تحدّث ماركس ذات مرّة عن “شبح الشيوعية” الذي يجول في أوربّا العجوز، فعل ذلك مع رفيق دربه إنجلز في بيانهما الشيوعي المشترك في منتصف القرن التاسع عشر تقريباً. وقد يكون هذا الرفيق إيّاه هو من طلب من صاحب “إنجيل الطبقة العاملة- أي كتاب الرأسمال-” أن يوضّح موقفه من “المسألة اليهودية”، على الأقل من باب أنّ أبا كارل كان يهوديّاً ذات يوم، فكتب الرجل كتابه المعروف تحت الاسم نفسه. والمضمون العام للكتاب، وهو ما لا يمكن توقّع سواه من ذلك المؤلّف، هو أنّ التخلّص من الرأسمالية هو الحلّ الجذري لتلك المسألة. ولم يكن يخطر في بال الرجل أنّ هذا الربط بالذات بين المسألة اليهودية والرأسمالية هو ما سيجعل بعض مواطنيه الألمان يتّهمونه بالعداء للساميّة بعد قرن ونصف من نشر الكتاب.
لكنّنا يمكن أن نفهم ذلك إذا عرفنا أنّ تهمة اللاساميّة، أو العداء للساميّة، هي الشبح الجديد الذي يخافه كل سياسي أو مثقّف ألماني تقريباً. نقرأ هذا في كتاب جديد نسبيّاً لكاتب الماني-إسرائيلي اسمه موشيه تْسُكَّرمان. العنوان الدقيق لهذا الكتاب الذي صدر في خريف 2018 هو “اللاسامي في كل مكان”، وهذه الصياغة الساخرة تشي تقريباً بقصد المؤلّف، الذي سرعان ما واجه مصير سابقيه من المحذّرين من إساءة إستخدام تهمة العداء للساميّة للإجهاز على أعدائهم. تْسُكَّرمان هو مؤرّخ وفيلسوف ينتمي للقلّة التي مازالت مخلصة لآخر مدرسة فكرية كبرى في تاريخ المانيا الحديث “مدرسة فرانكفورت”. وهي مدرسة تنتهج الماركسية والتحليل النفسي كمرجعيّتين نظريّيتين كما نعلم. لذلك لن نستغرب تحليله للعلاقة المَرَضيّة ما بين السياسة الألمانية وإسرائيل. فهو يسمّيها “التعويض المُفرط” –Überkompensation-. وهو يعني بهذا أنّ الألمان يعوّضون عن تصفيتهم لليهود بطريقة باثولوجية.
بالنسبة لهذا المفكّر فالألمان لا يعرفون إسرائيل الواقعية، بل ويقاومون هذه المعرفة. إنّهم يخترعون إسرائيل مثالية في أذهانهم ويعاملونها على هذا الأساس. اليهودي في الأيديولوجيا الألمانية الجديدة هو ضحية محضة سابقاً وملاك محض حالياً. وهو يدعوهم إلى “صحوة عقلية” ويقول بكل بساطة: إنّكم تخلطون ما بين اليهود والصهيونية وإسرائيل. ومن ثمّة فهذا “العطل في جهاز التفكير” يُنتج خلطاً ما بين اللاسامية، ككراهية لليهود، ونقد الصهيونية ونقد السياسة الإسرائيلية. بل إنّ التطور الأسوأ لهذه “الحالة المرضيّة” أدّى إلى نوع من التماهي اللاشعوري للمثقّف الألماني باليهودي المتخيَّل من الناحية النفسية ومن ثمّة إلى تحوّل عجيب لبعض اليساريّين الألمان الذين كانوا يحاربون الإمبريالية بضراوة فأصبحوا يعتبرون النقد الموجّه إلى سياسات الولايات المتحدة، بل وحتّى نقد الرأسمالية نوعاً من اللاسامية، باعتبار أنّ اللاساميّين يربطون في بعض نظريّات المؤامرة ما بين اليهودي والرأسمالي والسياسة الأمريكية.
العربي عامّة والفلسطيني خاصّة يشعر بقوّة بوجود هذا الخطأ الذهني الغريب لدى شعب ينتمي إليه هيغل مثلاً صاحب التطوير الثاني والأخير للمنطق البشري بعد أرسطو، ويتساءل عن السبب الذي يجعل شعباً كهذا يسكت على العبث بسمعته العقلية في العالم.
