كنت أقلِّب في الطريق أفكاري عن الاحتمالات الكامنة وراء استدعائي إلى المخابرات الجوية.
إذا كان السبب هو قولي “لا” في الاستفتاء، فالمشكلة بسيطة. أعرف كيف أصوغ حججي، ولدي الاستعداد لتحمُّل مسؤوليتها حتى لو كانت سنوات في السجن. المهم أن لا أتعرض لإهانة الكرامة أو لتعذيب أكبر من قدرتي على التحمّل.
أمشي كمن هو ذاهب بمحض إرادته إلى كمين لا يعرف ما ينتظره فيه. هاتان القدمان اللتان تحملانني ليستا قدميَّ أنا. أنفاسي ليست على حالها. قلبي أيضاً.
كنت أتوهم قبل الآن أن قلبي ليس جباناً، وها أنذا أقبض عليه متوجس الخفقان، ولا يستجيب لإرادتي.
ما الذي يمكنني فعله لو تكالبوا عليّ؟
تمنيت لو عاد الزمن إلى الوراء عشرة أو عشرين قرناً، حينها كان فارس لفارس، أو فارس لبضعة فرسان، رغم أن الأخلاق حينها لا تحمد فارسين على فارس.
لا بدّ أن اهتمامي بالشعر الجاهلي هو سبب توريطي بهواجس لا معنى لها ولا علاقة لها بالواقع.
حسناً أو بؤساً… ما الذي يمكنني فعله إن سارت الأمور نحو تراجيديا يونانية فادحة النهاية.
لا أدري أيّة خواطر هذه التي سأواجه بها تلك المخاطر.
كنت أفترضها مخاطر وأنا لم أختبرها بعد.
ثقافتي، بمخزونها من الشعر الجاهلي والملاحم اليونانية وبضع مئات من الروايات والقصص وقليل من الكتب الفكرية والفلسفية، مثيرة للضحك، وأنا ذاهب بها وبكامل عتادها، وبقدميّ لا بقدمي غيري، إلى المخابرات الجوية.
راودتني مراراً فكرة الهرب والتخفي، وكنت سرعان ما أطردها لأن ضرائبها باهظة ليس عليّ فقط، وإنما على أهلي أيضاً.
وصلت إلى الباب الرئيسي لمبنى آمرية الطيران، واتجهت كالمضبوع إلى تلك الغرفة الخشبية الصغيرة “الكولبة” الرابضة في مدخل المبنى، ثم سلّمتُ الشخصَ الجالس في داخلها الرسالةَ التي أحملها من قائد الكتيبة.
بعد أن قرأها هزّ رأسه وطلب مني أن أقف عند عمود يبعد أمتاراً عن “الكولبة”.
رأيته يتحدث بالهاتف وهو يحرّك يده اليسرى في كل الاتجاهات، وكثيراً نحو الأسفل.
مرّت في ذاكرتي قصة الشاعر طرفة بن العبد الذي أحِبّ معلَّقته كثيراً، وأحبّ حِكَمه المبثوثة في ثنايا المعلقة، ولكن تبهظني كثيراً حماقته حين حمل تلك الرسالة التي تنطوي على قرار قتله.
حين سلَّمني قائد الكتيبة الرسالة، حذّرني من فتحها، وشدَّد القول على أن مضمونها سرّيّ للغاية، ولا يجوز لأحد أن يفتحها إلا الضابط المسؤول في آمرية الطيران.
أيكون أني أكرر مأساة طرفة بن العبد، وأحمل قرار قتلي بيدي أيضاً؟
دقائق ثم جاء بضعة أشخاص وأخذوني معهم. نزلنا درجاً، ثم نزلنا آخر، ثم وجدتُ نفسي داخل أقبية تفضي إلى أقبية، يتداخل بعضها في بعض أو يتخارج بعضها من بعض.
قرأت كثيراً عن المتاهات، ولكني لأول مرة أراها بعينيّ، وأحسّها في ارتجافات القلق والخوف والتوجّس في داخلي وبين فرائص ظهري.
في إحدى الغرف سئلتُ عن اسمي ومواليدي وغير ذلك من التفاصيل، ثم أخذني أحد عناصرهم إلى الزنزانة رقم 2.
