممكن ثانٍ!
لكن النفري يشير في “موقف ما لا ينقال”: “وقال لي: لا تزال تكتب ما دمت تحسب، فإذا لم تحسب لم تكتب. وقال لي: إذا لم تحسب ولم تكتب، ضربت لك بسهمٍ في الأمية، لأن النبي الأمي لا يكتب ولا يحسب. وقال لي: لا تكتب ولا تهم ولا تحسب ولا تطالع”. هنا تكمن لعبة الثنائيات، وفي نفس الوقت هدمها بفضاء ثالث؛ فالأمر الإلهي بعدم الكتابة، تحقق لنا ووصلنا بفعل الكتابة، أي أن قوله أمرًا “لا تكتب” وقع منجزًا في الكتابة، أي أن النهي عن الكتابة هاهنا لا يتحقق إلا من خلال الكتابة.
في هذه اللحظة يصبح الفعل الكتابي موضوعًا لنفسه، منفصلًا عن مضمون الكتابة ذاتها، الحاصل/الواقع في نفس اللحظة معه. في هذه اللحظة -أيضًا- فتح النفري بابًا لتأمل الكتابة ككتابة، وسؤالها عن موقعها من الذات الكاتبه والموضوع المتضمن في الكتابة.
نخلص إلى أن النفري يقر الكتابة وينهانا عنها بالمزيد منها إيغالًا في فصلها عن مضمونها، وإيقاعها فعلًا وموضوعًا لذاتها. فالنهي عن الكتابة يفضي إليها، هذه العلاقة لا تحدث دون ألم من هدم وبناء -يتدخل جان جاك لوسكرل، من بعيد مناديًا على عنف اللغة- هنا فقط تصبح الكتابة مصدرًا أساسيًا للنقصان، فبقدر ما نكتبـ(نا) نمحو(نا)، وبالتالي المعرفة.
بين هذين النقيضين، يحدث فعل الكتابة، أو بشكلٍ أدق؛ نرنو إلى القول: أن كل كتابة تتضمن أمرًا بألا نكتب، أو محوًا (ما).
ألا نكتب في الكتابة، أي أثناء فعل الكتابة ذاته، ماذا نمحو؟ أو كما يقول موريس بلانشو “ألا نكتب ونحن نكتب”. هنا تتبدى فرادة الكتابة كتجربة ذاتية، لا بما هي كتابة ذات، بل بما هي كتابة لطمس/محو الذات، أو هدمها، ومن هنا أيضًا يتبدى مكون الألم في الكتابة.
بالحفر قليلًا في هذا التناقض بين “الكتابة واللاكتابة في الكتابة”، أو في ما لا نكتبه حين نكتب، نجد ما يرنو إليه موريس بلانشو: “لا نفي في ألا نكتب”، وتلك هي المقاربة الأولى من إثنتين لدى بلانشو، أمّا الثانية فهي عن الكاتب/ة حين “لا يكتب” فيما يكتب، ومعيارياته الذاتية والجمعية، ولنبدأ بالأولى:
1. “لا نفي في ألا نكتب”:
في الانصياع إلى النهي عن الكتابة بالكتابة، تحدث الإضاءة على مجهول فعل الكتابة في ذاته. يظهر الانصياع هاهنا باعتباره النص المخفي كتابة في الحاضر من النص المكتوب. وهو انصياع يحدث في عتمة المكتوب/الكتابة، فالذات والزمن هما الفاعلين الأساسيين في هذا الإنصياع، وهذه الذات تحديدًا بـ”لا كتابتها” في العتمة، هي التي دفعت ببلانشو للرد على ليفنانس بأن الكتابة “ذاتية بلا ذات”، وهو ما يخالف التصورات الغنائية عن الكتابة بأنها فعلٌ ذاتي مرهف الذاتية، وهذه الفرجة الخلالية هي التي منحت مدارس التحليل النفسي قدرتها التحليلية، وسلبتها في آن، ولعل مقاربة جاك بوفريس للـ”القول والقول الذي لا يقول شيئًا: اللامنطق والاستحالة واللامعنى”، أحد تجلياتها.
2. الكاتب ليس جمعًا في مفرد وحسب:
وتلك مقاربة موريس بلانشو، فالكتابة لحظة تنفي غيرها، والكاتب عليه أن يهادن أصواتٍ ونداءات تتعدد في داخله، حتى أنها تلغي ذاتيته في أحيان عدة، في ما يشبه الفاجعة وكتابتها. وقد أشار بلانشو إلى بعضها بالقول:
“لن تكتب، ستبقى عدمًا، تحافظ على الصمت وتجهل الكلمات. فيما يعلن آخر: لا تعرف إلا الكلمات
-
أكتب لئلا تقول شيئًا
-
أكتب لتقول شيئًا
-
لا أثر لك، وإنما تجربتك الذاتية، معرفة ما تجهله.
-
أثر أثر واقعي مكتشف من قبل الآخرين وهام بالنسبة لهم
-
امح القارئ
-
امح ذاتك أمامه
-
أُكتب لتكون حقيقيًا
-
أكتب من أجل الحقيقة
-
كن كذبًا لأن الكتابة من منظور الحقيقة هي كتابة ما ليس حقيقيًا بعد، وربما ما لن يكون أبدًا.
-
مهما يكن، أكتب لتفعل
-
دع الحرية فيك تتكلم
تلك المراوحات كلها تهدم الذات وتستتبع استيلادها من هذا الهدم الثنائي.