لكنّ الفترة الأخيرة بدأت تشهد على ما يبدو “عودة الوعي” في المانيا الجيل التالي للحرب. ويبدو أنّ هذه “الصحوة” بدأت كردّ فعل على الغرور المعروف لنتنياهو. القصّة بدأت بأنّ هذا الأخير سلّم “قُصاصة” للمستشارة الألمانية ميركل في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2018، يطالب فيها بوقف أي دعم مالي لكلّ المنظمّات غير الحكومية ذات الصلة بحركة المقاطعة BDS –أي مقاطعة البضائع الإسرائيلية والمقاطعة الأكاديمية- وهذا يجب أن ينطبق أيضاً، بلغة نتانياهو، على مهرجان الأفلام العالمي السنوي الذي يقام في برلين Berlinale، الذي استضاف أفلاماً تنتقد السياسة الإسرائيلية. كما جاء أخيراً في “مذكّرة التأنيب” الصهيونية المذكورة أنّ المتحف اليهودي في برلين يعرض منذ سنة كاملة معرضاً يحمل لا الرواية الصهيونية فقط، بل والرواية الفلسطينية أيضاً للأحداث. وهذه طبعاً جريمة كبرى يجب ألاّ تتكرّر، وعلى الحكومة الألمانية، التي تموّل المتحف المذكور لا أن توقف هذه “الكارثة” فحسب، بل وأن ترجّح “التأثير اليهودي” –بلغة نتانياهو- على المتحف.
ما حدث فيما بعد يمكن تصنيفه إلى مستويين، المستوى السياسي الرسمي ومستوى المجتمع الأهلي. المستوى الأول خضع كلّياً لمطالب نتانياهو المذكورة ونفّذها جميعا تقريباً: البرلمان الالماني اتخذ قراراً باعتبار حركة المقاطعة BDS حركة معادية للسامية وعلى الحكومة وقف أي دعم مالي لها ولمن له صلة بها. وتمّ إحداث منصب مستشار دولة لشؤون معاداة الساميّة، وقام هذا المستشار بحرب ثقافية شعواء على ناقدي السياسة الإسرائيلية تشبه حملة “ماكارثي” سيئة الصيت في الولايات المتحدة. وكمثال على تلك الحملة سحب الدعوة من الباحث الفيلسوف “مبمبه Mbembe” لافتتاح مؤتمر علمي في المانيا، بحجّة أنّه وقّع ذات مرّة على بيان داعم لحركة المقاطعة. وطبعاً أعلن مدير المتحف اليهودي في برلين استقالته. الاحتجاج الرسمي الوحيد على “رسالة التأنيب الناتانياهوية” كان بياناً خجولاً من وزيرة الثقافة ولكن تبيّن أنّه مجرّد وسيلة لحفظ ماء الوجه.
أمّا على مستوى المجتمع الأهلي فقد بدأ التذمّر من هذا التدخّل الصهيوني وخاصّة في الشأن الثقافي الألماني. وتذكّر بعض المثقّفين أنّ الكثير من المؤرّخين والفلاسفة اليهود الاسرائيليّين، كالمؤرّخين الجدد وغيرهم، كانوا يمتلكون تلك “المقدرة العجيبة” على التمييز ما بين كلّ من اسرائيل ككيان سياسي واليهود والصهيونية منذ زمن بعيد، بل وكانوا يعبّرون عنها بطريقة تصل إلى وصف جرائم الصهيونية ما قبل وما بعد 1948 كجرائم حرب كما يصفون نظام الأبارتهايد الحالي في دولة الصهاينة ويسمّونه بهذا الاسم، دون أن يتأثّروا بالحملة الماكارثية الصهيونية التي تصفهم بأنهم “يهود كارهون لأنفسهم”، وهذا التعبير هو المكافئ السيكولوجي لتعابير سياسيّة من نوع “يهود ضد الصهيونية” مثلاً. كانت الصيحة المعبّرة عن هذا التذمّر رسالة أرسلها ستّون مثقّفاً المانيّاً بعضهم إسرائيليّون من نوع تسكرمان المذكور أعلاه إلى السيّدة ميركل، أي مركز القرار السياسي في ألمانيا.