كان الوقت قد صار عصراً، وكنت جائعاً، ولكني خفت إن طالبتهم بالأكل أن أتعرّض إلى شتيمة أو إهانة لا أستطيع تحمّلها. صحيح أني غير قادر على مواجهتهم والردّ على شتائمهم، ولكني أعرف نفسي وردود أفعالي حين أتعرض لإهانة لا أستطيع ردها. قد أطعن نفسي بأي شيء تصله يدي، فإن لم أجد فلا أضمن أن لا أضرب رأسي بالجدار، ولتكن ما تكون النتيجة.
مرّ ذلك اليوم بدون غداء وبدون عشاء.
لا بدّ أنهم يتعمدون تجويعي لسبب ما.
طول الزنزانة متران وعرضها مئة وعشرون سنتيمتراً على وجه التقريب، ولكن ارتفاعها شاهق إلى حدّ يشعركَ كما لو أنك في قاع بئر شديدة العمق.
ليس هناك سرير ولا فراش ولا “بطّانيّات” ولا أي نوع من الأغطية.
تبدو الزنزانة كأنها بناء على “العظم” في انتظار “التشطيبات” الأخيرة.
ورغم أن الوقت صيف، إلا أن بلاط الزنزانة كان بارداً. لم أستطع النوم بسبب البرد، وأيضاً بسبب الخوف.
في الصباح فُتِح باب الزنزانة، ودخل شاب يبدو وسيماً ومعه طعام الفطور. سألني عن اسمي واسم مدينتي وتهمتي وعملي. أبلغته باختصار، فقال لي: حمصي يا عرص.. وأنا أيضاً حمصي.. ولكن والله لخلّيك تنسى حمص وحجارها، ثم صفعني وخرج.
بعد ساعات جاء سجّان وأخذني إلى غرفة التحقيق.
وراء الطاولة الرائد علي مملوك، ويقف إلى جانبه الملازم أول جميل حسن، وحولهما عدد من الجلادين ينتظرون الأوامر.
علي مملوك ممتلئ ومتجهم دائماً، وتومض عيناه السوداوان الواسعتان بالريبة وشهوة الافتراس، في حين أن جميل حسن رشيق القامة، خفيض الصوت، ولا يبدو على ملامحه أي نزوع عدواني أو انتقامي.
قال لي المحقِّق علي مملوك: هاتِ حدِّثنا من أوّل تفجير قمتَ به إلى آخر تفجير تخططون له.
اللعنة… لم تكن القصة إذن تلك الـ “لا” في ذلك الاستفتاء الملعون، ولا أحد يعرف إلى أين ستفضي الأمور الآن.
في تلك الفترة حدثت تفجيرات في أماكن عديدة من دمشق، بل حدثت حتى في معرض دمشق الدولي.
علي مملوك لم يعجبه صمتي أو تلكؤي في الرد على سؤاله. نادى على أحد ما، فجاء شخص ذو عضلات مفتولة، وفي وجهه سيماء تجعله أقرب إلى حيوان مفترس منه إلى الإنسان. قال له المحقق: قف وراء هذا الكلب، يقصدني، وكلما رأيتَه لا يجيب عن سؤالي أو يكذب في إجابته، أعطِهِ.
أعاد المحقق سؤاله عن التفجيرات، وقبل أن أكمل جملتي المتلكئة بنفي علمي، شعرت بكفٍّ مبسوطة تهوي بثقِل شديد ما بين كتفيّ، لأجد نفسي مسدوحاً على الأرض.
أعيدَ السؤال وببساطة وجدت نفسي مسدوحاً ثانيةً.
لم أكن أشعر بالألم. كنت أشعر بالخزي. كيف لشخص أن يسدحني أرضاً كما لو أني لا أمتلك ساقين أو قدمين.
قرَّرت أن أتماسك قدر الإمكان في المرة الثالثة.. على الأقل ينبغي أن لا أقع على الأرض.
ولكني لم أفلح.
كان الجلاد وحشاً خرافياً وأنا أشبه بفريسة لا حول لها ولاطَول.