إنها افتضاح لعبة التأليف ذاتها، لكن، وكما يقول نيتشه: “كل معنى هو إرادة قوة”، وبالتالي فالكتابة معركة على المعنى هي معركة قوى، مركبة، تتداخل في سياسات الذاكرة والنسيان، القول والصمت، الشفاهة والكتابة، الحضور والغياب، لعل جامعهم كلهم هو: العنف.
صحيح أن “اللغة هي جسد قبل أن تكون ممارسة” (جان جاك لوسكرل) وأن عنف اللغة حادث بما هي جسد يخترق جسدًا، في مجازات كقولنا “اخترقني ما قرأت” (لوسكرل ثانيةً!)، ولعل الإثارة الجنسية الواقعة في بعضٍ مما يكتب وكم العنف المتولد من الشهادات الشخصية بعد المعاناة (Post Traumatic).
(مثال يحضرني بقوة في ما يتعلق بشهادات ضحايا العنف الجنسي والتحرش والاغتصاب؛ فبقدر ما يخترقنا عنف كتابة الشهادة/التجربة وتوثيقها، بقدر ما يخترقنا على غير وعي منا بهذا العنف والاختراق ما لم يذكر/يكتب من هذه الشهادة/التجربة، وهو نفس مقدار الألم الواقع على جلد/جسد الضحية وأجسادنا كمتلقين، ومن هنا مصداقية شهادات الضحايا دون الحاجة للتحقق منها، وعليه أعتقد أن أمامنا جميعًا سؤال يتثاقل عن حجم الألم المكتوب صمتًا/فراغًا في كل نص نكتبه/يكتبنا)
(3)
كانت الفكرة من “رمان” أنها، ككتابة، حققت لي بداوة الحركة ومدينيتها، وكذلك اتسعت لأصواتي المتعددة الحادثة في فعل الكتابة، كما أشار علينا بلانشو.
لكن ثمة ما هو أكثر من ذلك في ما يتعلق “برمّان”؛ ألا وهي حركيّة “رمان” في ذاتها. “فرمان” التي تماهت مع الفلسطينيين والفلسطينيات من حيث لا مكانيتهم، أو في بداوتهم/ن الحداثية، باسم الحداثة الإسرائيلية الاحتلالية. “رمان” ارتحلت وصولًا إلى باريس/فرنسا. لكن هذه الرحلة لم تكن من دون الانفتاح على بدو آخرين في عالمنا العربية، أو لنسمهم لاجئين ومهاجرين آخرين.
“رمان” باتت تمثلًا فعليًا لأمرين أساسيين:
أولًا: الحركة من حيث هي مصدر للمعرفة، أو تمثلًا لعبارة إدوارد سعيد البليغة “النظريات المسافرة”، والتي يتناول فيها الهجرة باعتبارها “براديغم” مهم في التفكير ونزع الاستعمار Decolonialism عن المعارف. عندما تناول سعيد التخوم باعتبارها فضاءات مقاومة، يمكننا القول إن تنقلات “رمان” دون خسرانها لموقفها الأخلاقي العادل تجاه القضية الفلسطينية، مكنّها من كسر العديد من نماذج الكتابة الثقافية والفكرية، التي غرقت في بحر الخطابة، وجفت مجازاتها ومقارباتها.
ثانيًا: صحيح أنّ إدوارد سعيد قدم الخاصية الأساسية للنزعة الكونية المتمركزة غربيًا، وهي فرض سياسات الصمت على من هم دونها/خارجها، فإن مركزية الصوت وتعدداته باتت أمرًا أساسيًا لمواجهة التحيز الغربي للمعارف وأشكال الكتابة. لكن الأمر في “رمان” يتعدى فكرة فرض الصوت إلى تعدده في الكتابة بين ما يكتب وما لا يكتب في تلك الكتابة. في “رمان” استطعت أن أرتحل من فضائي الأكاديمي البحثي إلى مقاربات متعددة وعابرة للتخصصات في آن.
أعتقد أن الكتابة من موقع متحرك (بدوي) بالمعنى المادي والمجازي، محققًا شكلًا ولو بسيطًا من أشكال “النظريات المسافرة”، قد ساهم على مستوى الهوية -بالنسبة لي- في حوار ذاتي العربية البدوية وأنا ابن السهل والبحر اليافاوي. “رمان” أتاحت لبداوتي العربية أن تتمدن دون أثمان الاغتراب المدينية، وأنا ابن القاهرة القاهرة. “رمان” أتاحت لي ولغيري فرصة الصوت في زمان تتعدد فيه أصوات الصمت بداية من البرميل المتفجر وصولًا إلى أصنام الأكاديميا الأبوية، وما بينهما.
(4)
في كل مادة كتبتها في “رمان” ثمة أنا أخرى تكتبني لم أنتهِ من حوارها بعد! ولم تتجلَّ لي كاملة بعد!
في كل مادة كتبتها في “رمان” ثمة صمت ما مكتوب، يشي بذاتٍ أخرى ليست لي!
لست ممن يمجدون الكتابة؛ بل هي بالنسبة لي عنف أوقعه على نفسي وأفكاري، وأخرج منه مهزومًا، إلا أن الكتابة في “رمان” فتحت لي بابًا جعل الكتابة موضوعة تأريخ لكل ما ليس لي مني ومن ثقافتي!