تلك الرسالة المؤرّخة في 24/تمّوز-يوليو-/2020 لا تقتصر على المكارثية الصهيونية في المانيا، بل تنتقد السياسة الاسرائيلية مباشرةً. جاء فيها مثلاً: “يثير قلقنا خطر ضمّ الأراضي الفلسطينيّة وإساءة استخدام تهمة العداء للسامية التي تتمّ بخفّة ودون أي أساس واقعي وبلا أسباب منطقية أو قانونيّة بهدف إسكات أي نقد لسياسة الحكومة الإسرائيلية. وهذا القلق يزداد خاصّة عندما يتمّ دعم هذه الحملة ماليّاً وسياسيّاً من خلال مستشار الدولة لشؤون معاداة الساميّة “. وقد لا يكون نافلاً ذكر القشّة التي قصمت ظهر البعير لدى هؤلاء المثقّفين وذكروها في رسالتهم وهي إلحاق التهمة إياها، أي معاداة السامية، بالمؤرّخ الألماني راينر بيرنشتاين. وهو معروف بعمله الدؤوب من أجل السلام، فهو مصمّم محادثات جنيف مثلاً والتي شارك فيها يوسي بيلين وياسر عبد ربه وانتهت بوثيقة جنيف المعروفة.
لكنّ “حركة الصحوة” الجديدة لم تقتصر على ذلك. فقد صدر في هذا السياق كتاب من تحرير فولفغانغ بنز بعنوان “العداء للساميّة كموضوع جدلي”. وهو يحتوي بالإضافة إلى المدخل خمسة عشر بحثاً لكتّاب من داخل المانيا وخارجها. العنوان الفرعي للكتاب يشي بالمنهجيّة النظرية التي تنظم المساهمات المختلفة، وإن كانت لا تحكمها. يمكن ترجمة هذا العنوان الفرعي كالتالي: “المصالح السياسية والحقّ بسلطة التأويل”. وهذا التعبير نفسه نعرفه كقرّاء عرب من سياقات محلّية تتعلّق بالسؤال حول من يمتلك سلطة تأويل النص المقدّس. قد تبعث هذه المقارنة بحدّ ذاتها على الضحك. إذ أنّه يوحي بأن الصراع على تأويل مصطلح “العداء للساميّة” والذي يترجمه العرب أحياناً باللاسامية يكاد يشبه صراعاً على تأويل نص مقدّس. رغم أنّ المنطق البسيط يقول بأنّ المسألة هنا لا تتعدّى خلافاً على تعريف سلوك اجتماعي-سياسي ملموس هو معاداة اليهود. هذه المبالغة التي تقفز عن حدود المنطق جعلت من العداء للسامية نوعاً جديداً من الأيديولوجيا، بمقاربة إبستميولوجية، وجعلت التعامل معها “تعويضاً مفرطاً” بمقاربة تحليلنفسية، وفق تحليل تْسُكّرمان الذي عرضته أعلاه
صدر هذا الكتاب في حزيران من هذا العام، ولقي رواجاً واسعاً جعل دار النشر تصدر طبعة ثانية في آب الماضي، أي بعد شهرين فقط.
الكثير جداً مما جاء في هذا الكتاب يستحقّ النقل إلى القارئ العربي. بعضه يتعلّق باستعراض تاريخ هذا “المرض الذهني الألماني” وبعضه الآخر يستعرض مشكلات حقيقيّة تعرّض لها المثقّفون الألمان بسبب تلك المكارثية الصهيونية الجديدة. وأرجو أن أستطيع في مقالات لاحقة تلخيص بعض تلك المساهمات والتعليق عليها.
لكنّ القارئ العربي لهذا الكتاب لا بدّ أن تستوقفه هذه الملاحظة: لماذا يخلو الكتاب من أية مساهمة فلسطينية أو عربية؟ علماً بأن إحدى المساهمات فيه كاتبة المانية إيرانية الأصل وأنّ مساهِماً آخر كاتب تركي الأصل. ليس ثمة جواب منطقي على هذا السؤال. لكنّنا يجب أن نتفهّم ظروف “الحرب ضد الساحرات” بشكلها الجديد. وخاصّة أن ألمانيا بالذات كانت المسرح الأكبر لتلك الحرب.